شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الديمقراطية عند العرب
الأستاذ إبراهيم حداد
قبل أن نأخذ في عرض هذا الكتاب القيّم عن الديمقراطية عند العرب.. لا بد أن نسأل أولاً: ما هي الديمقراطية في معناها الحقيقي؟
والجواب على ذلك يمكن أن يكون في أوجز العبارات، بعيداً عن التفاصيل والمصطلحات، إنها -أي الديمقراطية- ليست سوى منهاج للحكم، يعتمد على الشورى، ويستهدف أول ما يستهدف: العدالة والمساواة.
والديمقراطية من حيث هي.. ما أكثر ما نقرأ عنها.. سواء في أبحاث أو كتب موضوعة أصلاً في اللغة العربية، أو منقولة إليها.
غير أن الغريب في أمر الديمقراطية، أو المتحدثين عنها أن الكثرة منهم لا يخرجون في أقوالهم عن مجرد ترديدهم للزعم القائل، إن الغرب، والغرب وحده، هو المصدر الوحيد للديمقراطية.
وليس المجال هنا مجال مناقشة.. غير أنه لا بد من القول إنه مع ما في هذا الزعم من مخالفة للحقيقة.. مع ذلك يتجاهل من يرددون هذا الادعاء، أن الديمقراطية في إطارها الغربي.. ما زالت بعيدة كل البعد، عن المعنى الحقيقي للديمقراطية.
الديمقراطية -كما نعرف- ليست مجرد اسم.. أو مجرد زعم.. أو مجرد ادعاء..
والديموقراطية -أيضاً- ليست هي أن تمارس دولة من دول الاستعمار عدالتها في مكان دون آخر.. أو أن تراعي أي تمييز عنصري بين الأجناس التابعة لها، وفي الوقت نفسه تقول: إنها دولة ديموقراطية.
إن الديموقراطية في معناها الشامل العميق لا يمكن تلخيصها سوى في كلمة واحدة، أو شعار واحد: هو شمول العدالة، وشمول المساواة.
ديموقراطية العرب حقيقية
ولست أشك في أننا بعد أن نمضي في عرض هذا الكتاب إجمالاً، سوف يرى القارئ في ضوء الوقائع -لا بمجرد الكلام- أي ديموقراطية كانت "ديموقراطية العرب والإسلام".
في الفصل الأول يتحدث المؤلف عن الديموقراطية في كل من "أثينا" و "روما" والعصور الوسطى.
أما الديموقراطية عند العرب، فيبدأ حديثه عنها في الفصل الثاني من الكتاب ثم يتابع حديثه إلى آخر الفصل الرابع وهو آخر الفصول.
وكتمهيد للبحث.. يشير في عبارات قصيرة إلى ما كانت عليه ديموقراطية العرب قبل ظهور الإسلام.. ويذكر فيما يذكره عن العرب الجاهلين أنهم مارسوا نوعاً من الديموقراطية البدائية.
الديموقراطية في الإسلام
ثم يقول: بيد أن الديموقراطية ظهرت بشكل جديد في شبه الجزيرة بعد ظهور الإسلام، وتوطدت أركانها على أسس من العدل الاجتماعي والحرية والمساواة في الحقوق بين الناس جميعاً، والشورى، والتضامن بين الأفراد، على اختلاف الطوائف والطبقات، فالمسؤولية الفردية التي هي دعامة الديموقراطية الأولى تحددت بالآيات الكريمة: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (الأنعام: 164) أي أن الإنسان لا يحاسب بذنب ارتكبه آباؤه وأجداده، أو بذنب وقع قبل ميلاده؛ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (البقرة: 134) وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (النجم: 39) و كُلُّ امْرِئِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (الطور: 21)..
وفي تفصيل المسؤولية الفردية، يقول الرسول الكريم صلوات الله عليه: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته.
وفيما خص المساواة في الحقوق فإن القرآن الكريم صريح في ذلك: يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13) والتقوى هنا تشمل المساواة المطلقة بالحقوق، والآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة كثيرة في هذا الموضوع.
أما الشورى في الحكم فقد وردت صريحة واضحة في قول القرآن الكريم: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (آل عمران: 159)..
وفيما خص التضامن بين الأفراد في دفع الأخطار والتعاون على ما فيه أمن...، فواضح في الآيات القرآنية الكريمة: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً (الأنفال: 25) و لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا (البقرة: 286) و لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة: 105).
وقد طبقت هذه المبادئ تطبيقاً تاماً في عهد النبي الكريم -صلوات الله عليه- وفي عهود الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- فارتفع شأن الإنسان في المجتمع، وأضاء النور، نور الحرية والإخاء والمساواة في العالم. في ليل الاستبداد المدلهم الذي كان مسيطراً على أكثر الشعوب الغربية والشرقية في ذلك العصر.
والشيء العظيم البارز في الديموقراطية العربية التي جاء بها الإسلام: الترشيح والمبايعة.. وكان الخليفة بعد مبايعته، يعاهد الناس على سنة الحكم.. وهذا يشبه اليمين الدستورية التي يقسمها اليوم الرؤساء قبل تسلمهم مهام منصبهم الرفيع. ويروى عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قوله للناس بعد مبايعته: "فأعينوني على ذلك بخير، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم" وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للناس: "لكم عليَّ على ألا أجتبي شيئاً من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلاّ من وجهه، ولكم عليَّ إذا وقع في يدي ألاّ يخرج مني إلاّ في حقه، ولكم عليَّ أن أزيد في عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله، وأسد ثغوركم، ولكم عليَّ ألاّ ألقيكم في المهالك، ولا أجمركم في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم". وقد شرح هذه القاعدة في الحكم بقوله: "أمير المؤمنين أخو المؤمنين، فإن لم يكن أخاً للمؤمنين فهو عدوهم" وهذا لعمري أدق وأوضح تفسير للمبادئ الأساسية التي ترتكز عليها الديموقراطية.. ومن هنا كان الإسلام مصدراً للديموقراطية الصحيحة في الشرق، مارسها الخلفاء الراشدون ممارسة عملية صريحة فاستطاعوا بواسطتها أن يبسطوا سلطانهم، ليس على الجزيرة العربية فحسب، بل وعلى أكثر من نصف العالم القديم أيضاً من شاطئ الأطلسي غرباً إلى قلب الصين شرقاً، ومشارف أوروبا شمالاً.
ديموقراطية العرب ودورهم في التاريخ
ويجمع علماء الاجتماع والمؤرخون على القول بأنه لولا المبادئ الديموقراطية الصحيحة التي جاء بها الإسلام، ونزلت آيات بينات في القرآن الكريم، لما كان في مقدور العرب أن يقوموا بأي دور حضاري في التاريخ.. فالحرية الفردية التي كرمها القرآن الكريم، وأقام لها الحدود، ونظمها تنظيماً دقيقاً يتفق مع مصلحة الجماعة كان قد قضى عليها الطغيان والاستبداد في أوروبا والشرق، فجاء النبي العربي العظيم صلى الله عليه وسلم يعيد إليها مقامها واحترامها وقدسيتها.. وإذا كانت بعض بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط قد نعمت بشيء من الديموقراطية في العصور الوسطى فالفضل في ذلك يعود ولا ريب، إلى ما كانت تلك البلدان قد اقتبسته من نظم الحكم التي كان العرب يطبقونها في الأندلس وشمال إفريقيا وغيرها.
الشورى أساس للنظام البرلماني
ومما لا شك فيه أن نظام الشورى الذي فرضه الإسلام في الحكم كان الأساس للنظام البرلماني الحالي.
وفي التطبيق العملي للحكم في صدر الإسلام، وعهد الخلفاء الراشدين دليل قاطع، وبرهان ساطع على أن العرب نعموا في ذلك العصر بديموقراطية واسعة تفوق إشراقاً وعظمة الديموقراطية التي نراها الآن في كثير من البلدان الشرقية والغربية.
وليس لنا إلاّ أن نطالع بإمعان وتدقيق ما كان يقوم به عمر بن الخطاب لمعرفة الوجه الصحيح للديموقراطية التي كانت سائدة في عصره، فهذا الخليفة العظيم الذي ساوى بين الناس جميعاً، كبيرهم وصغيرهم، قويهم وضعيفهم، قريبهم وبعيدهم، علم العالم كله كيف يجب أن يكون الحكم الديموقراطي الصحيح، وكيف يجب أن يعيش الناس أحراراً في المجتمع، أخوة متساوين بالحقوق والواجبات.
أما حادثة عمر بن الخطاب مع عمرو بن العاص فاتح مصر فتعد من الأدلة القاطعة على أن الديموقراطية في صدر الإسلام بلغت من السمو والرفعة مقاماً لم تصل إليه في عهد "أثينا" قديماً، ولا في عصرنا الحاضر.. وقد أثبتت هذه الحادثة وغيرها أن العرب في ذلك العصر الذهبي فهموا الديموقراطية فهماً عميقاً صحيحاً، وطبقوها في حياتهم تطبيقاً خالياً من الشوائب، فلم يكتفوا بظواهرها، ولم يحاولوا الخروج عن القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها.. ألا وهي الحرية الفردية، والإخاء والمساواة بين الناس، فتوطدت بذلك أركان الدولة التي شيدوها، وتحرر الشرق من الاستعمارين البيزنطي والفارسي ولولا الفتن والمطامع، والشهوات والغزوات، وظهور تيارات سياسية مختلفة ولا سيما في آخر العصر العباسي، لما انطفأ نور الديمقراطية من البلاد العربية، وخبأ ضوؤها حقبة من الزمن.
الغزو المغولي قوض دعائم الديموقراطية
كذلك كانت غزوة المغول للشرق وتقويضهم أركان الدولة العربية سبباً في القضاء على الديموقراطية التي ازدهرت أجيالاً بعد ظهور الإسلام.
ومما يلاحظ بفخر وإعجاب أن الدعوة الإسلامية التي وطدت أركان الديموقراطية، وطبعت المجتمع بطابعها، مع أنها دعوة دينية سامية تستهدف خلاص النفوس وتقريب الناس من الله والقضاء على الوثنية التي هي عنوان الجهل والجور والظلم والطغيان، لم ترغم البشر على اعتناقها بالقوة، كما أنها لم تضطرهم إلى هدر حقهم في الاختيار، بل دعمت هذا الحق بما فسحت من مجالات أمام غير المسلمين: والعيش بسلام وطمأنينة، وعندما سارت الدعوة الإسلامية في الجزيرة، وامتد سلطانها إلى الأطلسي غرباً، والصين شرقاً، وأوروبا شمالاً، شعر غير المسلمين الذين كانوا يعيشون في هذه المناطق الواسعة من الدنيا بأن حريتهم مصونة، وأن الدولة مسؤولة عنهم، كما هي مسؤولة عن المسلمين.
ويروى عن النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليه قوله: ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا خصمه يوم القيامة، وكان عمر بن الخطاب يكتب إلى عمرو بن العاص، يقول له: "إن معك أهل العهد، فاحذر يا عمرو أن يكون رسول الله خصمك".
فالمجتمع في عهد النبي الكريم صلوات الله عليه، وعهد الخلفاء الراشدين كان مجتمعاً ديموقراطياً صحيحاً، يساوي بين الناس جميعاً، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، وبفضل الحرية التي ارتكزت عليها الديموقراطية العربية، استطاعت الشعوب غير الإسلامية العيش في ظل الحكم الإسلامي بأمان وسلام.. وقد نبغ الكثيرون من غير المسلمين في العلوم والآداب بفضل الحرية التي كانوا يتمتعون بها.
فبفضل الديموقراطية العربية التي شع نورها في صدر الإسلام أرست الحرية الفردية قواعدها على أسس وطيدة، وكان القرآن الكريم قد دعم هذه الحرية بآيات بينات ضمنت للإنسانية مجال النمو والازدهار، وسهلت أمام الشعوب سبيل التقدم والرقي.
العدل الاجتماعي
ومن أهم مظاهر الديموقراطية العربية، تحقيق العدل الاجتماعي.
فالنظام الديموقراطي الذي فرضه الإسلام قضى على الاستغلال في الاستثمار، وقدس حق العمل وأوجد نوعاً من الانسجام والتوازن بين الدخل الفردي ومتطلبات المجتمع، وحرم الربا باعتباره نتيجة استغلال الإنسان للإنسان: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران: 130)، وقضى على الاحتكار، ومنع التلاعب بالأسعار.. "من احتكر طعاماً أربعين يوماً يريد به الغلاء فقد برئ من الله وبرئ الله منه".. فالحث على العمل للحصول على الرزق حفظ للديموقراطية طابعها الاجتماعي الصحيح، ودفع بالناس نحو المجتمع الأفضل والأمثل، وحال دون توسيع شقة الخلاف بين الأغنياء وهم القلة، وبين الفقراء وهم الكثرة، ولكن هذه الأسس لم تثبت طويلاً.. بعد عهد الخلفاء الراشدين، فكان تجاهلها والعبث بها من أسباب انهيار الديموقراطية في الشرق..
ولكي لا يتقاعس العرب عن الكد في سبيل الرزق مما يشوه وجه الديموقراطية، ويبعدها عن الهدف الإنساني الذي ترمي إليه دأب الخلفاء الراشدون في محاربة الكسل في صفوف الشعب.
ويبدو من هذا أن المساواة التي ارتكزت عليها الديموقراطية في ذلك العصر كانت تامة.. وما كان لأي إنسان أن يحصل على ما يحتاج إليه من أسباب العيش إلاّ بكده وجده.
التطور نحو الكمال
والشيء العظيم الذي امتازت به الديموقراطية العربية في صدر الإسلام إفساحها المجال أمام الشعوب للتطور..
وقد ظهر المجتمع العربي الأول في صدر الإسلام فريداً من نوعه بين المجتمعات التي كانت تؤلفها الشعوب الشرقية والغربية في ذلك العصر، وارتفع مستوى الفرد فيه إلى المقام الأسمى..
وكان الدكتور "لوبون" يردد في كل كتاباته عن الحضارة "إن التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب" (1) لأنهم كانوا في كل فتوحاتهم يطبقون النظم الديموقراطية في الحكم تطبيقاً صحيحاً، فساووا أنفسهم بالشعوب التي تغلبوا عليها، وجعلوا الحرية والإخاء والمساواة شعارهم في إدارة الشؤون العامة.
ومما لا ريب فيه أن التنظيم الديموقراطي الذي جاء به الإسلام كان قد احتاط للأخطار التي تهدده فشدد على وجوب التضامن والتعاون لصون كيان المجتمع وحفظ المصلحة العامة، وقد أدى ذلك إلى تشييد صروح الحضارة.
والمعروف الآن أن الشعوب العربية تتطلع بشوق ولهفة إلى الأمام.. إلى اليوم الذي تستطيع فيه أن تكون في مقدمة شعوب الأرض ديموقراطية ورقياً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :663  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 43 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج