شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كشف اللثام عن رباعيات الخيام
الأستاذ أبو النصر مبشر الطرازي الحسيني
لعلّ القضية التي يثيرها -هذا الكتاب -على النحو الذي سوف نراه- قد لا تكون غريبة في بابها.. بعبارة أخرى أن هذه القضية -وهي قضية تزييف أدبي صارخ- ليست -كما يعلم الباحثون- أول قضية تزييف، أو أول قضية افتراء كما يجب أن توصف!!
إن القضية في هذا الكتاب.. هي -كما يقول العنوان- قضية رباعيات شاع أمرها وذاع! ونسبت إلى غير قائلها.. وهو عمر الخيام العالم الرياضي الفلكي المشهور..
وقد عرف الناس رباعيات الخيام منذ أن نشرها في لندن باللغة الإنكليزية عام 1856م "أدوارد فتيزجرالد" الشاعر الإنكليزي..
وما لبثت أن ظهرت -وفي أسرع وقت- في مختلف اللغات الغربية والشرقية..
وفي عام 1912م نشر وديع البستاني في مصر أول ترجمة لها باللغة العربية.. ثم تتابعت بعدها ترجمات محمد السباعي، وأحمد رامي، والزهاوي، وأحمد حامد الصراف والصافي النجفي وعبد الحق فاضل وغيرهم.. وكانت هذه الترجمات تختلف من حيث العدد.. كما ترجم بعضها نثراً، وبعضها ترجم عن اللغة الفارسية، ويبدو لي أن هذا الكتاب هو الوحيد في اللغة العربية -على الأقل- الذي كشف اللثام عن رباعيات الخيام..
والغريب أنه ما من صحيفة أو مجلة أدبية في العالم العربي.. نوهت به عند ظهوره؛ أو أشارت إليه؟
هذا مع أن البحث (موضوعي) والمؤلف باحث معروف له مكانته والقضية التي أثارها "خطيرة" تستوجب العناية، وتستدعي الاهتمام!
فهل كان هناك "سر" وراء هذا الصمت العميق؟!
* * *
نعم، إن المؤلف سيلمح لنا من خلال أحاديثه.. بما يوحي بالسر.. وسوف يذكر: لماذا قام الغربيون بترجمة الرباعيات؟!
وسوف يشير -وهنا بيت القصيد كما يقولون- إلى يد التبشير والاستعمار في ترجمة الرباعيات!
بل سيقول ويردد: لم يكن اهتمامهم بالرباعيات، وتمجيدهم لشخصية الخيام "لسبب مكانته الرفيعة في العلوم الرياضية وغيرها، وهي التي برع فيها الخيام" وإنما كان كل هذا الاهتمام لأغراض سياسية.. إلى آخره..
أغراض وأهداف لا نراها، على أي حال، تختلف أي اختلاف عن أغراضهم وأهدافهم من وراء غزوهم الفكري المستمر للعالم الإسلامي.
* * *
يقول المؤلف: "إن أكثر الباحثين من كتاب الشرق والغرب عن حياة الحكيم عمر الخيام" أو "الخيامي" النيسابوري؛ عرفوه عن طريق ما نسب "أو نسبوه إليه" من رباعيات مزعومة، عبروا عنها بـ "رباعيات الخيام" ووصفوها بـ "فلسفة الخيام".. فمنهم من قال إنه أبيقوري النزعة.. ومنهم من رأى أنه إباحي، وأنه مستهزئ بأحكام الإسلام وتعاليمه، كما طعن فيه بعض الناس بأنه دهري، وزعم بعض أنه تناسخي، وظن بعض أنه باطني "ولا أدري" وتشاؤمي.. وجبري.. وأدعى آخر "أخيراً" أنه ثائر على كل شيء: على الدين، على الأخلاق، بل على العقل أيضاً.
وهكذا ذهبوا "من شرقيين وغربيين" في شأن ذلك الحكيم كل مذهب.. وليس لهم في ذلك كله دليل، إلاّ تلك الرباعيات المزعومة، التي نسبت "أو نسبوها" إلى شخصيته البريئة، وظنوا، أو تصنعوا في الظن، أنها من الحكيم عمر الخيام النيسابوري، ومقولاته وآثاره، وفلسفته وحكمته التي نسجها بقريحته، فكانوا يحكمون عليه بما يحكمون، مستندين إليها، ومعتمدين عليها، كانت تلك الرباعيات وصلت إليهم منه بسند صحيح متصل لا يبقى وراءه أي شك ولا يقبل دونه أي تردد..
ونرى طائفة من الأدباء المعاصرين، الذين درسوا تلك الرباعيات وترجموها من أصلها الفارسي، أو ترجمتها الإنكليزية، يعتقدون صدورها عن الحكيم النيسابوري اعتقاداً، كأنهم رأوه رأي العين وهو ينشئها في خلوته الخ.. الخ..
وزادوا في جرأتهم في الحكم عليه -مع الأسف- إذ ادعوا أنها فلسفة الخيام، فكأنه لم يكن للحكيم النيسابوري -بعدما اعترفوا بأنه كان حكيماً عظيماً- فلسفة إلاّ هذه.. وقد تركوا الواجب، وهو التفكير الصحيح قبل الحكم في الموضوع، كما تستوجبه نزاهة البحث، وتستلزمه أمانة العلم في خدمة الحقيقة والتاريخ..
... وكان عليهم أن يعرفوا الحكيم النيسابوري تحت ضوء الفحص العلمي الصحيح! والنقد التاريخي الموثوق، معتمدين على آثاره ومقولاته التي ثبتت عنه برواية الثقات من المؤرخين.. كما كان في إمكانهم أن يهتدوا إلى انتحال تلك الرباعيات بدلائل كثيرة، ولا سيما بالتناقض بين معانيها واتجاهاتها التي لا تخفى على الباحث، وكان في وسعهم أيضاً تطبيق تلك الرباعيات.. على تلك الآثار الثابتة، والمقولات الصحيحة حتى يظهر الموضوع من الصحيح، ويتميز الخبيث من الطيب، فيثبت ما يمكن من الرباعيات أن يكون له، وما لا يمكن أن يكون له، وفي النتيجة تنكشف الحقيقة كما هي..
هذا ما كان من تفريط الباحثين، ومن بعدهم من الكتاب والمترجمين، ثم ظن الشرقيون أن تلك الرباعيات.. حقيقة، ولم يترددوا في أنها "رباعيات عمر الخيام" ودام هذا الظن مدة مائة سنة تقريباً، وكان هذا الظن الباطل منبعثاً من سببين اثنين:
السبب الأول: تفريط الباحثين والكتّاب والمترجمين، لأنهم بتفريطهم هذا أوقعوا عامة الشرقيين في هذا الظن..
والسبب الثاني: اعتماد الشرقيين على ترجمة "إدوارد فيتزجرالد".. لتلك الرباعيات التي قام بها سنة 1856 ميلادية، ونشرها في الغرب والشرق على أوسع نطاق..
... نعم إن الشرقيين وقعوا -أو أوقعوا- في هذا الخطأ، إذ ظنوا هذا الظن لهذين السببين، وانخدعوا -أو خدعوا- فاعتقدوا أن تلك الرباعيات هي فلسفة الخيام كما صورها المصورون.. ولم يفطنوا إلى ما كان هناك من أغراض مذهبية، أرادها المغرضون، ومكايد استعمارية كادها المستعمرون..
من هو عمر الخيام؟
اسمه عمر، وكنيته أبو الفتح، ولقبه غياث الدين، ووالده إبراهيم النيسابوري، وشهرته الخيام "أو الخيامي" لاشتغاله أو والده بهذه المهنة، وقد اتفق أكثر المؤرخين في أن عمر الخيام ولد في نيسابور من أعمال خراسان في الشطر الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، وتوفي قبل انتهاء الربع الأول من القرن الثاني عشر.
* * *
ونشأ الحكيم عمر الخيام في مسقط رأسه نيسابور، وتربى على يد أستاذه الكبير المعروف بالإمام الموفق النيسابوري الذي كان من أجل علماء فارس (إيران) في عصره..
.. واشتهر عمر الخيام بفطنته وذكائه إبان تعلمه بين أقرانه من المتعلمين حتى تخرج بالتفوق والبراعة في كل علم من العلوم التي درسها، ولا سيما علم الفلك، ولهذا نجد أكثر المؤرخين يصفونه -فيما يصفون- بالحكيم الفلكي..
... وكان لعمر الخيام مكانة عظيمة لدى الحكماء، وعند العلماء في عصره، وملوك زمانه، فكانوا يعدونه في الحكمة ثاني "ابن سينا"..
وكان السلطان جلال الدولة ملكشاه السلجوقي ينزله منزلة الندماء، وكان الخاقان شمس الملوك في بخارى يعظمه غاية التعظيم، ويجلسه معه على سريره.. هذا مع ما وصفوه بحسن الخاتمة بعدما عاش في الزهد والتقشف..
آثاره.. ومؤلفاته
.... وأما آثار الحكيم عمر الخيام النيسابوري ومؤلفاته، فقد ذكرها المؤرخون في الشرق والغرب وأشادوا بذكرها، وذلك نظراً لقيمتها -وإن قلت عدداً- منها: رسالة في الجبر والمقابلة -بالعربية- وهي التي قام بطبعها مع ترجمتها إلى اللغة الفرنسية مسيو (ويكيه)، وذلك سنة 1851 الميلادية في باريس.
وقال بروكلمن بشأنه في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية": كانت دراساته في علم الجبر أول محاولة ناجحة لحل المعادلات التكعيبية، وقد ميّز منها ثلاث عشرة معادلة، ولم يحلها حلاً جبرياً فحسب، بل حلاً هندسياً أيضاً.
ومنها رسالة في شرح ما أشكل من مصادر كتاب إقليدس، وهي محفوظة في مكتبة ليدن بهولندا.
ومنها رسالة في الوجود -أو في الأوصاف والموصوفات- وهي بالعربية.
ومنها رسالة في الكون والتكليف، وقد ألفها جواباً لسؤال وجهه إليه الإمام القاضي أبو النصر محمد بن عبد الرحيم النسوي -وهو من كبار معاصريه وتلميذ الشيخ الرئيس- عن حكمة الله في الخلق، وتكليفه بالعبادة وذلك سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة هـ.
ومنها رسالة "روضة القلوب" بالفارسية، وهي رسالة خطية موجزة كتبها عمر الخيام لابن نظام الملك الوزير، وله أيضاً بضع جداول فلكية في النجوم، ورسائل أخرى في المساحة والمكعبات، تدل على تضلعه في العلوم الرياضية.
رباعيات الخيام
هذا.. وأما "رباعيات الخيام" التي عدها حفنة من رجال الغرب، وجماعة من كتّاب الشرق من آثار الحكيم النيسابوري، بل زعموا أنها أهمها منزلة.. وأغلاها قيمة.. وعبروا عنها بـ "فلسفة الخيام" فليست من الحقيقة في شيء.. فإنها أثر موهوم توهموه عليه، وأمر خيالي تخيلوه ونسبوه إليه، وبالإجمال شيء لم يثبت عنه في الحقيقة الواقعة.. اللَّهم إلاّ ما يتفق من تلك الرباعيات مع مكانة الحكيم النيسابوري، ومبدئه الحقيقي.. فإنه يمكن أن يكون منه، مع عدم اليقين بثبوته عنه، بناء على أن ساحة الإمكان واسعة، وأما الثبوت فإنه يستوجب الأدلة.
فقد اتضح من أقوال المؤرخين الأقدمين.. أن عمر الخيام كان عالماً كبيراً، وحكيماً فلكياً، ورياضياً عظيماً، وفقيهاً ومقرئاً للقرآن.. قبل أن يكون شاعراً، ولم تسجل في تلك الكتب التاريخية الموثوقة أية رباعية من تلك الرباعيات المستنكرة.. التي أسندوها إليه.. وشهروه بها.. ولم يشر النظامي العروضي السمرقندي -مثلاً- فيما ذكره عن عمر الخيام -أو الخيامي- إلى أنه كان شاعراً، أو كانت له رباعية ولو واحدة..
.. نعم، لم تأت إشارة ولا تصريح في الكتب التاريخية التي يعتمد عليها أن عمر الخيام كان شاعراً أو كانت له هذه الرباعيات المزعومة، التي وصفناها بتلك الأوصاف التي سبقت آنفاً، وصفاً بالحقيقة والواقع.
.. ومما نسب إلى عمر الخيام من الرباعيات ما سمعته من بعض أدباء إيران المعاصرين، مع ما وجدته في بعض الدواوين، وكتب الباحثين من رباعيات لا بأس بها -ويمكن- أن تكون من مقولاته -لأن ساحة الإمكان واحدة مع عدم اليقين بثبوتها- لعدم مخالفتها لمبدئه الحقيقي، ومكانته العلمية، وعقيدته الإسلامية، وهي أربعون رباعية وقد أورد المؤلف نصوصها الفارسية مع ترجمتها العربية..
ومن هذه الرباعيات على سبيل المثال:
يا عالم أسرار ضمير كل عبد،
ويا من يأخذ بيد كل عبد في حالة عجزه
يا رب وفقني بالتوبة.. وأقبل معذرتي
يا معطي التوبة، وقابل عذر كل عبد!
أرى فوق فراش التراب أناساً نائمين!
وأرى تحت الأرض أناساً مختفين!
وكلما أنظر إلى صحراء العدم..
فإني أرى أناساً ذاهبين غير آيبين
اشتهار عمر بالرباعيات
كان اشتهار الخيام، قبل القرن التاسع عشر الميلادي، بعلومه، ولم يكن بشعره.. وإنما اشتهر بالشعر والرباعيات في القرن التاسع عشر.. والحقيقة التي أثبتها التحقيق الصحيح، وأنتجها البحث السليم في هذا الباب هي أننا لا نجد أي سند تاريخي، وأي دليل علمي موثوق يثبت صدور تلك الرباعيات التي تضمنتها "رباعيات الخيام"، ولا سيما الرباعيات المستنكرة عن عمر الخيام، كما لا نجد أي معاصر لعمر الخيام، أو متقارب العهد منه، أو أي مؤرخ من القدماء يقول: إن عمر الخيام كان قائل الرباعيات.. فضلاً عن أن يقول إنه قائل المستنكرات..
.. وإن خلاصة ما تدل عليه الأدلة التاريخية، والتحقيقات العلمية، التي قمت بها في موضوع "رباعيات الخيام" مع البحث الدقيق السليم حول مكانته العلمية، ومبدئه الحقيقي.. هو انقسام الرباعيات إلى رباعيات لا بأس بها.. "ويمكن" أن تكون من مقولاته.. وإلى رباعيات مستنكرة.. لا تتفق مع مكانته ومبدئه الذي ثبت عنه..
ولو كانت للخيام رباعيات مثل هذه الرباعيات المستنكرة.. لما سكت عن روايتها المؤرخون الأقدمون، ولا سيما المعاصرون له، بل قاموا بمهمتهم خدمة للحقيقة والتاريخ.
.. ومما يذكر هنا أنه لا توجد أية نسخة مدوّنة لرباعيات الخيام، إلاّ ما دون بعد مرور ثلاثة قرون ونصف على وفاته.. فإن أقدم نسخة تحتوي على رباعيات الخيام إنما هي النسخة المعروفة بنسخة بودين المحفوظة في أكسفورد كما نص عليه الباحثون، وقد دونت بعد مرور تلك المدة المديدة من وفاة الخيام، مع أنهم لا يعرفون مصدر هذه النسخة، الأمر الذي يدل على إمكان وضعها إلى حد كبير..
ترجمة الرباعيات إلى اللغات الحية
ترجمت هذه الرباعيات المزعومة إلى اللغات الحية، أعني لغات الغرب، ولا سيما الإنكليزية ولغات الشرق أعني الأردية.. والتركية والعربية، كما ألفت عنها وعن صاحبها المزعوم مؤلفات وكتبت مقالات في الشرق والغرب.
.. ثم ترجمت هذه الرباعيات للشاعر والكاتب الإنكليزي "فيتزجرالد" وكانت ترجمته لها سنة 1856 أو سنة 1859م ويزيد عدد ما ترجمه فيتزجرالد من هذه الرباعيات على سبعين رباعية.. ولكن ترجمة فيتزجرالد لم تكن طبق الأصل.. لأنه لم يتقيد باتباع ألفاظ الرباعيات ومراميها كما يجب وينبغي، بل تصرف فيها كثيراً.. وقد نظمها في رباعيات إنكليزية، وبهذا بعد فيتزجرالد بعداً كثيراً عن الأصل الفارسي.
* * *
.. ولما انتشرت تراجم الرباعيات باللغات الغربية، ولا سيما ترجمة فيتزجرالد.. في أنحاء الشرق وطار صيتها بين الأدباء الشرقيين، من العرب والترك وأهل الهند.. اندفعوا نحو مطالعتها واهتموا بحياة صاحبها.. وكان عدد كبير من الشبان المثقفين أكثر إعجاباً بتلك الرباعيات.
* * *
وأننا إذا جردنا عن شهرة تلك الرباعيات.. نظرنا إلى الرباعيات، وما فيها من معانٍ.. وطبقناها على ما أثبته المؤرخون من مؤلفات الحكيم عمر الخيام النيسابوري ورسائله وآثاره وأقواله.. نجد أكثرها الساحق -إن لم نقل كلها- لا ينطبق على مبدأ الخيام الحقيقي ومسلكه الذي سلكه في أدوار حياته ودعا الناس إليه، بل نقول، بكل جرأة وثقة، بموضوعيتها واختلاقها أو نقول إنها لخيام آخر غير الحكيم عمر الخيام النيسابوري..
* * *
.. وثبت عن الحكيم عمر الخيام -برواية الثقات- أنه قال:
أصون عن الفحشاء جهراً وخفية.. عفافاً، وإفطاري بتقديس فاطري..
إن التاريخ الموثوق به يروي لنا أن الحكيم عمر الخيام.. كان عالماً بالفقه، ومقرئاً بارعاً للقرآن.
فكيف يتفق هذا مع ما ينسب إليه في تلك الرباعيات المزعومة..
.. ومما يذكر هنا أن للخيام تصريحات في رسالته "الكون والتكليف"، تدل على عقيدته بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتمسكه بتعاليم القرآن المجيد، وامتثاله للشريعة المحمدية.. الأمر الذي يبرئه مما نسب إليه.. من تلك الرباعيات المستنكرة.. تبرئة لا يبقى بعدها مجال للبحث عند المنصف.
* * *
... ومما يذكر هنا أن مذهب الباطنية في عهد الخيام قد أخذ في نشر مبادئه في أنحاء إيران وذلك عن طريق زعامة حسن الصباح بعد اعتناقه هذا المذهب بمصر وعودته منها.. ومن المعلوم أن رجال هذا المذهب ودعاته توسلوا بكل وسيلة ممكنة لبث هذه الدعوة وتدعيمها.. فعليه يظهر أن دعاة الباطنية قد توسلوا -فيما توسلوا به- بإنشاء رباعيات تتضمن مبادئ الباطنية، ووضعها باسم الخيام بعد وفاته، وإنشادها في المحافل العامة.
ذلك لأن البيئة كانت إسلامية في ذلك العهد بإيران -كما تزال إسلامية إلى الآن- وعليها ملك مسلم يحكم بما أنزل الله، فلم يكن من الممكن نشر هذه المبادئ في صيغ الخطب أو قوافي الأشعار وأوزانها عن أسماء الدعاة أنفسهم.. اللَّهم إلاّ في الخفاء وبين الجدران.. وإلاّ لقتلوا تقتيلاً، أو أخرجوا من البلاد.. وذلك تطهيراً لأرضها الإسلامية من منابع الإلحاد، ومناهل الفساد.
فاستغلوا شخصية ذلك الحكيم.. ونشروا مبادئهم باسمه ضمن رباعيات شبيهة لما نسب إليه من الرباعيات.. وهكذا كانت الرباعيات توضع من قبل أهل الأهواء ودعاة النحل المعادية لمبادئ الإسلام، فتنشد في الندوات، وتكتب في الوريقات بخطوط جميلة جذابة... وتنشر بين عامة الناس.. وربما تعرض للبيع على الخواص منهم، فتنال القبول لدى البعض وإن لم تنل لدى الجميع.
.. وكانت الرباعيات تزداد عدداً كلما مرت الأيام..
البيئة تنفي نسبة الرباعيات للخيام
إن الباحث عن رباعيات الخيام، لا يستغني عن بحث البيئة التي نشأ فيها ذلك الحكيم.. وعن البحث عن المجتمع الذي عاش وترعرع فيه.. بل يجب عليه.. وذلك هو شأن الباحث المنصف.. فإذا نظرنا إلى التاريخ الصحيح.. نعرف أن حياة الحكيم ونشأته كانت في عهد ملكشاه السلجوقي، وأن الناس في ذلك العهد الإسلامي كانوا شيوخاً وشباباً متعصبين ومتمسكين بدين الإسلام الحنيف.. يحترمون أحكام الشريعة الإسلامية كل الاحترام، ويخضعون لها كل الخضوع ولهذا لم يكن في وسع أحد أن يبدي أية جسارة في الاستهزاء بالتعاليم السماوية.. أو يخرج ضد الدين مجاهراً.. نعم لم يكن في وسع أحد -سواء كان خياماً أو غير خيام- في ذلك العهد الإسلامي المنيع أن يقول أو ينشر هذه الهذيانات.. ضمن رباعيات أو غير رباعيات.. أو يجهر باسم الفلسفة.. بين أولئك المسلمين المتعصبين، وعلى رأسهم ملك مسلم يحكم بينهم بكتاب الله وسنة رسوله، وما استنبط منهما من أحكام المجتهدين.. وإلاّ لقتلوه أو صلبوه.. أو أخرجوه من المجتمع ليأمنوا شره وإضلاله وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.. (الأنفال: 39).
أقول إن هذا وذلك كله يحكم ببراءة الخيام من تلك الرباعيات..
الرباعيات في نظر أدباء إيران المعاصرين
وإذا درسنا نظريات أدباء إيران المعاصرين.. فإننا نجد أكثرهم يبرئون الخيام من تلك الرباعيات التي نسبت إليه.. ولا يقيمون لها وزناً.. بل يدعون الإيرانيين -ولا سيما الجيل الناشئ- إلى نبذها واستنكارها.
قال الأديب الكبير "رضا صديقي نخجواني" في كتابه "خيام بنداري" بالفارسية ما معناه: "إن مقام الحكيم عمر الخيام النيسابوري في نظرنا أرفع من أن تعد تلك الرباعيات المستنكرة التي عرفت باسم "رباعيات الخيام" من مقولاته.. إلى أن يقول: "ونحن نعتقد أن قائل هذه الرباعيات شخص أو أشخاص من المتحللين.. ثم جاء أناس وجمعوها من هنا وهناك ونسبوها إلى الخيام.. وبهذا أوجدوا خياماً موهوماً.. من صنع وهمهم، ونسيج خيالهم، وأن أوضح دليل لادعائنا هذا هو أن الرباعيات ازدادت عدداً كلما ابتعد العهد والتاريخ عن عهد الخيام"..
يد التبشير والاستعمار في ترجمة الرباعيات ونشرها
وإذا نظرنا نظر الباحث الناقد.. في سر قيام الغربيين بترجمة هذه الرباعيات ونشرها في الغرب والشرق، وإشادتهم بذكر صاحبها المزعوم، فإننا نعلم علم اليقين أن قيامهم بهذا أو ذاك كان من نواح ثلاث:
الأولى: أنهم وجدوا معاني تلك الرباعيات وأهدافها متفقة مع أهواء الغرب.. ومع الحرية المطلقة التي لا قيود فيها.
الثانية: أن خواص الغربيين الماهرين من رجال الدين المسيحي، ومن له علاقة بالتبشير النصراني، وجدوا في هذه الرباعيات بغيتهم المنشودة في الطعن على الدين الإسلامي.. الخ..
... نعم وجدوا بغيتهم فيها.. لا عن طريق عظيم نصراني غربي.. بل عن طريق عظيم مسلم شرقي، كما كسبوا مبالغ باهظة عن طريق بيع تراجمهم وكتبهم في أنحاء الغرب والشرق..
الثالثة: وهي التي أعتقدها كرجل ذاق هو وشعبه مر الاستعمار البغيض، وعرف حيل المستعمرين، ودسائس المحتلين -وأظن أنها فكرة لم يصرح بها أحد من الباحثين في هذا الموضوع- ألا وهي الناحية السياسية التي لعبت بها يد الاستعمار دوراً من أدوارها الاستعمارية في الشرق.. ولا سيما في إيران وبلاد الهند.. نعم هي الناحية السياسية التي لعبت بها يد الاستعمار، ولكن بكل دقة وحذر، وفي همس وخفاء، وكأن "فيتزجرالد" الشاعر الماهر الإنكليزي قد لبى الإشارة من قبل بعض ساسة الإنكليز، فقدم للمستعمر المحتال خدمة مشكورة.. ولكن تحت ستار الخدمة للأدب الغربي..
وحذا حذوه أمثاله من "روكوفسكي" المستشرق الروسي وغيره، ولعبوا دورهم في هذا المضمار متعاضدين.. ولكن فيتزجرالد تفرد من بينهم بميزة خاصة.. وبطابع خاص.. في النهوض بوظيفته.. فقد صور هذه الرباعيات، بصور خلابة.. وضمنها في كلمات إنكليزية منظومة جذابة.. بحيث تجذب قلوب أهل الشرق، ولا سيما الشباب الناشئ.
كما أن فيتزجرالد قد تخيل أنه بترجمته لتلك الرباعيات ونشرها قد قدم هدية ثمينة للشرق تستحق كل إعجاب وتقدير.. ونجح فيتزجرالد فعلاً في هذا التخيل.. فنحن نرى طائفة من كتّاب الشرق وأدبائه قد أمطروا الثناء عليه فيما يؤلفون عن عمر الخيام ويكتبون، ويدعون الشرقيين إلى الاعتراف بفضل فيتزجرالد، وتقديره، مع الأسف!!
ولكن الحقيقة الواقعة أن فيتزجرالد قد خدع الشرق والشرقيين بهذه الخدعة السياسية، خدعة موفقة في أغراضها، ناجحة في أهدافها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1724  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 49 من 49

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج