شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الطب عند العرب
الدكتور أحمد شوكت الشطي
الطابع الغالب على هذا الكتاب هو الطابع التاريخي.
فليس هو -إذن كتاباً في الطب بالمعنى العلمي، أو المهني.. كما ربما يتبادر ذلك لأول وهلة من صيغة العنوان.
والمؤلف الفاضل ولو أنه طبيب مختص في مادة كتابه هذا.. إلاّ أننا سنجد من إلمامنا ببعض الفصول الواردة فيه حرصه الشديد على أن يجعل من أسلوبه السهل اللطيف أسلوباً أقرب إلى أسلوب الأديب منه إلى أسلوب العالم، أو أسلوب الطبيب.
إنه يروي لنا كما يذكر في مقدمة الكتاب -قصة الطب عند العرب منذ فجر نهضتهم حتى يومنا هذا.. وهو يهدف من ذلك -أولاً- إلى إطلاع القارئ على النهضة الطبية التي تميز بها العرب بعد أن نفخ النبي العربي -صلوات الله وسلامه عليه- فيهم روحاً جديدة تقدمية نقلتهم من أسوأ حال إلى أحسن حال.
ثم يتحدث عن مسيرة الطب بأسلوب لا يبعث في القارئ اعتزازه بماضيه فحسب.. بل يبرهن له على استطاعته اللحاق بركب الحضارة المعاصرة، والمسابقة في ميدانها متى صح إيمانه. وصدقت عزيمته.
ويتناول المؤلف في أول أبواب الكتاب تاريخ الطب عند العرب قبل الإسلام.
وفي الباب الثاني: الإسلام والطب وتاريخ الطب عند العرب في صدر الإسلام.
وفي الفصل الأول من هذا الباب يشير إلى ما يجمع عليه المؤلفون -وخاصة الغربيون منهم- من أن الرسول الكريم والنبي الأمين نفخ في حب العلوم -ومنها الطب- روحاً جديدة، وذلك بقوله تشجيعاً لدراسة الطب: العلم علمان، علم الأبدان وعلم الأديان. فقدم علم الطب على علم الدين لأن الطب يدل على سبل الاحتفاظ بالصحة وردها إذا فقدت ولا يخفى أن صحة الجسم والعقل والنفس عماد السعادة في الدنيا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوي نفسه ويأمر بذلك لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه. وكان غالب أدويته مفردة لا مركبة.. تمشياً مع القاعدة التي ما زالت متبعة حتى الآن، وهي العدول عن الدواء المركب إذا كان الحصول على الشفاء ممكناً بالدواء المفرد.
ويتحدث عن التمريض عند العرب في فجر الإسلام، وعن "الآسيات" أو "الممرضات" فيقول:
إذا كان الغرب يفخر بالممرضة الإنجليزية "نايتنغل التي خرجت من الطبقة النبيلة تدعو النساء إلى احترام مهنة التمريض واعتباره عملاً شريفاً، فإن من واجبنا -يقول المؤلف: أن نرد هذا الفخار إلى المرأة العربية".
لم تكن المرأة العربية أيام نهضة العرب عنصراً غير فعّال في المجتمع ميالة إلى الراحة والدعة واللهو والترف، كما يريد البعض أن يصورها زوراً وبهتاناً، بل كانت سباقة في ميادين العمل الاجتماعي والفردي فضلاً عن أنها كانت من أحسن ربات البيوت تدبيراً لمنزلها وعناية بأولادها، وسعياً وراء تأمين راحة زوجها.
وكانت إلى جانب ذلك عاملة لكسب معاشها -إذا أحوجها الأمر- بعمل شريف يدر عليها من الرزق ما يمكنها من الاضطلاع بأمومتها على خير وجه وأقوم سبيل.
.. وكان العرب يطلقون اسم "الآسيات" على النساء العربيات اللائي يعملن في تضميد الجراح، وجبر العظام، وغير ذلك من أعمال الإسعاف.
لقد كان إسعاف الجرحى من اختصاص فضليات النساء يتخذنه قياماً بالواجب وحباً بالتضحية، وكن يسرن إلى المعارك جنباً لجنب، حاملات أواني الماء. وإلى جانب كل منهن ما تحتاج إليه الجراح من اللفائف والجبائر وغير ذلك من وسائل الإسعاف ومنهن من كن يشتركن في القتال وكانت لهن مواقع مشهودة، ونذكر فيما يلي سيرة بعضهن: أمينة بنت قيس الغفارية:
خرجت زعيمة للآسيات الممرضات ولما تبلغ السابعة عشرة من عمرها.
أم سليم:
قال فيها أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو ومعه "أم سليم" ومعها نسوة من الأنصار يستقين الماء، ويداوين الجرحى.
أم سنان الأسلمية: اشتركت ممرضة في غزوة خيبر.
أم أيمن: حضرت "أحداً" وكانت تسقي العطشى، وتداوي الجرحى.
بطولة المرأة في القتال
نسيبة بنت كعب المازنية:
اشتركت في غزوة بدر.. فعملت آسية تضمد الجراح لمن جرح.. وخرجت نسيبة أيضاً يوم أحد ومعها زوجها وولداها، وفي يمينها السقاء والضماد، وأخذت تسقي العطشى، وتضمد جراح المرضى. وكانت غرة الحرب للمسلمين، ثم أشاحت بوجهها عنهم، فتناولتهم سيوف أعدائهم تنهل من نحورهم، وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين إلاّ عشرة منهم وقفوا يدرأون عن الرسول، ويحولون دون الوصول إليه.
رأت "نسيبة" ما حل بجيش الرسول وأيقنت بدنو الهزيمة فلم تطق الاكتفاء بالمواساة بل انتضت سيفها، واحتملت قوسها وذهبت تصول وتجول، تنزع عن القوس وحولها نفر من الأبطال بينهم ولدها، وزوجها فكانت من أظهرهم أثراً، وأعظمهم موقفاً، حتى التحم بالرسول أشد خصومه، فشرعت السيف، وأخذت تضرب به، وكانت لا ترى الخطر يدنو من الرسول حتى تكون سداده.. وقال فيها الرسول "ما التفت يميناً وشمالاً إلاّ وأنا أراها تقاتل دوني" لقد بقيت تجالد القوم حتى جرحت وخارت قواها وارتمت على الأرض مصروعة، وثبت الرسول وانجلى من الغمرة ما انجلى، وتساءلوا عن نسيبة فإذا هي ملقاة يفور دمها من جرح غار بكتفها، ضمدوا الجراح، وسقوها الماء، وبرئت نسيبة، ونسيت الفخر إلاّ بهذا اليوم.. وبالأثر الباقي الجرح.
لقد كانت نسيبة آسية، ومجاهدة وربة بيت، ومربية أولاد، فقد أحسنت تربية ولديها "حبيب" و "عبد الله " وملأت قلبهما إيماناً وصدرهما شجاعة، وسواعدهما قوة، وعرف الرسول فضلهما وقدرهما، وأحضرهما المشاهد، وجعلهما سفراء ورسلاً..
وينتقل المؤلف إلى الباب الثالث من الكتاب، ليتحدث إلينا في فصوله الخمسة عن الطب العربي وحركة النقل والتأليف عند العرب، وطبقات الأطباء التراجمة وسيرة مشهوريهم، ثم كبار الأطباء وملخص سيرتهم، وأخيراً: تعليم الطب في المدارس العربية القديمة ودور المرضى والمشافي العربية ومقارنتها بالمشافي الغربية.. ثم مميزات الطب عند العرب في القرون الوسطى.
الطب العربي سبق غيره
يقول المؤلف: لقد سبق الطب العربي -بنهضته- الطب الغربي مئات السنين وكانت في البصرة والكوفة وبغداد والقاهرة ودمشق وقرطبة مدارس تبث أنوارها في العالم كله.. يقصدها الطلاب من الشرق والغرب، وكان كثير من طلبة العلم في قرطبة من المسيحيين وكان الطلاب يدرسون معاً، من ولد السيد الرفيع إلى ولد الصانع الوضيع، وكانوا يجرون النفقات على التلاميذ الفقراء ويؤدون الرواتب الجمة للمعلمين.. ويقول "ولز" العالم المؤرخ الإنجليزي المشهور، بأن العرب بلغوا شأواً فاقوا فيه اليونانيين بكثير درسوا علم وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، وكانت طرق طبهم العلمية، نظير طرقنا الحاضرة، ولا نزال نحن إلى يومنا هذا نستعمل كثيراً من أدويتهم، وكان جراحوهم يعرفون التخدير، ويجرون العمليات الصعبة.
وفي حديث عن طبقات الأطباء التراجمة وسيرة مشهوريهم يقول المؤلف: اشتغل بترجمة الكتب العلمية ولا سيما الطب منها: الأمير خالد بن يزيد وأطباء كثيرون.. واشتغل بالترجمة من العرب الأندلسيين رجال خبيرون باللغة اللاتينية أو اليونانية كما اشتغل بالترجمة علماء آخرون منهم آل بختيشوع وغيرهم ومن واجبنا أن نقول إن جل هؤلاء كانوا تراجمة ومؤلفين في آن واحد منهم أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (809-873م) فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكهم وقد كان عالماً بالطب والفلسفة والحساب والهندسة والمنطق وعلم النجوم وتأليف اللحون وطبائع الأعداد.. وهو يمت بالنسب إلى الأشعث بن قيس ملك كندة ومن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ترك الكندي آثاراً كباراً جليلة جعلت العالم الإيطالي "كاردافو" يعده من بين الأثني عشر عبقرياً الذين هم من أهل الطراز الأول في الذكاء.. وجعلت أيضاً "باكون" الشهير يقول: إن الكندي والحسن بن الهيثم في الصف الأول مع بطليموس.. ثم "ثابت بن قرة" 836-901م وكان ثابت من الذين تعددت نواحي عبقريتهم فنبغ في الطب والرياضيات والفلسفة ووضع في هذه كلها وغيرها مؤلفات جليلة كما ترجم كتباً عديدة وكان جيد النقل إلى اللغة العربية غير أنه لم يحفظ الزمن إلاّ النزر اليسير.
وكان لثابت ولد.. هو أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة الحراني توفي في بغداد سنة 943م كان طبيباً مقدماً كأبيه، وكان طبيب المقتدر خصيصاً به وقد عظمت منزلته في أيامه حتى صار رئيساً على الأطباء، وقد اتصل بالمقتدر أن رجلاً من الأطباء غلط على مريض فمات.. فأمر محتسبه بمنع جميع الأطباء إلاّ من امتحنه سنان بن ثابت وكتب له رقعة بما يطلق له التصرف في ذلك.. ولسنان مؤلفات كثيرة في علم الطب.
ومن أطباء القرن العاشر للميلاد: أبو داود سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل.. كان طبيباً فاضلاً خبيراً بالمعالجات جيد التصرف في صناعة الطب عاصر عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر.. أسهم في عصرهما بقسط كبير من علمه ومجهوده.
أساطين الطب في بلاد العرب
ويواصل المؤلف الحديث عن أساطين الطب في بلاد العرب والإسلام فيتحدث عن الرازي "850-932" وأبي نصر الفارابي المتوفى سنة 950م وابن سينا "980-1037م" وابن الهيثم "965-1039م" وابن الشبل البغدادي المتوفى سنة 1065م والزهراوي المتوفى سنة 1107م وابن زهر المتوفى سنة 1162م وابن رشد الذي كان فقيهاً وطبيباً وفلكياً وفيلسوفاً في آن واحد.. وكانت كتبه تدرس في جامعات باريس وسواها من معاهد العلم العالية في العواصم الغربية وقد ظلت الحركة الفكرية التي بدأها ابن رشد عاملاً حياً في الفكر الأوروبي حتى مولد العلم الحديث!
ومن أساطين الطب: عبد اللطيف البغدادي "1162-1231م" الذي كان يقرىء الناس الطب في الجامع الأزهر ثم قصد دمشق ونزل فيها بالمدرسة العزيزية وشرع في التدريس والاشتغال بالطب.. ثم استقر في حلب واشتغل فيها بتدريس صناعة الطب.. وابن أبي صبيعة "1203-1269م" من علماء القرن السابع الهجري المعدودين مارس طب العيون حيناً في القاهرة ووضع كتاباً في تاريخ الطب والأطباء سماه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء".
المدارس الطبية العربية
ويتحدث في الفصل الرابع عن تعليم الطب في المدارس الطبية العربية القديمة ودور المرضى والمشافي العربية ومقارنتها بالمشافي الغربية.. فيقول:
لقد تبارى الخلفاء ووزراؤهم وملوك العرب وسلاطينهم وذوو الجاه والثروة وأهل العلم في ترقية الطب ففتح الخليفة المنصور العباسي مدرسة طبية في بغداد، وشاد هارون الرشيد مدرسة في دمشق، وأنشأ الخليفة الناصر لدين الله الأموي الأندلسي مدرسة قرطبة.. ثم كثر في الشرق والغرب عدد المدارس المعدة لتعليم الطب والجراحة فكان عدد مدرسي الطب وطلبته ورجال الندوة العلمية في بعضها يزيد على ستة آلاف نفس، وأنشئت في الأندلس غير مدرسة قرطبة ثلاث مدارس أخرى في إشبيلية وطليطلة ومرسية.. وكان الجامع الأزهر يدرس سنة 359هـ-969م الطب وعلوم الصحة والكيمياء بالإضافة إلى علوم الدين، وكان يلحق بكل مدرسة مستشفى يتمرّن فيه طلاب الطب على الدروس السريرية.
ثم انتشرت المدارس الطبية في كثير من مدن الشرق والغرب العربيين.. وكثر عدد الأطباء فكانوا كواكب متألقة في سماء الحضارة تستضيء بها الشعوب قاصيها ودانيها.
وقد عني الأطباء العرب بإقامة أماكن لإيواء المرضى ومعالجتهم، فكان عندهم مشاف ثابتة.. ومشاف متنقلة.. أما المشافي الثابتة فمنها ما هي عامة، ومنها ما هي خاصة.
كانت المشافي العربية تكرّس للرفيع والوضيع.. والجندي والأمير.. وكانوا في المشافي يفحصون المرضى فيعطون من لا يحتاج إلى الاستشفاء فيه وصفة تهيأ في صيدلية المستشفى، ويحضر الطلاب هذه الاستشارات، ويرقبون كيفية فحص المرضى وطرق مداواتهم، وأما المرضى الذين بحاجة إلى عناية المستشفى فتدوّن أسماؤهم لقبولهم.. وكان الناس يتمارضون رغبة منهم في الدخول في المستشفى والتنعم بما فيه.. وكان الأطباء يغضون الطرف أحياناً عن هذا التحايل.. وكانت الملاحظات اليومية تدوّن بما ييسر للطبيب متابعة حالة المريض بدقة وعناية وكانوا يكتبون تاريخ المرض في سجلات تحفظ في المستشفى..
ويقوم بالأعمال أطباء مهرة، ومفتشون قادرون، ومديرون مهذبون، وخدم عاملون ينصرفون للقيام بكل حاجات المريض.. وبكلمة واحدة، كل شخص يعرف ما عليه من الواجبات فيقوم بها دون إهمال.
وقد تفنن أطباء العرب في أساليب معالجة المرضى حتى اهتدوا إلى المعالجة بالموسيقى.. لقد كانت الأجواق الموسيقية في بيمارستان فاس تروّح عن المرضى وتسليهم عن آلامهم.. وكذلك الأمر في البيمارستان النوري بدمشق فقد كانوا يجلبون القصاص والمطربين إلى قاعات المرضى فيه.
حال المشافي الغربية
أما حال المشافي الغربية فننقلها من أقوالهم: كان أشهر مشافي الغرب "أوتيل ديو" في باريس وقد جاء ذكره في كتاب ألفه "ماكس نردو" قال فيه عن هذا المستشفى: "يستلقي في فراش واحد أربعة مرضى.. أو خمسة أو ستة.. فترى قدمي الواحد جانب رأس الآخر.. والأطفال الصغار إلى جانب الشيوخ الشيب.. حقاً إن هذا لا يصدق.. ولكنه الحقيقة الواقعة، وهناك امرأة تئن بين مخالب المخاض إلى جانب رضيع يتلوى من التشنجات.. وكان يقدم إلى المرضى أدنى الأطعمة بمقادير قليلة" وقد ذكرت سيرة هذا المستشفى مجلة تقدم العلاج فقالت: "إن هذا المستشفى كان شعاره إيواء الناس ومعالجتهم دون أن يكون لقبولهم أو خروجهم قيد أو قانون فكانت مساحة غرفه وقاعاته لا تتناسب مع عدد اللاجئين إليه".. وقد وصفه في القرن الثامن عشر "باللي" و "تينون" و "لافوازيه" في تقريرهم وصفاً تقشعر منه الأبدان إذ رأوا الموتى جنباً إلى جنب مع الأحياء.. كما رأوا الناقهين مختلطين في غرفة واحدة مع المرضى والمحتضرين، وكان المرضى يسيرون في الممرات الخارجية حفاة الأقدام صيفاً وشتاءً لاستنشاق الهواء الخارجي!
مميزات الطب العربي
وفي حديثه في الفصل الخامس عن مميزات الطب عند العرب في القرون الوسطى يقول المؤلف:
كان الطب عند العرب في القرون الوسطى صناعة نبيلة لا يسمح بتعاطيها إلاّ لمن حصل على خبرة واسعة في الطب، وأعد لذلك إعداداً علمياً وخلقياً يكفل حسن عنايته بالناس.. وتطبيبهم والاطلاع على أسرارهم المتعلقة بحاضر صحتهم وماضيها.
عرف العرب بأنه "حفظ الصحة موجودة وردها مفقودة" فلو قارنا بين هذا التعريف وبين التعاريف العديدة حتى الحديثة منها التي وضعت لتحديد الطب لوجدنا التعريف العربي جامعاً بين الإيجاز والفصاحة والبيان والصراحة، اختار من الكلمات أبلغها دلالة، وأكثرها إفادة..
- ولقد اشترط حكّام العرب على محترف المهنة الطبية أن يكون عالماً بالتشريح، ملماً بعلم وظائف الأعضاء، خبيراً بالنبض وتبدل البول، محيطاً بجميع العلوم التي لها صلة قريبة أو بعيدة بالطب أخصها التشريح.. وقد جاء في أقوال الرازي ما يدل على اعتبار العرب معرفة التشريح أساساً لكل عمل طبي.
أما عنايتهم بعلم وظائف الأعضاء فيلاحظ الباحث أثرها في أكثر كتبهم الطبية، فما من كتاب موسع في الطب العربي إلاّ وفيه ذكر لخصائص كل عضو وعمله في حالتي الصحة والمرض.
وقد وضع العرب في أنظمتهم تشريعاً ينظم صناعة الطب، عرفوا به بما للأطباء وما عليهم.. وقد جعلوا الإشراف على هذا التنظيم من واجبات "المحتسب" فكان ينظر إلى أمور عديدة تتعلق بالصحة والطب منها منع السحار والكهان.. ومنع الناس من تصديقهم ومنع القوابل عن إسقاط الجنين.. والإشراف على بيع العقاقير.. وعدم بيعها إلاّ بوصفة طبية لمرض معين بدواء مجرب ومعروف.. وهكذا أعطى العرب صناعة الطب مقاماً عظيم الشأن، وأخضعوا هذه الصناعة لرقابة "المحتسب"، فكان "المحتسب" ينظم اختيار الأطباء، وفحص معلوماتهم ويشرف على امتحانهم، ويتعرف على مقدرتهم للعمل.. قال الشيزري في كتابه "نهاية الرتبة في طلب الحسبة": "للمحتسب أن يمتحن الطبيب ليعرف علمه من جهله، وأن يختبره ليعرف درجة إتقانه للصنعة، وأن يأخذ على الأطباء عهد بقراط ويحلفهم ألاّ يعطوا أحداً دواء مضراً، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، ويغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى.. ولا يفشوا الأسرار، ولا يهتكوا الأسرار، ويحاكي هذا العهد ما تقوم به اليوم كليات الطب في العصر الحاضر".
فن التشخيص
وقد أكد الطب العربي على ضرورة تشخيص المرض قبل إعطاء العلاج، يؤيد ذلك ما جاء في قولهم: "إذا دعيت إلى مريض فأعطه ما لا يضره إلى أن تعرف علته فتعالجها عند ذلك" وتميز أطباء العرب بمتابعة الدراسة مهما علت منزلتهم.
والعرب أول من خاط الجروح بخيوط مصنوعة من الأمعاء وأول من أقر سراية الأمراض وأحسن وصفها.
الطب العربي والغربي
ثم يتحدث المؤلف في الباب الرابع من كتابه عن الطب العربي في الغرب، فيقول:
كانت الحضارة العربية عاملاً كبيراً في الرقي العالمي بناحيتيه الروحية والفكرية، ولقد أشرقت هذه الحضارة في زمن ركدت فيه الثقافة اليونانية والرومانية، وطغى على العالم الأوروبي جهل وجهالة، فعادت ديار الغرب مسارح لانشقاقات حزبية واختلافات دينية، ولقد بقيت على حالتها إلى أن أشرقت فيها شمس الحضارة العربية بنورها الساطع، وكان من أول ما عنى بها العرب زرع الإيمان والثقة في الإنسان.. وإعطاء الجسد حقه من العناية ليكون قوياً، وتهذيب النفس بإصلاحها لتعود خيرة، فصاروا بذلك منارة العالم يهتدون إلى الفضائل بقبس من نورها، وما إن أطلت أواخر القرن العاشر الميلادي على الغربيين حتى وجدوا أنفسهم محاطين بأمة سبقتهم في جميع الميادين الضامنة لصلاح الإنسان في جسمه ونفسه، وفرده ومجتمعه، ومن ذلك ميدان الطب الجليل.
- ولقد تم احتكاك الغرب بالشرق في ثلاث وجهات: مناطق الحروب الصليبية في الشرق -صقلية وإيطاليا في جنوبي أوروبا- والأندلس في الغرب حيث كانت الثقافة العربية واسعة الانتشار.
- وإذا استطاع الغرب أن يوقف التوسع العربي بسبب رئيسي هو تخاذل زعماء العرب، وتفرق كلمتهم.. فقد خضع الغرب للتيار الفكري خضوعاً رددت صداه الأجيال.. لأنه مهد للعالم السبل إلى يقظة علمية سارت به شوطاً بعيداً.
- ولقد كان لبعض المدارس والجامعات الغربية التي تأثرت بالثقافة العربية شأن عظيم في النهضة الطبية في أوروبا.. ونخص بالذكر من هذه المدارس "مدرسة سالرنو" و "مونبليه" و "بولونيا" الإيطالية.
- وكان لمدرسة "سالرنو" الطبية أثر يذكر في نقل العلوم العربية كلها، ولا سيما الطبية منها.. جعل تلك المدرسة دعامة النهضة العلمية في أوروبا وركنها الأساسي.
عصر الترجمة
- ويعتبر القرن الثالث عشر الميلادي عصر ترجمة الكتب العربية إلى اللغة اللاتينية ومبدأ عصر ازدهار وتقدم في أوروبا، وقد بلغ عدد الكتب المطبوعة المترجمة عن العربية إلى اللاتينية التي أحصى عددها ما يقرب من خمسة آلاف كتاب.. وهكذا اجتاحت موجة الثقافة العربية الأقطار الغربية.
- لقد شاهد ختام القرن الثاني عشر بدء انحطاط المدنية العربية في الطرف العربي من العالم الإسلامي بسبب التعصب الشديد الذي اتصف به ملوك الأسبان، فهجر الأندلس عدد كبير من العلماء العرب قاصدين "مونبليه" وإن هذه الهجرة التي كانت خسارة فادحة لإسبانيا أصبحت في الوقت عينه ربحاً عظيماً لمونبليه.. حيث استقر فيها عدد كبير من العلماء والمهاجرين وكانت هذه الحركة عاملاً بعيد الأثر في سرعة نشوء "مونبليه" كمركز علمي عظيم الشأن.
وتمتاز جامعة مونبليه عن غيرها باعتراف أساتذتها الباحثين بفضل العلم العربي، ونقدم للقارئ دليلاً على ذلك مقتطفات من كلمات أستاذ لمع اسمه في مبدأ القرن العشرين لا في فرنسا فحسب بل في العالم الغربي كله، ونقصد به الأستاذ "فورغ".
قال هذا الأستاذ في خطاب تذكاري ألقاه في إحدى الجامعات الأسبانية: إن إسبانيا أرض قائمة بنفسها يتحلى أهلوها بقوة حيوية غير معهودة في غيرهم.. كما أن لهم من سرعة الفكر والاستعداد للنضال ما يجعل هذه الأمة فريدة في بابها، ويرجع ذلك إلى استيلاء العرب على إسبانيا واختلاطهم بشعبها اختلاطاً دموياً أدى إلى السير بأوروبا في مضمار التقدم مما دعا ليبري إلى أن يقول: "احذف العرب من التاريخ يتأخر عصر التجدد في أوروبا عدة قرون".
ادعاء كاذب
ولقد جرى مؤخراً بعض المعاصرين على إنكار العبقرية الطبية عند العرب.. والحقيقة أن هذه الملكة العلمية قد أثبتها العرب لأنفسهم منذ البداية.. حيث قرر علماؤهم من ذلك الوقت تقريراً صريحاً للمبادئ التي ينبغي أن يسير عليها العلم، وهي السير من المعلوم إلى المجهول، وعدم قبول شيء على أنه حقيقة إلاّ بعد ثبوته بالتجربة، إذن منذ القرن الحادي عشر ثبت العرب أنهم كانوا قد ملكوا الطريقة العلمية الصحيحة، وليس بصحيح القول إنهم ما أتوا بشيء جديد.. ولا أضافوا شيئاً يذكر إلى التراث اليوناني اللاتيني، ولا جرم أنهم بالبداية كان أساس عملهم الترجمة من الكتب القديمة، ولكن ليس من العدل القول إنهم لم يكونوا إلاّ وسطاء، وأنهم لم يكونوا يعلمون ما يترجمون.. ولم يكن عندهم روح التوليد، وعلى هذا أجاب الفيلسوف الألماني "هومبولد" بقوله: "إن العرب لم يقتصروا على حراسة كنز المعارف الذي عثروا عليه.. بل أضافوا إليه ووسعوه وفتحوا طرقاً جديدة للبحث".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :584  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 44 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي

[الجزء الخامس - التقطيع العروضي الحرفي للمعلقات العشر: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج