شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
لورنس العرب على خطى هرتزل
تقارير لورنس السرية
الأستاذ زهدي الفاتح
أطلقوا عليه -في فترة من الفترات- لقب "لورنس العرب"!
وقالوا عنه الكثير.. وبالغوا في الإشادة به، والحديث عن مغامراته إلى أقصى حد. وسلطوا عليه كل الأضواء!
ووصفه بعضهم دون شعور بأي حرج بملك العرب غير المتوج..
وبطبيعة الحال، لم يكن كل هذا الذي أثاروه حول هذا "الرجل اللغز" تلقائياً وعفوياً!
* * *
كانت الحرب العالمية الأولى مشتعلة الأوار عندما تفاقم الخلاف بين العرب والدولة العثمانية. ولم يكن بد من أن يستثمر هذا الخلاف أصحاب المصلحة.. في توسيع شقته إلى أبعد مداه! ليصلوا، في الأخير، إلى هدفهم الأخير!
وكان ما كان، مما لسنا نذكره. وانفجر الخلاف، وفقاً للخطة التي رسمت.. -والوقائع بعد ذلك كثيرة- وانتهت الحرب -كما هو معروف- بانفصال العرب عن دولة الخلافة.. وبهزيمة الرجل المريض! وكانت هذه أول ثمرة من ثمرات الحرب، فاز بها أصحاب المصلحة.. ولم يخف قائدان من قوادهم المشاهير يومذاك فرحتهما الكبرى عندما قال أحدهما يوم دخل القدس:
"الآن انتهت الحروب الصليبية"!
وقال ثانيهما في دمشق أمام قبر صلاح الدين:
"ها نحن عدنا يا صلاح الدين"!
وغني عن البيان أن "لورنس العرب" الذي دافع عنهم بحرارة.. وتفانى في نصرتهم.. والذي رفض يومها أوسمة ملكية.. احتجاجاً منه على نقض حكومته لعهودها مع العرب.. كما ذاع وشاع، غني عن البيان.. أن هذا الرجل اللغز كان أول الثملين بنقض حكومته لعهودها ووعودها.. لا لشيء إلاّ لأن هذه النتيجة التي انتهت إليها تلك الحرب.. كانت -كما كشفت الوثائق فيما بعد- من صنع يديه!!
وكان من أهم ما سعى إليه لورنس -بحماس بالغ- تحقيق تنفيذ وعد بلفور تمهيداً لإقامة إسرائيل!
والهدف كل الهدف، من إزالة العثمانيين ومن إقامة إسرائيل -كما اتضح- هو القضاء على وحدة المسلمين، وإزاحة "البعبع الإسلامي من طريق الصليبيين الحاقدين"!!
لقد كان لورنس -كما تظهر هذه الوثائق- أبرز عميل بين عملاء الصهيونية الكثيرين.. خدمها بما لم يخدمها به أحد.. وفعل من أجلها ما لم يفعله كبار السياسيين، وأعاظم الرؤساء!
ولسنا ندري إذا كان كتاب الأستاذ زهدي الفاتح.. الذي نعرض موجزاً سريعاً لبضع فصوله هنا.. هو الأول من نوعه في اللغة العربية.. أم أنه مسبوق! إلاّ أن الذي يبدو أن الكثير مما ورد فيه.. ظل مخبوءاً وراء ستار كثيف من الإيهام والتضليل لوقت غير قصير..
وللأستاذ زهدي فضله الذي لا ينكر في إلقاء الضوء حول حقائق كان لا بد لها أن ترى النور.. حقائق لم تعد ملك أحد، بل هي ملك التاريخ!
وهذا هو لورنس!
قال عنه رئيسه "تشرشل": "لن يظهر له مثيل، مهما كانت الحاجة إليه ماسة..".
أقاموا له تمثالاً مع تمثالي "نلسون" و "ولنغتون" في كاتدرائية سان بول ببريطانيا..
ورغم أنه لم يخف تأييده لوعد بلفور، الذي اعتبره وسيلة لإبعاد مطامع الفرنسيين عن فلسطين وسورية كلها.. إلاّ أنه كان يخفي أمراً مذهلاً.. فقد كان يعمل لإقامة دولة عربية قومية في سورية تحت الحماية البريطانية.. ولكن بتمويل وتوجيه الصهيونية العالمية!
وبعد زيارته لفلسطين، رأى أنه كلما سارع اليهود في حراثة الأراضي الفلسطينية، كلما كان ذلك أفضل لهم.. وقد لعب هو فيما بعد دوراً فعلياً لتحقيق هذا الرأي..
في سنة 1908 أعرب الدكتور بول الأستاذ في جامعة أكسفورد عن رغبته في وضع أطروحة عن الحروب الصليبية، تزيل من أذهان الناس التصور الخاطئ (؟!.. الذي يقول: إن الصليبيين نقلوا إبان غزوهم للشرق الأوسط والأماكن المقدسة، علوم الهندسة الحربية إلى الغرب)، وتثبت أي الأطروحة بالتالي، أن العكس هو الصحيح!! أي أن الصليبيين هم الذين نقلوا إلى الشرق الأوسط هذا العلم.. وفعلاً طبعت الأطروحة بعنوان "قلاع الصليبيين" نال عليها مرتبة الشرف الأولى، رغم أنه لم يكن ملزماً، على الصعيد الدراسي بوضعها..
وسيذكر إنساننا العربي المسلم -ما في ذلك شك- حدثاً مهماً للغاية عاشته شبه الجزيرة العربية، قبيل الخامس من حزيران 1967 بقليل، حينما يعرف أن صاحب ثالث اثنين من التماثيل في كاتدرائية سان بول.. قد وضع كل ما له من نفوذ وثقل لدى المسؤولين في حكومة بريطانيا العظمى في سنة 1921 لتنفيذ مخطط يستهدف السيطرة على بلاد ما بين النهرين بواسطة إلقاء قنابل خانقة على سكانها المسلمين، لا تميت، لكنها تسبب عجزاً يقضي على أية محاولة للتمرد.
بكى "تشرشل" في جنازته، ووصفه بأنه الأكثر شهرة بين رجالات بريطانيا العظماء، مؤكداً أنه لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة إليه ماسة!!
ألّف عنه ثلاثون كتاباً، بأربع لغات، بالإضافة إلى فيلم سينمائي ناجح، وربح لويس توماس الصحافي الأمريكي، نحو مليون دولار من أجور محاضراته عنه..
ورفض قبول أرفع الأوسمة البريطانية الملكية، وجابه الملك جورج الخامس، لدى مقابلته إياه، لتقليده الأوسمة بكلام وصفه الملك فيما بعد بأنه "بذيء" لم يسمع بمثله طول حياته..
اسمه الكامل "توماس أدوارد لورنس" الشهير بـ "لورنس العرب"!!
ولد في صبيحة يوم 16 آب 1888 في تريمادوك.. بمقاطعة ويلز. خريج أكسفورد.
بدأ الدراسة في أكسفورد، تحت إشراف دايفيد ج. هوغارت، ضابط الاستخبارات المتخصص بشؤون الشرق الأوسط.. الذي كانت معلوماته عن أوضاع البلدان العربية في ظل الحكم العثماني لا تضاهى في ذلك الحين.. أمضى هوغارت وقتاً طويلاً يدرس أحوال هذه المنطقة من النواحي السياسية والوطنية والدينية، والتحركات السرية، ونوعية قياداتها، ونشاطات الألمان والفرنسيين، والبوليس السري التابع لهم، وطبيعة الأرض الإسلامية، ونفسية الحكّام العسكريين فيها، وجو المعارك المتوقع في حال نشوب حرب.. قام لورنس برحلة على الأقدام في عدد من بلدان الشرق الأوسط، اجتاز خلالها نحو ألف ميل: سورية، فلسطين، الأردن، ولبنان..
ألحق لورنس بمدرسة للإرساليين الأمريكيين في جبيل بلبنان لتحسين لغته العربية.. وقال في ذلك: "لسبب ما.. يريدني هوغارت اتقان العربية"!
ارتاب الأتراك في سنة 1912 بأمر لورنس، فكتب إلى هوغارت يقول: "هذه الدولة العجوز، ما زال فيها بعض حياة بعد.. إنها تراقبني"!
في كانون الثاني 1914 انخرط في سلك المخابرات البريطانية.
في 13 أيار 1935 قتل بحادث دراجة نارية كان يقودها.
* * *
الذي يهم هذه الدراسة، هو البحث الوثائقي لموقف بريطانيا، والغرب عامة -طالما أن بريطانيا هي أعرق وأهم دولة استعمارية- من وجود الإسلام، لا كقرآن ولا يعمل به، ولا كتراث يهز الرؤوس، ولا يخترق هذه الرؤوس.. ولا يغير هذه الرؤوس.. بل من وجود الإسلام كدولة.. كنظام.. كحضارة..
وتوماس إدوارد تشايمان، المعروف بـ "لورنس العرب".. أو ملك العرب غير المتوج!! ستبقى آراؤه وأعماله، والاستراتيجية التي وضعها، هي الممثل الحقيقي والصحيح لموقف "الحضارة" الغربية من الإسلام.
ما هي استراتيجية توماس إدوارد لورنس ضد الإسلام وما هي مواقفه منه؟
بالوثائق والأرقام التي تنشر هنا لأول مرة بالعربية، سنعيش مع لورنس "المسلم" الذي حمل ذات يوم عنق كلب معلمه هوغارت صليباً.. وركله يحرضه على الركض، والصليب في عنق الكلب.
العثمانيون.. والمخططات الصهيونية
قبل أن يرى لورنس نور الحياة.. تنبه الباب العالي في الإمبراطورية العثمانية إلى المرامي البعيدة الكامنة وراء المخططات الصهيونية الظاهرة.. ففصل السلطان عبد الحميد "سنجق القدس" عن ولاية سورية سنة 1877، وأخضعه لإدارته المباشرة.. وقبل سنة من هذا الإجراء، أعلنت السلطات العثمانية عن عدم سماحها مطلقاً بإنشاء مستعمرات يهودية في فلسطين، مؤكدة عزمها على تطبيق القوانين بشدة بحق الأجانب "ويقصد اليهود" الذين استملكوا بوسائل غير مشروعة أراضي في فلسطين، بعدما دخلوا إليها متذرعين بالزيارة والحج، لكنهم أقاموا فيها بصورة دائمة، وراحوا يسعون إلى استملاك الأراضي الفلسطينية.
بل إن الإمبراطورية العثمانية وعت في وقت مبكر جداً، أخطار استيطان اليهود في فلسطين.. ففرضت منع الاستيطان اليهودي في الأرض المقدسة، وذلك في "فرمان" أصدرته في شهر نيسان من سنة 1882.
لكن اليهودية العالمية لم تيأس.. وراحت تبذل كل ما في وسعها للحصول على "فرمان" من الباب العالي يقضي بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين.. أو إلى البلدان المجاورة، مغتنمة فرصة بدء تفكك الإمبراطورية العثمانية.. وتكاتف جميع القوى الكبرى على تفتيتها واقتسامها.
ومن ضمن مخطط الصهيونية العالمية للتحريض على الإمبراطورية العثمانية: "أن الإمبراطورية العثمانية لا تعرف شيئاً اسمه فلسطين: فقد جرى إذابتها طوعاً في ولايتين وسنجق".
"ثيودور هرتزل" وحده، شرع يفكر جدياً بمقابلة السلطان العثماني منذ السابع من حزيران 1895، ملتمساً مختلف الوسائل والطرق ليسترعي انتباه الباب العالي، فيستدعيه هذا لمقابلته، حتى أنه سعى لدى بسمارك، حيث كانت ألمانيا حليفة لتركيا، ليتوسط له مع السلطان.
بعد ست سنوات كاملات من الجهد الدؤوب المتواصل والرجاء المتوسل الملحاح والمتخاذل تمكّن هرتزل من مقابلة السلطان في 18 أيار 1901 على ما يذكر في يومياته.
"ويستطرد المؤلف هنا فيذكر تفاصيل محاولات هرتزل ومساعيه التي سبقت مقابلته الشهيرة للسلطان عبد الحميد وما انتهت إليه من الفشل بعد أن رفض السلطان المطالب الصهيونية".
* * *
لورنس.. في تقرير سري:
أهدافنا الرئيسية: تفتيت الوحدة الإسلامية!
يقول المؤلف: في حديثه عن الثورة القومية العربية ضد الإمبراطورية العثمانية، التي كانت آنذاك.. تمثل رمز الوحدة الإسلامية والكيان الإسلامي اللذين ما زال الغرب كله، كما صرحت "التايم" يرتجف ربما من ذكراهما، وبن غوريون يعتبرهما خطراً على كيان إسرائيل.. والغرب السوفياتي والشرق الصيني الشيوعي حاراً، ماذا يفعلان، وأي نظريات لماركس.. وإنجلز.. وماو.. يبتكران ويخترعان لمكافحة أخطار الوجود الإسلامي.. بل مجرد وجود طيفه..
في حديثه عن ثورة العرب القومية، التي لعب الدور الرئيسي في تخطيطهما وتنفيذها يحدد لورنس، في تقرير سري رفعه إلى المخابرات البريطانية في شهر كانون الثاني 1916 بعنوان "سياسات مكة"، الأهداف السياسية لبريطانيا، وللغرب عامة، يقول ما ترجمته بالحرف الواحد:
"... أهدافنا الرئيسية! تفتيت الوحدة الإسلامية، ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها.. وإذا عرفنا كيف نعامل العرب، وهم الأقل وعياً للاستقرار.. من الأتراك، فسيبقون في دوامة من الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتنافرة.. غير قابلة للتماسك.. إلاّ أنها على استعداد دائم لتشكيل قوة موحدة ضد أية قوة خارجية".
* * *
وفي هذا الوقت بالذات، كانون الثاني 1916 كان الكولونيل جيلبرت كليتون يؤسس المكتب العربي البريطاني في القاهرة.. ويعكف مع عدد من ضباط الاستخبارات البريطانية هناك على إعداد مخطط عملي لتطويع حركة القومية العربية في خدمة الأهداف الحربية البريطانية..
سبق لماكس نوردو المفكر الصهيوني أن أشار في أوائل هذا القرن إلى إمكان استغلال حركة القومية العربية لضرب العرب أنفسهم بحكم الإمبراطورية العثمانية.. والقضاء على الاثنين معاً.. في فلسطين خاصة فيدخل هذه الأخيرة فارغة من السكان..
الهدف للصهيونية الصليبية الجديدة أن تبقى الدولة اليهودية يهودية!
يكرر موشى دايان ذات الفكرة -الهدف للصهيونية الصليبية الجديدة، التي خلعت عن نفسها قناع الاحتماء بـ "الحضارة الغربية" فيقول:
"إذا أصبح العرب أكثرية في إسرائيل أو ما يقارب الأكثرية، فإن دولتنا ستظل دولة من دول الشرق الأوسط.. ولكنها لن تصبح دولة الشعب اليهودي.. إنني أريد أن تبقى الدولة اليهودية يهودية.. إننا جزء من الشعب اليهودي.. إنني أولاً موشي.. ثم الجنرال دايان.. إنني يهودي أولاً.. وإسرائيلي ثانياً.. وليس هناك تناقض بين الأمرين ولو كان هناك تناقضاً فإنه يكون لمصلحة الشعب اليهودي.. لا لمصلحة إسرائيل، إنني أصوت أولاً لمصلحة الشعب اليهودي!!".
* * *
ومن المؤكد أن الصهيونيين الذين كانوا يمولون لورنس -بمعرفة الدولة البريطانية أم دون معرفتها.. لا فرق- لإقامة دولة قومية عربية، متخلية كل التخلي عن الإسلام، في سورية، كانوا يباركون أيضاً إيمان لورنس، في ذلك الحين، القائم على أن مصلحة بريطانيا الإبقاء على الشرق الأوسط منقسماً على نفسه، مفتتاً في دويلات متناحرة، متنافرة، بعد القضاء على عامل توحيدهم وتماسكهم.
ويؤكد مؤلفا "الوقائع السرية في حياة لورنس العرب"! فيليب نايتلي، وكولين سميسون، أنه بغض النظر عن ادعاء لورنس السعي إلى منح العرب الحرية والاستقلال فقد كان مصمماً على إلحاق البلدان العربية بالإمبراطورية البريطانية..
أما لماذا أعطى لورنس ذلك الوعد، فيقول المؤلفان المشار إليهما: إن دوافع لورنس إلى ذلك تتركز في يقينه أن ذلك الوعد هو الوسيلة الأفضل لدفعهم للقتال إلى جانب الإنجليز.. رغم معرفته أن السياسة البريطانية، وهو واحد من المخططين لأسسها، لن تنفذ أبداً ذلك الوعد الذي حلم به العرب طويلاً، ومن أجله حاربوا.. بدليل قول لورنس إلى واحدة من أعز صديقاته:
"لقد ساعدت على حبك المؤامرة.. وخاطرت لإيماني أن وقوف العرب إلى جانبنا هو عامل حيوي لتحقيق أملنا بانتصار سريع "بخس الثمن!!" في الشرق.. والأفضل أن ننتصر، وننكث بوعدنا.. من أن ننكسر...!
لورنس.. والسيادة التركية والخطر الإسلامي
مهما تمخضت عنه هذه الحرب، فيجب أن تكون نتيجتها القضاء على السيادة الدينية للسلطان "التركي" "لورنس".
ليس مهماً الهزيمة أو الانتصار في هذه الحرب، أي حرب ما دامت النتيجة هي القضاء نهائياً، وإلى الأبد، على كل أخطار ما يمثله سلطان الإمبراطورية العثمانية، من سيادة دينية إسلامية، هي رمز يتعلق به ثلث سكان العالم..
"فيليب نايتلي" و "كولين سميسون" مؤلفا كتاب الوقائع السرية في حياة لورنس يبرران لبريطانيا وللغرب كله طبعاً هذا الهدف، فيقولان ما ترجمته بالحرف الواحد:
"من حق بريطانيا أن تنظر بعين الاهتمام إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية الذي كان يعني دعوة خطرة بالنسبة إليها.. خصوصاً وأن هذه الإمبراطورية كانت عبارة عن وحدة دينية متماسكة يحكمها السلطان كخليفة للمسلمين، وزعيم لمسلمي العالم، فقد خشيت بريطانيا على وجودها في المستعمرات.. ففي الهند مثلاً حيث تتحكم بمصير حوالي سبعين مليوناً من المسلمين.. كان قلقها ينبع من احتمال تعاون هؤلاء المسلمين مع الإمبراطورية العثمانية بتلبيتهم نداء الخليفة بإعلان الجهاد المقدس.. مع اعتراف بريطانيا بمضاعفات الخطر الذي ينجم عن ذلك الجهاد.. إلاّ أنها قررت مجابهته.. معتبرة إياه أكثر أمناً لمنطقة الشرق الأوسط من الفراغ المحتمل الذي ستخلفه الدولة العثمانية وراءها".
كان الهدف الرئيسي إذن، رغم كل ظواهر الأهداف الأخرى، ومبررات الاستعداء على الإمبراطورية العثمانية، وادعاء الحرص على تخليص الشعوب المغلوبة على أمرها التي تحكمها هذه الإمبراطورية من مجموعة "الأفاعي السامة".
كان الهدف الرئيسي ولا يزال وسيبقى هو القضاء على كل وجود إسلامي متكتل.. حتى ولو كان هذا الوجود مهلهلاً لا يتعدى المعنى الرمزي، وإلاّ فما معنى تعريض هذه الشعوب المغلوبة على أمرها لحرب لا هدف لها منها.. ولا غاية ولا مصلحة؟!
إن أول وآخر وأهم ما يسترعي الانتباه، بعمق، في تقارير لورنس السرية إلى المخابرات البريطانية: تأكيده "الهستيري المحموم" والمخطط بإجرام ودهاء، على ضرورة إزالة ما يسميه خطر الإسلام!!
أليس خطيراً، ومن الضروري إمعان النظر فيه طويلاً، وطويلاً جداً.. هذا الربط المصيري للغرب كله، الذي قرره لورنس، بين أهداف بريطانيا من الحرب وبين قضائها على "المعنى الرمزي" للوجود الإسلامي، وهو آنذاك لا يضر ولا ينفع؟
ألا يقول لورنس في تقريره.. الآنف الذكر: إن بريطانيا لا يهمها أن تنكسر أو تنتصر في الحرب لأن انتصارها يتمثل في القضاء على الإسلام؟!!
أليس في هذا الكلام ما يقتضي أن نعيد النظر في كل أوضاعنا، أوضاعنا العربية والإسلامية برمتها؟! أليس فيه ما يوجب علينا أن نعيد للزلزلة الروحية الإسلامية أصالتها؟
ونحن نفكر في الإجابة عن هذه الأسئلة، التي لن يرى القارئ منها أي شيء هنا، لأنه ليس هذا من مهمة هذه الدراسة ولا من هدفها.
* * *
لنتابع لورنس في تقاريره.. نستشف أصيل الحقد الذي تعاني منه شرايين الحضارة الغربية إزاء حضارة الإسلام حتى ولو كانت في صورة مشوهة مبتورة، لا روح فيها، كما كانت أيام الإمبراطورية العثمانية.
يقول لورانس في تقريره "سياسات مكة":
"لو تمكنا من تحريض العرب على انتزاع حقوقهم من تركيا فجأة، وبالعنف.. لقضينا على خطر الإسلام إلى الأبد، ودفعنا المسلمين إلى إعلان الحرب على أنفسهم فنمزقهم من داخلهم.. وفي عقر دارهم.. وسيقوم، نتيجة ذلك خليفة للمسلمين في تركيا وآخر في العالم العربي ليخوضا حرباً دينية داخلية فيما بينهما، ولن يخيفنا الإسلام بعد هذا أبداً..!!
لن أعلق -يقول المؤلف- على مخطط لورنس هذا.. بغير السؤال الآتي: ألا معنى لبقاء، واستمرار، مجرد الشعور بالخوف من دين ما.. رغم مرور أكثر من 13 قرناً على بدء انتشار هذا الدين، ولنسمه أي مسمى آخر، يحلو للتقدميين وللثوريين وللخجلين من الحكم بالقرآن فقط.
ألا معنى لذلك ولو كان سطحياً؟
* * *
يتابع المؤلف حديثه بعد ذلك، ثم ينتقل إلى إيراد بعض آراء لكاتبين شهيرين من كتّاب الغرب اشتهرا بالاعتدال (؟) أحدهما فرنسي هو الباحث الاجتماعي "غوستاف لوبون" صاحب كتاب "حضارة العرب" الذي قال فيه: "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب".
والكاتب الآخر بريطاني معروف هو المؤرخ "توينبي" قيل عنه الكثير في معرض الإشادة بآرائه المنصفة للتاريخ العربي والحضارة العربية.
ومع ذلك فإن أقوالهما المنقولة في هذا الكتاب تهدم كل ما اشتهرا به من موضوعية واعتدال.. نعم: غوستاف لوبون.. وأرنولد توينبي.. لنتجاوزهما -إذن- فهما كغيرهما من كتّاب الغرب ممن لا يحملون للإسلام وتاريخ الإسلام، وحضارة الإسلام سوى الحقد والضغينة والبغضاء..
وأخيراً المؤلف: عندما عاد حكم التوحيد الإسلامي إلى الجزيرة العربية والأراضي المقدسة فيها.. قال الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي كانت بريطانيا والغرب كله.. في سبيل التآمر عليه وقهر حركته الإسلامية:
"لو اتبع المسلمون ما أنزل الله في محكم كتابه، وعملوا بسنة رسوله الأمين، لما أصابهم شيء مما هم فيه.. ولكانوا كما كان سلفهم الصالح قادة الأمم، ومرشدي الشعوب، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويحكمون بين الناس بالعدل، كانوا متحدين، فاكتسبوا باتحادهم قوة، وبقوتهم دولة، وبدولتهم رهبة وهيبة وسلطاناً عظيماً.. كان منهم الخلفاء الراشدون ومن اتبعهم بإحسان، كانوا المثال الأعلى في الدنيا، وكان لهم الجزاء الأوفى في الآخرة.
فهل من سبيل إلى الاتحاد، وجمع الكلمة، وتوحيد الصفوف؟
هل من وسيلة لنهتدي بها إلى الصراط المستقيم؟".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1712  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 42 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.