تفاريح العيد بعد التراويح والتسابيح
(1)
|
يقول الشاعر العربي القديم: |
وإنك أن أرسلت طرفك رائداً |
لقلبك - يوماً - أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله - أنت قادر |
عليه، ولا عن بعضه أنت صابر |
* * * |
|
ووجدتني أرددهما مرات حينما تناولت القلم لأكتب هذه الكلمة المرسلة.. استجابة لأمر أو دعوة رئيس التحرير.. وهو من لا أجيز لنفسي مخالفته رضا بما يطلب!! وماذا عساني أكتب؟ وقد حفلت الصحف والمجلات والإذاعات "والتلفازات"!! بما تضيق به المجلدات.. وتحيط به المعلمات أو دوائر الموسوعات.. وفي كل ما تتعدد به المشاهد الكبرى في هذا الكون العظيم.. |
لقد ظن بي الرئيس - أحسن الله إليه - خيراً.. ورغب إليَّ أن أساهم في هذا العدد الممتاز.. يصدره قبيل أيام عيد الفطر المبارك.. هادفاً إلى الترفيه به عن قرائه.. وكأنما يحاول بذلك أن يتقدم إليهم، بما يجدون فيه بعض الايناس والامتاع.. ويتمثلون به صوراً ناطقة من مشاهدنا الفارطة وملهياتنا الصاعدة الهابطة.. تعويضاً عن المباهج النفسية.. التي كادت تحجبها الأشباح الداكنة.. والأصوات المنكرة.. الخائنة.. والنزوات الحاقدة.. الضاغنة.. تتألم بها الأرواح.. وتتعاوى بها الرياح.. ويقئ بها كل ملحد وقاح وتريثت طويلاً قبل أن أتخير ما أكتب فيه.. أو أتحدث عنه.. وتمنيت أن لو كان لي أو في يميني يراع أستاذنا "القنديل".. أو ريشته المصورة المعبرة.. فقد سايرته في (جبله الذي صار سهلاً).. حتى انتهيت إلى أن رأيت سهله صار جبلاً يمتنع على كثير من ذوي البيان الارتقاء إلى ذراه.. |
وهكذا أقام الدليل الذي لا يكابر على الأدب الأصيل وأحيا ما اندثر من عوائد وتقاليد.. أشهد صادقاً أنه أجاد وأحسن عرضها عرضاً سينمائياً.. رائعاً، موفقاً.. |
وقلت: على طريقته أيضاً: هب أن لك مثل قلمه.. أو ريشته.. فأين أنت منه سعة أفق وملكة وصف واستقراء واستقصاء؟.. وضاق بي الوقت عن الجدال.. فسلمت أمري إلى الله، وتساءلت: في أي مجلس يحسن بي أن أصعد أو أصوِّب.. وأشرِّق أو أغرِّب..؟ أما "الصيام" وفضائله وبركاته.. ومثوباته.. وحسناته.. فقد أفاض فيه العلماء والفقهاء والمحدثون وأحاطوا به من جميع الجوانب.. وقاية - وتقوى، وهداية وفتوى، وتجرداً وانطلاقاً من عالم المادة.. إلى (الملأ الأعلى).. ابتغاء مرضاة الله وعفوه وغفرانه.. وإيماناً بما وعد الله به عباده المخلصين.. أولئك الذين يمشون على الأرض هونا. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.. والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً.. |
وأما ثماره الدانية.. وآثاره المباشرة في الردع والزجر والتثقيف والتهذيب.. والاتعاظ والاعتبار والسخاء والايثار.. وما يتجدد به ويتهجد ويتوجد كل من يؤمن بالله واليوم الآخر.. ويطمع بأن يظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.. بما ادخره للقائه.. وقدمه بين يديه ومن تلقائه، دون ما رياء ولا امتراء!! وإنما هو اليقين المحض.. والعقيدة التي تتهاوى دونها رواسي الجبال.. وما يتذكر به من تذكر.. ويتدبر به من تدبر.. غير مبهور ولا متحير.. ولا مجبور ولا متذمر.. حتى لكأن قلبه بين كفيه.. عابقاً بأريجه!.. خافقاً بنسيجه!! مشرقاً بالصدق والحق والشكر والصبر.. باسم الثغر منشرح الصدر.. و "مثله الأعلى" في ذلك وأسوته الحسنة.. من أرسله الله رحمة للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الأطهار. |
* * * |
وأما تأثيره في الأخلاق.. وتزكيتها.. والنفوس وطمأنينتها.. والصحة ووقايتها.. والأوردة والأنسجة وتنقيتها.. فذلك ما لا يحتاج إلى دليل وقد قامت البراهين على ذلك بالطب الحديث وشهادات نطس الأطباء في دنيا القرن العشرين القديمة منها والجديدة.. |
وإني - ورب الكعبة - لأحمد الله جل وعلا أنني شعرت بالصيام بما عجزت عنه كل العقاقير.. حتى لتشتد عزيمتي على اصطناعه واستدامته ما استطعت إلى ذلك سبيلا!! ولو أننا اتبعنا الهدى النبوي في ذلك (فلا نأكل حتى نجوع - وإذا أكلنا لا نشبع).. وتذكرنا دائماً وأبداً قوله صلى الله عليه وسلم: ما ملأ ابن آدم وعاءاً شراً من بطنه، فإن كان ولابد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث للنفس.. أو كما قال: أذن لكفانا الله شر البطنة.. (وما وراءها من ذهاب الفطنة)!! |
واستسمح القارئ العزيز.. إذا استطردت فذكرت إنني اضطررت ليلة إلى عدم السحـور.. بـما تضايقت به من اضطراب معدوي شديد.. فاكتفيت بكوب واحد من "ماء زمزم" وهو (طعام طعم وشفاء سقم).. فما ارتحت طيلة الشهر كله كارتياحي يومي ذلك كله نشاطاً واغتباطاً.. وانبساطاً.. وبهذا اقتنعت بأن هذا (الروتين) في تناول الأطعمة في أوقات محددة حتى بدون رغبة أو اشتهاء.. لا يجب أن يضطرد.. إلا في الأحوال العادية مع القابلية.. فإذا اضطرب الهضم.. فالصحة في أطراف الجوع وعفواً أيها الدكاترة.. فعنكم نروي وبكم نقتدي وإليكم بعد الله نفزع!! لا يحق لنا أن نتخذه قاعدة.. في جميع الظروف والأحوال.. سواء في أثناء الصوم أو خلال الإفطار.. ومما حفظته في الصغر قول الشاعر: |
وليس على النفوس أشد وطأ |
من ادخال الطعام على الطعام |
|
وإلى هنا.. أربأ بالقارئ أن يمل الحديث عما هو في حكم البديهيات.. فإن أغلب الناس قد مرت بهم هذه التجارب.. واستفادوا منها على حسب ما ملكوا من ذكاء.. وتبصر.. واجتناب لما يضر.. وحرص على ما ينفع بإذن الله. |
ومن ألطف ما قرأته في أدبنا القديم أن (مسحرة) كانت تقوم بهذه المهمة ليلاً.. فقال فيها الشاعر: |
عجبت في (رمضان) من مسحرة |
قالت: ولكنها في قولها ابتدعت |
تسحروا يا عباد الله؟ قلت لها: |
ماذا السحور؟ وهذى الشمس قد طلعت؟ |
|
واستأنف الكلام عما يجب أن تتوجه إليه ميولنا في هذه الليالي المباركة والأيام المتداركة.. فما أحوجنا إلى التذكير بما نسينا من عوائد الخير.. واصطناع المعروف.. والاستباق إلى البر وصلة القربى.. وجبر الخواطر.. ومواساة المعوزين والمتربين.. ومواصلة المنقطعين والعفو عمن ظلمنا.. والتسامح مع من شتمنا!! والإحسان إلى من أساء إلينا.. وأن نستغفر الله من سيئاتنا.. ونؤثر ولا نستأثر.. ونسخو ولا نبخل.. ونحلم ولا نجهل.. ونطيع الله ولا نعصيه في كل ما أمرنا به ونهانا عنه.. ونتعاون على البر والتقوى.. ونمسح دموع البؤساء.. ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر.. بالحكمة والموعظة الحسنة.. وأن نتورع عن كل ما يريبنا.. ونشكر الله تعالى على ما نتقلب فيه من نعمه التي لا تحصى.. وآلائه التي لا تستقصى.. استزادة لها بالحمد.. واستدامة بالشكر لكل ما خولنا من أمن وارف وعدل شامل وفضل عظيم، وذلك ما يحفزنا عليه ديننا القويم وفرقاننا الكريم.. وما لا نزال نتلقاه توصية وتذكيراً من لدن طويل العمر إمام المسلمين جلالة الملك المفدى "فيصل بن عبد العزيز" أدام الله نصره وتوفيقه.. |
* * * |
هذا ويطيب لي بهذه المناسبة السعيدة.. أن أقص حكاية قرأتها منذ أيام الشباب.. في بعض كتب الأدب القديم.. تتلخص في أن " المهلب بن أبي صفرة " القائد العظيم.. قال يوماً لأبنائه.. وقد اجتمعوا بين يديه: أي ثيابكم أو أكسيتكم أجمل وأحسن؟ فتبارى كل واحد منهم يصف له ما أعده أو امتلكه من خز وديباج.. وجباب وطيلسانات.. وانقوير)..! و " قرمسود ".. (مثلاً).. وما كادوا يفرغون من مباراتهم.. حتى قال المهلب: " اسمعوا: إن أجمل وأغلى وأحسن ثيابكم ما رأيتموه على غيركم.. ممن آثرتموهم به على أنفسكم..". |
وهكذا.. كان القوم في عنفوان مجدهم.. وأبان زهوهم ينشئون شبابهم وفتيانهم على "مكارم الأخلاق".. |
ويرحم الله أبا فراس الحمداني حيث يقول: |
أنا إذا اشتد الزمان |
وناب خطب وادلهم |
ألفيت حول بيوتنا |
عدد الشجاعة والكرم!! |
للقاء العدى بيض السيوف |
وللندى حمر النعم |
هذا وهذا دأبنا |
يودى دم ويراق دم |
|
وأشهد غير ما.. متحيز ولا متزلف.. أن ذلك وأزيد منه.. قد عرفه الناس وخبروه.. فيمن وفقهم الله وفطرهم على الإيثار.. ونحذر أن نجهر بهم وهم الحريصون على الأسرار.. وعلى أن لا نعلم شمالهم ما أنفقت إيمانهم.. ما اختلف الليل والنهار.. وما بهم أن يثنى عليهم.. وإنما همهم أن يحفظوا الله وما وصى به عباده الطيبين يحافظون على تراث الغر الميامين ممن يرفعون رايات المجد باليمين، ويبنون صرح الفخار في كل وقت وحين.. وبذلك كانوا وما يزالون مؤيدين مظفرين في جميع المواقف.. ولهم عقبى الدار.. وإننا لنرجو أن يكونوا وكل من سار على نهجهم المختار.. من المصطفين الأخبار.. |
وجدير بي - وقد اكتهل بياني.. وتقاصر عناني.. ومضى زماني.. وتداعت أسناني!! أن أستميح القراء معذرتهم.. وأن اقدم إليهم أصدق التمنيات.. وأعذب التبريكات بالعيد السعيد.. وأن أظفر بصفحهم عن (هذا الاسترسال) الذي لم يحملني عليه (اضطراراً) إلا محض اهتمامي بدعوة أخي (رئيس التحرير).. ولو أنني - وقد برز كتابنا وحلق شعراؤنا.. وبهر خطباؤنا.. ونصح علماؤنا.. إنما أحاكي "العم عرفة.." في "تلفزيوننا" المعجب المطرب.. وقد هزته الذكريات.. ولسان حاله يقول: |
أن الثمانين وبلغتها |
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان |
|
و "ما قارب الشيء يعطى حكمة".. وهنيئاً للمتقين.. صيامهم وقيامهم وتراويحهم، وللفتيان أناشيدهم ومراجيحم، ومصابيحهم.. وللشبان قيلاتهم وسمراتهم وتوشيحهم، وللكهول أمثالي.. قناعتهم.. وتسابيحهم، (وكل عام وأنتم بخير).. |
ولا باس أن انتهز هذه الفرصة.. فأرجو مع الشكر من إذاعتنا الفتية.. وتلفزيوننا المتطور المهذب أن يحرصا على ألحاننا الشعبية الأصيلة.. التي تتجاوب معها خلجات الأفئدة.. وخفقات القلوب فهما بذلك يسديان إلى (الأجيال الصاعدة).. كل جميل وكل معروف.. ولعلنا نرى بين (فلكلورات) أيام العيد ولياليه إن شاء الله.. (بعض ما كدنا ننساه من "الدانات اليمانية".. ذات الإيقاع المؤثر.. الآخاذ.. والرجولة والبطولة.. والفحولة.. فإن لها أصولاً عريقة.. تمتد بها الجذور إلى "معبد" و (ابن سريج) و (الغريض).. وما تزال لها آثار باقية في بعض متقدمي السن من أهل الشبيكة.. والهلجة وسوق الليل.. وغيرها وكانت من السعة بحيث لا تقل حلقاتها الحماسية من كل الحوائر.. عن (اثنتي عشرة) حلقة حضرناها وتكاد تجمع في سمرها الجميل جميع الأنغام.. أصولاً وفرعاً.. بما يتأثر به الإنسان والحيوان والجماد.. وهي مثيرة لمشاعر العزة والكرامة والشهامة والحماسة والرقة والغزل والطموح وسائر بواعث الحياة.. دون (رخاوة) ولا طراوة ولا تبذل ولا شذوذ ولا نشاز ولا انتحال ولا محال.. |
وإن من أمثالنا " غثك خير من سمين غيرك ".. وما طمعت في ذلك ركونا إلى اللهو.. الماتع.. ولا اللحن الضائع.. ولكن تطلعا إلى " الفتوة " التي لا يثيرها إلا (الشدو) النابع من الأعماق.. تماماً كالعرضة النجدية و " المزمار البلدي ".. صفاً ووصفاً.. ونصاً.. وفصاً. |
وكم هو باعث على الشجو والشجن؟.. وحب الوطن؟.. وحفز الهمم؟.. وشحذ العزائم أن يرتل الفنان أقوال الشعراء الفحول.. من كل جزل وكل رقيق.. كقول بعضهم: |
بنفسي من لو مر برد بنانه |
على كبدي، كانت شفاء أنامله |
ومن هابني في كل شيء، وهبته |
فلا هو يعطيني، ولا أنا سائله.. |
|
وكقوله أبي الخطاب غفر الله له: |
قال لي صاحبي ليعلم ما بي |
أتحب البتول أخت الرباب |
قلت: وجدي بها كوجدك |
بالماء إذا ما منعت برد الشراب |
أبرزوها مثل المهاة تهادى |
بين خمس كواعب أتراب |
وهي ممكورة تحير منها |
في أديم الخدين ماء الشباب |
ثم قالوا: تحبها؟ قلت بهرا |
عدد الرمل والحصى والتراب |
غصبتني فجاجة المسك نفسي |
فسلوها ماذا أحل اغتصابي؟ |
|
وكقول الشريف الرضي: |
سقى مِنى وليالي الخيف ما شربت |
من الغمام وحياها وحياك |
إذ يلتقي كل ذي دين وماطله |
منا ويجتمع المشكو والشاكي |
|
وكقوله أيضاً: وما أعذب وما أحلى.. |
أحبك ما أقام "منى" و (جمع) |
وما أرسى بمكة أخشباها |
وما رفع الحجيج - إلى المصلى |
يجرون المطي على دجاها |
وما نحروا بخيف منى وكبوا |
على الأذقان مشعرة ذراها |
نظرتك نظرة بالخيف كانت |
جلاء العين منى بل قذاها |
ولم يك غير موقفنا فطارت |
بكل قبيلة منا نواها |
فواها كيف تجمعنا الليالي؟ |
وآها من تفرقنا.. وآها |
فأقسم بالوقوف على (ألال) |
ومن شهد الجمار ومن رماها |
وأركان العتيق.. وبانبييها |
وزمزم والمقام ومن سقاها |
لأنت النفس خالصة فإن لم |
تكونيها فأنت إذا مناها |
نظرت ببطن مكة أم خشف |
تبغم وهي ناشدة طلاها |
واعجبني ملامح منك فيها |
فقلت أخا القريبة أم تراها؟ |
فلولا إنني رجل حرام |
ضممت قرونها.. ولثمت فاها |
|
أقول: بمثل هذا الغزل العف الرقيق.. وهذا الأسلوب السهل الممتنع.. وهذه الأصالة زماناً ومكاناً يحسن بنا أن نتغنى.. ونتمنى، وأعتقد أننا في هذا المجال أغنى أمم الأرض بالفطرة.. والجِبِلّة.. ونملك أن نزعم إذا ما حفظنا الفن من الشوائب التي تذهب بأصالته ورونقه إننا نلقنه ونحسنه ونعلنه ولا نريد إضافة عليه إلا من صميم البيئة.. وأعماق الوجدان.. وكل تقليد.. مهما بلغت منزلته من الجودة والإتقان فإنه دخيل. ولا أثر له ولا تأثير مطلقاً في غير أهله وما أصدق الفنان الخفيف الظل والروح.. (الأخ حسن الدردير) حين زعم صادقاً أن ألحاننا الشعبية القديمة.. هي (الغناء) المعجب.. وأغلب الظن أن (أبا علي).. لم يخلُ من موهبة غنائية.. في (الجوق) و (الصهناء) أو (اليماني).. ونحن في انتظار برامج العيد ولياليه.. لنرى ونسمع.. ما تقر به العيون وتسر القلوب إن شاء الله.. |
وما ألذ وأحلى ما تخيره "التلفاز" من أبيات القصيدة (اليتيمة) وتلحينها وإنشادها في سمت وقول ونور وسقى الله عهود الصبا: |
(يوم كنا ولا تسل كيف كنا |
نتهادى من الهوى ما نشاء) |
(والصبا يخفق في أطرافها |
مثلما يخفق في القلب...) |
|
وليحفظ الله الإسلام والمسلمين وليهدينا السبيل.. إنه نعم المولى ونعم التصبر.. |
|