وما توفيقي إلا بالله
(1)
|
الفاضل: |
تحية وسلاماً تصفحتُ سؤالكم: عمّا إذا كان من مصلحة الأمة العربية أن يحافظ كتابها وأدباؤها على أساليب اللغة العربية الفصحى، أو أن يجنحوا إلى التطور الحديث ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم القيود اللغوية ويسيروا على طريقة عامية مطلقة. |
وإني مع الاعتراف بقصر باعي عن السمو إلى هذه المعارج، التي لابد للمتدرج فيها من مادة غزيرة وتضلّعٍ في الأدب واطلاعٍ على مدوناته في الغابر والحاضر حتى يصح أنْ يختارَ الأصلح، لا أتردد عن الجواب بدافع القومية خصوصاً بعد أن جعلتموني موضع عنايتكم وتوخيتم من طرح هذا الموضوع للبحث والمناقشة استخراج نتيجة مرضية. |
فأقول: إني من أنصار الإيجاب في السؤال الأول: وهو ضرورة اقتفاء الناشئة لآثار السلف في كافة تعبيراتهم عن مختلف الشؤون والأغراض، ولست أعني بالسلف مَنْ تقدم منهم في القرون القريبة الأخيرة، بل الصدر الأول في الإسلام ومن بعدهم من نبغاء النَّظْمِ والنثر في الدولتين الأموية والعباسية في الشرق والغرب، وكلُّ منصف مطلع لإرتابُ رضوخه لهذه الحقيقة الناصعة إذا تجرد عن الهوى ولم يأخذ بمجامع قلبه الأسلوب الذي نسج على منواله بعض أدباء السوريين في العالم الجديد. |
إنّي لا أغالي إذا قلتُ طالما وقع بصري على قطع منثورة حاك أبرادها نابهو الذكر منهم في الخيالات وترسلاته فوددت أنْ لَوْ أجد في نفسي شيئاً من الانشراح منها أو الميل إليها، فلا وربك لأَن أستعيدَ رسائل |
(ابن زيدون) ومَنْ في طبقته من أساطين الأدب وحُماته في عصره المجيد في كل فرصة تسنح ألف مرة ومرة أحب إليَّ مِنْ كل ما خطه بنانٌ في مَهَاجِر الأمريكان لِمَا في الأولى من الألفاظ الفصيحة السالمة من شوائب التعقيد والمعاني البليغة التي تمتلك الأفئدة وتستوجب التمجيد، عدا الأمثال الشاردة، والتفكهة النادرة، والحكمة البالغة، وما هي عليه الأخرى من الإسهاب الممل في غير جدوى. |
ليسمح لي إخواني من الذين راق في نظرهم ما توشّيه اليراعات المنطلقة في فضاء الخيالات وعماء الغوايات، بالتماس العفو منهم عن هفوتي إن رأوني أجحفتُ في التعصب للغة الفصحى، ولذوي المكانات السامية في صوغ جواهرها وأحكام أواصرها وبالغت في مقت الطريقة المستحدثة من فئة خاصة وليحملوا ذلك على اعتبارات - يأتي الكلام عليها فيما بعد - حدت بي إلى هذه الجرأة، إني أعبر في الحقيقة عن رأيي الخاص وعلى مسؤوليتي، وهذا حق الجميع في الإعراب عن ملاحظاتهم، إذن فأي مانع يحول بين الكتّاب والشعراء وبين أن يطرقوا أبواب الخيال والتصور بحسب ما تؤهلهم إليه ميزاتهم وإلى أبعد مدى تصل إليه مداركهم على أن يسبكوه في قالب جميل من مختار الألفاظ وجيد المعاني ويراعوا في ذلك درجات الفهم في طبقات الأمة، ولو في الخاصة، حتى يحصل الغرض المنشود ويحلوا أجياد منثورهم ومنظومهم بطرف الأدب العالي، محافظين على أصول البلاغة التي هي الطريق الوسط بين الإيجاز المخل والإسهاب الممل. |
متى تأملنا قليلاً نجد أن الغاية مبدئياً من اللغات كافة إنما هي التفاهم بين الأفراد والشعوب لقضاء المصالح المشتركة في معترك الحياة بين الجميع، وقد شرّفَ الله لغة العرب وخصها (بخير أمة أخرجت للناس) ولها فضلها في هداية الأمم الإسلامية بإعجازها وبيانها وهيمنتها وسلطانها على مشاعر النفس وحبات القلوب، فإذا تقررت هذه الحقيقة في أذهاننا أمن الأنصاف العقوق بها؟ والبر بمستولدات أبرد من ليالي الشتاء. كلا ثم كلا. |
وأيم الله لتجدن في (نهج البلاغة) لإمام البيان (والأغاني) و (نفح الطيب) و (قلائد العقيان) ودواوين الجاهلية والإسلام المخضرمين والمولدين خير بديل عن (الأرواح المتمردة) وأشباهها المحشوة بطائنها من استبرق الزيغ والضلال وإنّها لأكبر هادم يعمل معاوله في الرمق الذابل من حياتنا الأدبية والدينية، إن الأسلوب الصحافي العام في الأقطار العربية بلغته الحاضرة ولهجته السائرة لهو من بوادر النجاح وبواعث الارتياح، وقد تطور بخطى واسعة وفي وقت يسير، وسوف لا يمضي القليل من الزمن حتى يوقظها النهوض من وسن المحن فتستعيد رونقها الرائع وصيتها الذائع. |
وفي يقيني أنه لو تسابق (نشؤنا الراقي) على الخصوص وكافة الشبيبة المنورة في الجزيرة في تلك الحلبة، وصوبوا إسهام جدهم وثباتهم إلى الهدف الشريف لأقاموا ما اعوج من صرح اللغة بانصرافهم إلى التقليد وظنهم أن خير ما يفعلونه الاقتداء بمعشر منهم امتزج بأمم تختلف في الأخلاق والعادات عن شعبهم الذي أمسى يتكامل أفراده عن أحياء مآثرة - في اللغة ورسائلها - في حالة العدم من الوجهة الأدبية بعد أن كانت منتجع الرواد ومكترع الوراد، أجل إن لأولئك المهاجرين من أبناء الضاد بحاضرة (واشنطون) فضلهم وعبقرتهم وتفوقهم في المواضيع التي اختاروا البحث فيها، وهم بحكم الوسط الذي يعيشون فيه لا يجدون بُدّاً من سلوك طريقتهم الإنشائية المعهودة التي أصبحت خاصة بهم دون سائر الكتاب في كل قطر ومصر وعند ذلك يعترف لهم بنو أبيهم بما تلألأ في سماء نواديهم من زواهر اللغة والإبداع وما عُرِفَ عنهم من المهارة وقوة المثابرة ودوام الجهاد في محاكاة جهابذة الشعراء والناثرين في الأمم المتمدنة، ولا ريب أنهم قد بلغوا الشأو القصي نحو غايتهم واكتسبوا الثناء والإعجاب من أقرانهم، وهنالك من تصدى منهم لتعريب نفائس المبتكرات من مجبرات الغربيين كما تولى البعض ترجمة محاسن لغتنا إلى اللغات الحية في القرن العشرين فكان لعملهم هذا أحسن الأثر في خدمة أمتهم وكشف القناع عن مقدرة لغتهم. |
أما نحن - أبناء الجزيرة عامة وهذه البلدة المقدسة خاصة - فليس لنا أي عذر نقدمه لأنفسنا تجاه الحقيقة والتاريخ في قصورنا وتوانينا عن التهافت على مؤلفات الاختصاصيين في كل فن من علوم اللغة وقواميسها والبلاغة وكراريسها والنسج على منوال ما دبجته أقلام السابقين الأولين فكل الصيد في جوف الفرى وأمامنا العدد الوفير منها. |
لقد بلغت حضارة العرب منزلة فذة في قرون عديدة ودول مشيدة، وكلما امتد سلطانهم إلى قطر من المعمورة نبذ أهلوه لغاتهم بمدة وجيزة وتحولوا إلى لغة القرآن الشريف، ولا يزال غالب تلك الأمصار التي تمتعت بعصورهم الذهبية تتكلم العربية حتى اليوم - بصرف النظر عن أدوار الانحطاط والوهن في تراكيبها - وما ذلك إلا لاتساعها وصلاحها وضمانها لتأدية كل ما يعرض للبشر من المعاني والأغراض، وإذا كان أسماء المخترعات الحديثة الأدبية ما لم يظفر الكتّابُ والصحافيون بتعريبه فما ذلك لأنها غير وافية، ولكن للتخاذل المطرد من أبنائها الذين تقع مسؤولية صعودها وهبوطها على عواتق خاصتهم دون غيرهم. |
وعندي أن أفضل ما يستشهد به في هذا المقام ما جاء في مقدمة (تذكرة الكاتب) للمحرر القدير أسعد خليل داغر بعنوان (خوارج الأدب) قال: إن الكلام على الإهمال يقودني إلى ذكر شيء ولو على سبيل الاختصار على ثورة يثير غبارها ويشب نارها بعض المردة الذين خرجوا في هذه الأيـام على نظـام اللغة الشامل لجميع علومها وآدابها خروجاً أشبه بشق عصا الطاعة للحكومة أو بعقوق الوالدين، وكأن الناس لم يكفهم في الوقت الحاضر ما يعانونه من شرور البدع والأضاليل في الدين والسياسة والعادات القومية وغيرها حتى يُبْتلُوا بخَطْبِ هؤلاء الخوارج الذين قاموا على اللغة يطعنون في قواعدها وأحكامها ويتناهدون حماتها الذائدين عن حرماتها ويبالغون في ازدرائها وتضليل آرائهم وتسفيه أحلامهم. وكثيراً ما تراهم يجاوزون حد القدح في اللغة إلى الوقيعة في أئمتها الذين وضعوا أساسها ورفعوا في الخافقين نبراسها، وقيدوا شوارد مفرداتها وجمعوا قواعدها وأحكامها وجلوا غوامض علومها وفنونها، وجعلوا ذلك كله في كتب تسهل علينا ورود مناجعها وورود مشارعها فيبخسونهم حقهم ويجحدون فضلهم ولا يذكرون لهم واحدة من هذه الحسنات ولا يقتصرون على إنكارها، بل لشدة غلوهم في الجور والتحامل يعدونها كلها سيئات ويزينون للشعراء والكّتاب أن ينظموا ويكتبوا كيف شاءوا لا يراعون أحكام الصرف والنحو والمعاني والبيان ولا يتقيدون في الشعر بالجري على قواعد عِلْمَيْ العروض والقافية، قائلين لهم أن هذه القواعد والأحكام وُضِعتْ لاعتبارات طوتها الأيام وفي أحوال ظلها ولونها حال، فهي إذاً مما عتق وشاخ ولابد لها من الانحلال والاضمحلال، وهذه الغارة الشعواء يشنونها على اللغة ويسعون في أن يقوّضوا مكانتها وقد دعا الكّتاب والشعراء والمؤلفون والمعربون وبالجملة (وجوه الصناعتين) على سلوك الطريق الذي يصون اللغة عن الابتذال والاضمحلال ويقيل عثرتها من تعقيد الألفاظ وغريبها ويأخذ بيدها إلى الفصيح المفهوم والبليغ المسجوم. |
وبالجملة فإن المحافظة على أساليب اللغة العربية الفصحى أو الجنوح إلى الطريقة الحديثة أمران متحدان متلازمان لا اختلاف بينهما في الغاية إلا ما قد يوجد في الأولى من نافر اللفظ ووحشية، وفي الأخرى من تمرد المعاني وتجاوزها إلى الخيال المطلق الغير محدود بحيث يعسر على غير منشئها ومن على شاكلته إدراك مراميها، إن حصر البحث في اللغة وضرورة الوقوف عند هذا الحد الضيق لا يمنعني من التنويه بالأضرار اللاحقة بالأخلاق والدين من بدع المغالين وانطلاق المشعوذين وراء (العوالم المادية والطبيعية) التي قلما تخلو منها كتابات النازحين ومعربات الأوروبيين. |
ومن السهل جداً دفع هذا المحذور بأن نَرْغَبَ - نحن معاشر المسلمين - من مطالعة كل ما ينافي أخلاقنا وآدابنا وتقاليدنا التاريخية، وإلاّ أصبحنا أمثلة في التذبذب ونكون (كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، قد يقول البعض إن المراد من مطالعة تلك الروايات والترهات إنما هو تمكين ملكة الإنشاء في الناشئة، فما أجدرنا بتصفّح تاريخنا الذي لم نلم به كما يجب فضلاً عن الإحاطة بحوادثه الكبرى وفيها من العظة والتفكهة ونظام الملك وتدبير الأحكام وتطور الشعوب ما ليس وراءه غاية لمستزيد وبذلك نتوفق إلى الغرض المقصود ونتحاشى عن المزالق الخفية المبثوثة في أحشاء كثير من المبتكرات الحديثة مما ينافي الدين والأخلاق. ولئن كان تمكين مَلَكَةِ الإنشاء إنما يحصل بسقوطنا إلى الحضيض الأسفل في عقائدنا فأولى بنا الجمود والركود مع المحافظة على قواعد الدين واتباع أوامره واجتناب نواهيه. |
وكأني بمعترض: أن الإدمان على مطالعة تلك الروايات وأمثالها لا يؤثر قطعياً على الدين والأخلاق لأننا نتلقى الطيب وننفي الخبيث فأقول: إذا كان الأمر كذلك فلا بأس ولكن مهما بولغ في الحيطة والحذر فلن يسلم صغار العقول المحرورين أو المغرورين بزخارف المدينة الأوروبية من تشرب أفكارهم بتلك الروح السائدة بين أحشائها. |
وحسبي من هذه الرسالة أن انتهز الفرصة لأعرب عن صميم فؤادي عن جزيل شكري وإعجابي لسائر إخواني أدباء الوطن المفدى المشرئبين لإحراز قصب السبق في ميدان الحياة وأتمنى لهم مستقبلاً زاهراً ونجاحاً باهراً. |
وفي الختام تفضلوا بقبول فائق الاحترام |
|