شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مِن هَمس الذكريَات
ترددت أصداء هامسة من الذكريات في قلب الشاب فتململ فى فراشه كأنما افترش شوكاً.. وكانت ليلة طاخية شديدة الحر حاول فيها أن يستميل الكرى فما وافاه.. وحاول ألواناً من القراءة فاستغلق ذهنه واستبهم عليه ما يقرأ وما يكتب فلم يجد بداً من الاستلقاء والتفكير.. كانت الغيرة – تلك الأفعى الفتاكة – تنهش فؤاده وتنفث فيه السموم فيحس أن صدره سينفجر وأنه في حاجة إلى مزيد من الهواء يستنشقه عله يريحه وينقع غلته.. وكان هذا اللون من العذاب جديداً عليه لم يقاسه من قبل فأورثته مفاجأته خبالاً..
كان يتصرف تصرف الحمقى فغدا يتصرف تصرف الأطفال.. يغضب لغير مغضبة.. ويرضى وما استرضى.. ويرعد ويبرق ويهدد ويتوعد فتحسب أنه سينسف الجبال ويقطع الوشائج، ويخاصم إلى الأبد ثم تهدا ثورته بابتسامة ومعذرة كما تهدأ فورة الماء المغلي فجأة إذا نحيت من تحته النار..
ويعد القنابل الكلامية إعداداً جباراً، وهو اللسن المقول ليواجه ويتحدى.. فإذا بتلك القنابل (فقاقيع) تتلاشى وتتطاير في الفضاء عند أول مواجهة ويثار لكرامته بسيفه الخشبي فيثير الضحك والاستهزاء، بعد أن كان مثالاً للعزة والترفع؟ لقد عاش مع صديقه (ص) عمراً مديداً وسجلا صداقة لم يسجل مثلها تاريخ الصداقات إلا قليلاً.. لقد ضحى في سبيل صديقه بأعز شيء في الوجود، وما كان يرى أنه وفاه حقه من التضحية والفداء.. وخفف من صلاته بالناس حتى كادت تنقطع ليكون كل وقته وقفاً على ذلك الصديق.. ولم يكن (ص) بأقل منه تضحية له وتوفراً عليه.. فلماذا اختلف النهج وتزحزحت الفطرة؟ ولماذا صار رمية لرام يعذبه بالسمع والبصر؟
وسولت له نفسه أن يفصم العروة التي تربطهما ثم هالته الفكرة الوخيمة فتراجع وقلب الأمر على وجوهه بعد أن تجرد من ميوله وأهوائه فلم يستطع أن يحكم له أو عليه.. وأخيراً تذكر حاسته المرهفة وطبعه الظنين فتنهد وعرف من أين أخذ.. فهو بحساسيته وطبعه، يجسم الحوادث كما يجسم (الميكروسكوب) الذريرات إلى أضعافها فتبدو كالكتل الضخمة وما هي -في حقيقتها- إلا ذريرات ضئيلة، أو هي على الأقل كذلك في عالم المرئيات المجردة من التجسيم والمضاعفة.. عالمنا الذي يجب أن نقنع فيه بالواقع وأن لا نجاوزه إلى الخيال إلا إذا أغرمنا بالشقاء والويلات.. ورضينا أن نكون من ذلك الطراز الذي يضيء للناس ويحرق نفسه..
قال الشاب لنفسه –وقد برم بانفعالاتها وبدوَّاماتها– هبى –يا نفس– أن أوهامك حقائق فماذا أصنع لقد بنيت الدنيا على الجحود فإذا اطرد القياس فلا عجب، وإنما العجب هو انعكاس القياس.. والوفاء نادر فلم تولعين به وهو بعيد المرام.. لئن واتاك فتمتعي به، ولئن جافاك فما أنت أول مجفوة منه فتجلدي وكيلي بما تكتالين وإلا فأنت فريسة الأوهام.
كل الكائنات تتغير حتى الجماد فما بالك بالقلوب التي يقول فلاسفة اللغة إن اسمها مأخوذ من التقلب؟ الم يقل كثير – أحد عشاق التاريخ الخالدين –لفاتنته عزة– حينما لامته على أنه تغير وانصرف عنها (ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟) لا أحد. فشيمته يتقلب ويتحول.. بل لعل شيمتهم شر من ذلك.. ألم يقل المازني لصاحبه:
هذه كفي على خون العهود
... لا على الصون فهذا لا يكون!!
نعم إن صون العهود لا يلاءم الطبائع البشرية لأنه ثبات.. أما الخون فإنه تحول وهو به أخلق وإليه أميل وألصق فارعوى ولا تنشدي المحال.. وانقشعت السحابة العارضة ولم تمطر شقاقاً ولا تمزيقاً.
وكاشف الشاب صديقه بما يختلج في صدره –بعد أن– أعيته الحيل في قهره – فأوضح له تصرفاته وبررها بما يقنع العقل ولا يرضى الفؤاد.. وزاد،. وإنما هي الظروف التي لبس لها لبوسها رغماً فإن أظهرته بمظهر المتغير فإنما التغيير في السطوح لا في الأعماق وفي العرض لا في الجوهر.. وانزاح الكابوس عن صدر الشاب بعد أن كاد يقضى عليه وعلى ما يعتز به من مثل ومبادئ.
أيتها الغيرة الشائهة كم لك من ضحايا غررت بهم حتى أوردتهم موارد الهلاك.. فسحقاً لك ولوجهك الكريه..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :491  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 18
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.