عـن الكتـاب لا عن "الكاتب" |
كان عسيراً عليَّ أن أقْبَل.. وأُقْبِل على كتابة هذه السطور القليلة أو الكثيرة.. والتي سيأتي موقعها في "مقدمة" هذا الكتاب المثير و"الثمين" لشاعر الأجيال والوطن والكبرياء "محمد حسن فقي".. والتي سيؤول أمر توصيف القراء لها في النهاية على أنها "المقدمة" لكتابه "السنوات الأولى".. وهو الأمر الذي لا أقوى على احتمال حدوثه إذا حدث، فإذا كان شاعر الكربة والغربة وفنان الكلمة وفيلسوف الفكرة "حمزة شحاته".. القدير والجدير قد حاول الإفلات من كتابة "المقدمة" لـ "شعراء الحجاز".. وهو يزأر قائلاً: "إنه.. أمر يهول"، فلما استسلم له "بعد أن سُدَّت في وجهه أبواب الهروب والإفلات".. اخذ يسخر من فكرة "المقدمة" و"المقدم" برفق في البدء عندما قال بأن "المقدِّم.. وسيط بين الشاعر وقرائه".. وبعنف في المنتهى تشتم منه رائحة الضجر والرفض لاستسلامه عندما قال: "فما يسهل عليَّ أن أنزل منزلة المُعلن أو قارع الجرس أو السمسار.. يروج السلعة بالباطل".. ثم استقر به المقال والرأي إلى أن يوظف "مقدمته" -بذكاء.. لم يفده أيضاً- في الرد على مقدمة "الشعراء الثلاثة" التي كتبها "زعيم" أدباء عصره "محمد سرور الصبان" عنه وعن "العواد" و"القنديل" عندما قال محتداً ومحتجاً "فما زلت أرى أن الناس ينالون بالحظ أضعاف ما ينالون بجد المساعي حتى في دنيا الأدب والشعر.. والتقديم". فما بالي بنفسي وحسن ظني بحواسي وعقلي.. حتى أدفع بهم إلى حمأة احتمال لا أريد له أن يحدث.. ولا أقوى عليه إن حدث. ولست أراني -إن ترسمت الواقع- إلا ابناً من أبنائه.. ولست أراني – إن غالبني طموحي– إلا شبلاً من أشباله.. فكيف لي أن أقدمه.. أو أقدم لـ "كتابه"؟ |
*** |
ثم.. كان عسيراً عليَّ أن أقْبل ثانية، فلم يقدم كاتبٌ لـ "أيام" طه حسين... ولم يقدم ناقد لـ "زهرة العمر" للحكيم.. ولم يقدم شاعر لـ "حياة" صلاح عبد الصبور.. "في الشعر".. حتى ترسخ بإمعان الفهم والتيقن والتأمل العميق بان ذلك التواتر قد خلق "قاعدة ذهبية" لا يفضل الخروج عليها شيء.. بقدر ما يستحب الإبقاء عليها والتمسك بها، ولم يكن "الفقي" كاتباً وشاعراً.. بأقل ولا بأعلى من هؤلاء.. لو أسعفه زمانه وأعانته بيئته ولم يحتبسه قمقم المكان. فـ "أيام" الكاتب و"زهرة عمره" و"حياته" في الشعر أو في غيره من الأجناس الأدبية.. وهي تتحدث عن زمانه وأزماته.. وبداياته وصداماته.. أفراحه وأتراحه، وهي تقص علينا قصص أقداره وانكساره، وهي ترفع الستار عن العواصف التي واجهها والنسمات التي استقبلها.. فشقت صدره ووضعت فيه بذور العظمة والشقاء: عناصر التكوين الأولى له كاتباً أو أديباً أو شاعراً أو فناناً.. هي في حقيقتها "مقدمة" لميلاده وحبوه، مقدمة لخروجه وعلى شفتيه كلمة وفي عينيه دهشة، مقدمة لظهوره وقد امتشق قلمه وعرف طريقه.. مقدمة لا تحتاج إلى "تقديم". مقدمة لا تحتاج إلى "مقدمة". أخرى، لكن شاعر المقاومة الفلسطينية الثاني.. الملتهب والجريء "سميح القاسم" خرج عن هذه القاعدة الذهبية عندما قدم لـ "رحلة صعبة.. رحلة جبلية" للأديبة الفنانة.. والشاعرة الإنسانة: "فدوى طوقان".. إحدى ربات الشعر العربي المعاصر.. التي كانت قصائدها.. كحياتها.. كأيام وطنها العاثر مليئة بأحزان نبيلة، صابرة. متوهجة متفجرة.. لا تأسو فيها على قلبها وجراحها وجراح وطنها بل كانت تلهب بها قلوب مواطنيها حماسة وثأراً وتضيء بها عقولهم بحثاً عن دروب الحرية والخلاص.. حتى قال أشرس وزراء دفاع إسرائيل "موشى دايان" بأنه "لا يخشى السلاح العربي.. بقدر خشيته من قصائد فدوى طوقان البكائية" التي احسب أن "سميح القاسم" قد لثغ بأولى قوافيه وقصائده على نسقها، على أن "سميح" وقد خرج عن تلك القاعدة الذهبية.. فقد حاذر -بذكائه ووعيه- من أن يسمي ما كتبه لـ "مذكرات" فدوى طوقان و"أيامها الجبلية.. ورحلتها الصعبة".. بـ "المقدمة" بل أعطاه عنواناً آخر هو: "الكشف.. والاكتشاف".. ثم تحدث عن ما أحدثته أيامها وقصائدها من تنوير وتثوير وتغيير.. ليختتم كلمته بوقفة في محراب تقديرها وإكبارها مرتلاً وداعياً وراجياً: "لتكن فصول حياتك.. أطول من فصول هذا الكتاب".. فإذا كان "سميح القاسم" قد فعلها مرة.. فلا يصح اجتراح "القواعد"، والخروج عنها، أو عليها أكثر من مرة..!! |
*** |
نعم، لكل ذلك.. كان عسيراً عليَّ أن أقبل، وفي المقابل وبذات القدر.. وأكبر منه.. كان عزيزاً عليَّ أن أعتذر.. فـ "الفقي" ليس ممن يعتذر له.. فهو فوق الاعتذار أولاً.. وهو فوق الاعتذار ثانياً.. وهو فوق الاعتذار ثالثاً لأسباب ليس "أولها" أنه رابع القمم الشعرية التي لم يختلف الناس حولها في بلادنا ماضياً وحاضراً.. وخيمة تتوسط وادي عباقرة الشعراء لا تتخطاها ولا تخطئها العين.. وغيمة مثقلة بالحيرة والحزن والأحلام سالت عبر وادي الشعر فاخضرت بها أرضه وتلونت بها سماؤه، وليس "ثانيها".. هذا الولاء الحميم للفكر – والانشغال بالكلمة الذي أنساه كل شيء... ليتواصل عطاؤه إلى ما ينوف عن ستة عقود من الزمن... حتى شاخ القلب ووهن الجسد ولم تشخ الكلمات، ولم يهن الفؤاد. إنه و"الجواهري*
(1)
" في هذا صنوان يثيران الدهشة بمثل ما يثيران الإعجاب، وليس "ثالثها" هذه المكانة التي تسنمها عن حق وجدارة.. وهذا الإعجاب الذي يطوقه من القريبين منه والبعيدين عنه.. ومن الأجيال التي جاءت بعده بعشرات السنين.. فالمفكر والكاتب الصادق "احمد محمد جمال" يقول عنه "إنه البحر في أحشائه الدر.. كامن".. والشاعر المصري العذب "فاروق شوشة" يقول وقد وقف مبهوراً أمام أعماله الكاملة: "أنه أضخم إنتاج شعري لشاعر عربي معاصر".. والشاعر النابض الحي رغم كل شيء "غازي القصيبي" يقول عنه: "شاعر كبير قدير.. يستطيع أن يترجم ما يريد في أربعة أبيات.. متدفق كالبحر.. عذب كالنهر" والرائد العملاق "محمد حسن عواد" يقول من قبل بذات كبريائه وولعه بالتراكيب اللغوية "الشعراء في المملكة يجمعون في قول: عس.. شف
(2)
"، ليس لكل هذه الأسباب أحجمت عن اعتذار كان سيؤرقني.. وأزحت عن نفسي تردداً ما كان يجمل بي وبموقعه مني وموقعي منه ولكن لسبب معها وبينها.. وربما يتقدمها هو هذا الحب الخابي حيناًً والظاهر حيناً آخر لـ "الوطن".. لأرضه وسمائه وإنسانه.. ودمدمات الحزن له التي تسفر عن نفسها زمناً.. وهمهمات الدمع عليه التي تتخفى زمنا آخر: "لو أنه ناداني.. أجبت لو – استطعت من الضريح". |
لقد طوى هذا الحب كل أسبابي.. فصحبت "النسر" في رحلة العودة والتذكر هذه.. لأجوب معه "السنوات الأولى" والأيام التي لا أعرفها على أنني حرصت منذ أن جلست إلى أوراقي لكتابة هذه "السطور" أن أتجنب مزالق النقاد بين الإفراط في المديح والإفراط في سلق الشعراء والكتاب بألسنتهم.. بأقلامهم، فقد قالوا عن نقاد شاعر الباكستان العظيم "إقبال".. وقد كانوا من الفئة الأولى: "أن غاية جهدهم أن يرسموا إقبالاً لا في صورة إنسان يحارب خرافة تقديس ما ليس بمقدس.. بل في صورة صنم يُتعبد له.. بارد ومخيف"، وأصاب "فولتير" بشواظ سخرياته ثاني شعراء "إنجلترا" العظام – بعد وليام شكسبير– "جون ميلتون" عندما قال عنه: "ستطول شهرة ميلتون.. طوال إعراض الناس عن قراءته".. ووقف الكاتب الفنان "يحيى حقي" من "شوقي" وقفة اعتدال -كما اعتقد- بعد أن دافع ونافح عنه أمام ناقديه وما كان أكثرهم وأظلمهم في زمانه: "إذا قال بعض النقاد عن شوقي أنه يسف.. فيبقى أن يضيفوا في المعنى لا في الرقص" لأنه كان يتصوره أو يراه "راقص باليه مغروز في لجة من الضوء.. وسط الظلام"، ومن حسن حظي أنني لا اكتب هذه السطور عن "الفقي" شاعراً.. لأخذ سبيلي متخففاً واثقاً مطمئناً نحو هذا الكتاب "السنوات الأولى".. واجداً طريقي إليه كما وجد "حمزة شحاته" من قبل طريقه وهو يقدم "شعراء الحجاز".. أو خارجاً على تلك "القاعدة الذهبية" كما خرج "سميح القاسم" عليها وهو يكتب عن "الأيام الصعبة.. الأيام الجبلية" لفدوى طوقان.. |
*** |
قبل أن يمتد بصري إلى السطور الأولى من هذا الكتاب.. كان عدد صفحاته القليلة يثير دهشتي وعجبي وفضولي.. ويجعلني في مواجهة أسراب من الأسئلة.. لا أُبعد أولها إلا ليحط على عقلي وقلبي آخرها: فكيف لهذا البعض والثمانين صفحة أن يحيط بسنوات الدهشة والحلم والاصطدام بـ "الواقع" في حياة هذا الطفل.. هذا الشاب.. وهذا الرجل الذي سيصبح فيما بعد واحداً من أبرز كتابنا وشعرائنا ببعد فلسفي متميز. واضح غريب على زمانه ومكانه وبيئته؟ وكيف لهذه الصفحات الشحيحة أن تلم شتات نفسه المبعثرة الحائرة.. الباحثة عن كمال لا تجده.. وإن وجدته رأته دون ما تصبوا إليه؟ وكيف لهذه الصفحات على قلتها أن تجمع فورة حياة شاب "ما يرى في الوجود شيئاً حراماً.. بل يراه شيئاً مباحاً"؟ وكيف لها أن تُجمل نبضات قلب رجل يصيح بنفسه ووطنه "ضربت من الأمثال ما لو ضربته لصخر.. لجاش الصخر بالماء صافيا".. بعد أن قال له احدهم: "قد يدرك المتأني بعض حاجته – وقد يكون مع المستعجل الزلل".. فرد عليه من لامية "الهذلي" نفسها قائلاً: "وربما ضر بعض الناس صبرهم على التأني.. وكان العزم لو عجلوا"؟ لقد قفز إلى ذهني تلميذ "فلسفة الوجود".. وأستاذها.. فرأسها "جان بول سارتر" وكتابه الرائع "الكلمات".. الذي روى فيه قصة الثلاثة عشر عاماً الأولى من حياته في أكثر من مائتي صفحة.. وتحدث فيه عن "حزنه" الذي كان "يفرض احترامه ويؤسس أهميته".. وعن "ماهية" نفسه الضائعة "اختصاراً لم تكن لي نفس".. و"وجوده" الغائب "أردت أن اشعر سائر الناس في كل الأمكنة الأخرى بحاجتهم إليَّ مثل حاجتهم إلى الماء والخبز والهواء".. وما انتهى إليه "اختياره" أخيراً في "أن يكون إنساناً بكله.. يساوي الناس جميعاً.. وأي واحد فيهم يساويه" ليكون الكتاب في مجمله بعد ذلك هو المقدمة لـ "وجودية سارتر" التي سطعت ولمعت بعد ذلك متجاوزة صاحبها "هيدجر" وداعيتها "كير كجارد"، فما الذي جعل "الفقي" يختصر سنواته الأربعون الأولى.. في هذا العدد القليل من الصفحات؟ ربما كان حياؤه المتشح بـ "الكبرياء".. وربما كان ذلك النوع من الزهد البغيض والتواضع الممجوج.. وربما كانت هي سكين ذلك السؤال الذي يشق عادة صدر كل كاتب متميز: من أنا..؟! من أكون..؟! وما حياتي هذه.. حتى أطيل الحديث عنها وأشغل الناس بها.. مع ما يصحب ذلك السؤال العاصف والممض من استصغار لـ "الذات" وتقليل لـ "الشأن" واستهانة لـ "النفس"؟! |
ما أفدح ما ارتكبته "سكين" ذلك السؤال وعلى مر الأيام؟ |
لقد ذبحت أعظم الإبداعات.. وقتلت أحلى الإشراقات والتجليات.. ووأدت أجمل الأفكار.. قبل أن تخرج من قلم كاتبها.. من صدره، لترى النور.. وتعيش حياتها!! |
*** |
لم تنطو دهشتي، ولم يزل عجبي – أو تعجبي، ولم يبترد فضولي.. مع تقدمي في القراءة الأولى لهذا الكتاب المثير والثمين و"الفريد" حقّاً في زمان كتابته.. بل ظلت كل علامات الدهشة والتعجب والتساؤل.. تتناثر حولي وتحيط بي وتمضي معي من صفحة إلى أخرى.. ومن فصل لآخر.. على أن "المفاجأة" الكبرى كانت في انتظاري مع الصفحة الأولى من صفحاته عندما أنكر "الفقي" في بدئها أبوته لـ "الكتاب".. أو أن تكون هذه القصة هي قصة الأربعين عاماً الأولى من حياته.. أو أن تكون هذه "الترجمة" لحياته "فلئن ظنوا ذلك.. فقد وهموا وسدروا في ضلال".. كما قال، محاولاً ومجاهداً في تجييرها بعد ذلك على أنها قصة "صديق حميم.. كشف له عن نفسه الغطاء".. وإن كل ما في الأمر "إن فيها مشابه جمة من حياتي".. بل وأنه ليس له فيها من فضل "إلا فضل الصياغة.. وسلسلة الحوادث".. ثم أخذ – بعد أن اطمئن إلى أنه فعل ما يكفي لإبعاد "شبهة" أن تكون القصة قصة سنواته الأولى وأن تكون "الترجمة" هي ترجمة حياته – في التراجع عن إنكاره قليلاً عندما قال: "فإن أصر بعضهم بعد هذا البيان على أن الترجمة ترجمتي أنا لا سواي.. فإن لهم رأيهم الذي لا استطيع مصادرته بحال"!! فما الذي دفعه لهذا الإنكار.. وما الذي جعله يقدم هذه المرافعة الحاسمة لتبرئة نفسه من كل ما جاء في هذه القصة أو الترجمة الحياتية لسنواته الأولى..؟ |
هل هو الخوف بـ "إطلاقه" أم هو عدم الجرأة والحياء الذي كان صفة غالبة لشبان ورجال ذلك الزمان؟ أم هي الخشية من مكاشفة مجتمع شديد المحافظة – في ذلك الزمان مقارنة بأيامنا – بما لا يقال ولا تصح مقاربته فضلاً عن كشفه والاعتراف به على رؤوس الأشهاد..؟! |
إن الإجابة.. هي خليط بالتأكيد من كل هذه الافتراضات، ليبقى "الفقي" بعد ذلك عجباً بـ "إنكاره" هذا القليل أو الكثير وأيًّاً كانت أسبابه.. لا يماثله فيه إلا قلة قليلة من الأدباء والشعراء والكتاب.. ربما كان في مقدمتهم ثالث شعراء "الديوان" – بعد العقاد والمازني– الشاعر "عبد الرحمن شكري".. الذي كتب قصة حياته.. واسماها "الاعترافات".. ثم أنكر أنها له.. أو أنها قصته، وانه يتحدث فيها عن نفسه.. وظل على إنكاره لها.. إلى أن نسيها ونسيه الناس فيما بعد.. |
ثم كانت مفاجأتي الثانية.. عندما اكتشفت بأن أستاذنا الفقي قد انتهى من وضع كتابه هذا "السنوات الأولى" بعد أن أتم "الأربعين" عاماً الأولى من حياته.. ثم ظل محتفظاً به لأكثر من أربعين عاماً أخرى – أمد الله في عمره– دون أن يجرؤ على نشره، معلناً بذلك – دون أن يقصد– عن امتلاكه لشجاعة الكتابة... بأكثر من امتلاكه لشجاعة النشر.. بما يعطي صورة يمكن تقديرها أو حسابها عن "أجواء" النشر وظروفه الاجتماعية والدينية قبل السياسية في أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات الهجرية من القرن الماضي، إذ ليست تعنينا – بالتأكيد– أعذاره التي حاول التماسها أو تعلله بضياع "أصول" الكتاب واختفائها بين أوراقه.. طيلة هذه السنين، على أنه -رغماً عن ذلك– يظل أكثر شجاعة من "إقبال".. الذي كتب بعد أن أتم الخامسة والثلاثين مقاطع جريئة لـ "أفكاره" حول الدين والكون وهو يعبر قنوات الشك إلى بحر اليقين.. في كتاب اسماه "أفكار".. ثم عدله إلى "خواطر طياري".. إلا أنه –ومع ذلك– أخفاه ودسه بين أوراقه وكتبه ولم يجرؤ على نشره طوال سني حياته، ليتولى نشره أكبر أبنائه "جاويد" بعد وفاته.. وبعد أن اكتملت حياته وتحققت له خدمة الإسلام من أوسع أبوابه عبر عطائه الفلسفي الإسلامي الثائر وقصائده الرافضة لهوان المسلمين والتي كان تاجاها ملحمتي: "الشكوى".. و"جواب الشكوى".. |
فإذا كان حياء الفقي -وهو عليه من الذروة.. وفيه بين الندرة– أو خوفه أو خشيته من مواجهة مجتمعه المحافظ آنذاك.. هي من بين أو كل أسباب إحجامه عن نشر هذا الكتاب في حينه أو بعد ذلك بعام أو عامين أو أكثر أو اقل.. فلِمَ يا ترى لمْ يكتب هذه القصة: قصة السنوات الأولى "شعرا".. ليتفادى بتلميح الشاعر ورمزيته عن تصريح الناثر وتقريريته. لو أن الفقي فعل ذلك -ويا ليته.. وهو القادر عليه– لكانت بين أيدينا "ملحمة.. حياة شاعر" لم تكتب من قبل، فلست أعرف أن شاعراً عربيًّا أو غير عربي.. قد فعل ذلك فيما مضى، ولكن يلوح كما لو أن للشعراء رأياً آخر.. في هذا الشأن. فـ "نزار" شاعر العصر حرية وجرأة.. يقول : "اكتشفت أن شعر الشاعر لا يعبر إلا عن عشرة في المئة من فكره، أما التسعون في المئة الباقية.. فلا تقال إلا نثراً"، ويبدو أن هذا هو رأي "الفقي".. الذي تبادل "الشاعر" و"الناثر" المواقع في عطائه عبر سني حياته.. فكان الشاعر فيه يتقدم على الناثر زمناً.. وكان الناثر فيه يتخطى الشاعر زمناً آخر. تماماً كـ "نزار"، لقد تساويا عطاءً شعرياً ونثرياً.. واتفقا قدرة.. وافترقا شجاعة وشهرة.. واحتفظ كل منهما بلونه ورائحته ومذاقه. |
*** |
مع بلوغي خاتمة سطور هذا الكتاب الصغير حجماً والنفيس محتوى والمثير إيحاءً والثمين بخاصه وعامه.. كنت أشعر بـ "غبطة" بالغة إذ أصبح بين أيدينا –كُتَّابٌ وقراءٌ مهتمون– هذا الكتاب.. الذي يشكل "وثيقة" عن زمن قلت الكتابة عنه – وإن لم تُطِل.. وصفحة من صفحات أدب الاعترافات– وان لم تُفصِّل.. وفصلاً من زمن انطوى ولم نعرف الكثير من خباياه، إنه يشبه بحق ذلك الصندوق المخملي المقفل في داخل الخزنة الذي يضم خصلات الشعر والخواتم والأقراط والرسائل الموقعة بقبلات أصحابها: رسالة وِجْد من فتى.. ورسالة حب من فتاة.. واعتراف من سيدة. إنه الصندوق الذي يضم بعض أسرار الأسرار.. بجميل وعميق وكثير "خاصه" وبقليل "عامِّه" بكل أسف.. |
لقد عادت بي الرحلة مع النسر عبر هذا الكتاب إلى منابع أحزانه الأولى وسنوات كآبته.. إلى تلك البحيرات الصغيرة المتناثرة من الحزن والأسى التي تجمعت لتشكل نهر حزنه العميق.. المتدفق والمتصل.. الذي كنا وما نزال نقرأه في شعره ونراه في قسماته ونحسه في صمته وبوحه دون أن نعرف له سبباً. |
لقد قدم لنا –هذا الكتاب– التفسير الموضوعي لتلك الأحزان وهو يكشف عن أغوارها البعيدة.. وأعماقها السحيقة. فهذا "الطفل"... الذي تيتم وهو في شهره السابع، وتخلت عنه مرضعته قبل أن يتم فصاله، وماتت مربيته – البديلة– قبل أن يتم عامه السابع، ثم لحِقت بها أخته -من الرضاع- قبل أن يتم عامه التاسع، وعانى الوحدة والوحشة بين ثلاث أخوات كن في سن والدته، ورأى أباه وهو يعاني قلته ويكابد همَّ تربيته ويغترب من اجله ومن اجل أسرته.. ثم فقده وقد كان محطة آمنه وأمانه وملجأه الوحيد -بعد الله- لحظة تخرجه وخروجه من المدرسة إلى الحياة وهو في السادسة عشرة من عمره... هو هذا "الشاعر" الذي بكى وما زال يبكي تلك الأيام، هو هذا الشاعر الذي نقرأ موج أحزانه بين اليوم واليوم.. والصحيفة والأخرى في مطولات ورباعيات ومقطوعات، هو هذا الشاعر الذي نراه بيننا اليوم بقوامه الممشوق رغم عصاه التي يتوكأ عليها.. وببقايا وسامة قسماته.. وبهذا الحزن الذي يكسوها ويطل فاضحاً واضحاً من عينيه، هو هذا الشاعر الذي أحس بعد كل تلك التراكمات من الفواجع والأحزان بـ "أنه منكود.. محارب ممن لا قبل له بحربه، فتشاءم وانعقدت بنفسه عقد كلفته في مستأنف أيامه ثمناً باهظاً.. من النكد والمرارة والخيبة". |
لقد حفزه "الحزن" على الدرس والقراءة المبكرة.. الهمة والهبة.. وأطلق بوحه، وانطق أشجانه وآهاته.. وكان القوس والريشة على أوتار إبداعه وغنائه، لقد مضى الزمن وتعاقبه لم يفعل كثيراً في ذلك الحزن، فلم يبدده ولم يطوه.. بل ظل كمده وكَلَمَهُ ناراً تحت رماد أيامه لم تطفئها امتيازات العيش الرغد التي حققها، وظلت شموس فرحه غير قادرة على أن تجفف تلك البحيرات الاستوائية من الحزن. |
ومع سنوات مراهقته.. كان يقف إلى جوار حزنه: شكه وريبته وحيرة عقله بين "الهداية" و"الغواية"، وبحث قلبه عن الحب وتقلبه بين فضيلة تتسامى إليها نفسه و"رذيلة" يشده إليها شبابه.. وهو بين القبول بما قاله الشاعر والكاتب الإيرلندي الإباحي المفتون به "أوسكار وايلد": "أن خير وسيلة لترك الرذيلة.. هو الانغماس فيها".. والرفض له والارتداد عنه إلى جادة الخلق القويم والقيم النبيلة: ارتماءً في أحضانها.. وإيماناً بها ودعوة لها. |
لقد مر أستاذنا "الفقي" على هذه المرحلة مروراً سريعاً. يسبق حياؤه فيها.. خجله، وحمرة وجهه.. تعثر خطوه، فأجملها ولم يفصلها.. وأحسب أنه لو تناولها بتفاصيلها.. فلربما كان مصير هذا الكتاب.. كمصير "مذكرات أوسكار وايلد"
(3)
التي صرح بنشرها بعد مرور مائة عام على وفاته.. |
لقد شكلت تلك السنون بما كان فيها ومنها من حرقة الجوى وفرحة بالهوى.. رافداً من روافد إبداعه ومخزوناً من حلو التجارب ومرها.. ظل يمتح منه سنين طويلة فيما بعد.. |
ثم توقفت بي "سنواته الأولى" عند ذلك اليوم الذي صدرت فيه صحيفة صوت الحجاز لتعبر "عن أماني الشعب وتترجم اتجاهاته ورغباته وأهدافه".. فـ "كان ميلادها إيذاناً بتطور عميق شامل للبلد الذي كان منعزلاً خاملاً.. يتعثر في حاضر مظلم لا يكاد ينتمي إلى ماضيه اللامع الجميل"
(4)
.. إذ من فوق منبرها "استمع الناس إلى صوت مهبط الوحي يجهر حيناً ويخافت أحياناً. إنه صوت طال احتباسه".. ففي ذلك اليوم بلغ "الفقي" الواحدة والعشرين من عمره: مدرساً.. محبوباً من تلامذته وزملائه، وقلماً شاباً واعداً.. شجي الكلمة شاعراً.. وجريئها.. ناثراً.. يتلقى النصح من "مديره" بـ "التوقف عن الكتابة لأنها تتنافى مع سمت العلم والعلماء".. لكنه لم يستمع إلى تلك "النصائح" ولم يتوقف عن الكتابة.. لتأخذه –فيما بعد– أزمة "الدويش" إلى رئاسة تحرير تلك الصحيفة بعد أن نجا لحداثة سنه من "الاحتجاز" الذي طال عدداً كبيراً من المثقفين – من بينهم رئيس تحرير الصحيفة الأول– بسبب تلك الأزمة وما تردد وقتها من اتصال أولئك المثقفين بها.. ليكون ثاني رؤساء تحريرها وأصغرهم سنّاً.. نسبة إلى من سبقه ولحقه.. بل وربما كان أصغر رئيس تحرير في عالمنا العربي.. في ذلك الوقت من مطالع الخمسينيات الهجرية والثلاثينيات الميلادية. لقد كانت تلك نقلة نوعية في حياته.. أخرجته من الانطواء والعزلة والانكفاء على الذات.. إلى عالم الصحافة والأضواء الصاخب بالأحداث والأحاديث والناس باختلاف مقاماتهم ومشاربهم وعقولهم.. إلى عالم لم يكن يعرفه.. ودنيا كان يجهلها.. لتتأسس أهميته التي أخذت تتنامى بعد ذلك سنة بعد سنة.. وعقداً بعد عقد.. |
ثم كان طبيعياً أن تتوقف بي صحبتي لأستاذنا "الفقي" في رحلة العودة معه لـ "سنواته الأولى".. عند تلك المعالم.. المثيرة والعجيبة لحياة مضت وأيام انطوت قبل أكثر من سبعين عاماً.. لأرى وأتأمل بعيني عقلي وقلبي مشاهد وملامح من حياة مكة على وجه الخصوص.. والحجاز على وجه العموم: الدعة – عيشاً، والسكينة.. نعمة حول البيت وفي المطاف وعند المقام، والآمال والأحلام.. جياشة تزدحم بها الصدور، لاقف -في النهاية– على رابية من روابي "الحجون".. فأرى أستاذنا "الفقي" وهو يتأرجح ويتمرجح خلف والده وقد امتطيا ظهر "حمار" في طريق العودة من أرض "الغربة" (!!)... من "جدة" إلى "مكة" وقلبه يمتلئ بشوق العائد إلى وطنه!! لقد كان الذهاب إلى "جدة" -: "سفراً وهجرة من كل ما كان يألفه ويحبه.. إلى ما لا يألفه ويحبه" كما قال.. فكانت الأيام فيها "تطلعاً".. والليالي حنيناً متصلاً للحظة عودته، فلما أبلغه والده ذات يوم بنبأ موافقته على زيارة البيت والأهل و"مربيته" بعد إلحاح متصل من جانبه.. لم ينم فرحاً وسعادة وترقباً.. تماماً كتلك الليلة التي أمضاها ساهراً خلف والده على ظهر ذلك "الحمار" – أسرع وسائل المواصلات وقتها– دون أن يغمض له جفن إلا بعد أن صافحت أذناه أصوات المؤذنين وهي تتابع من منائر "الحرم" مؤذنة بفجر يوم جديد.. ومقدم صباح جديد وسعيد عليه. |
ما أجمل ما فعلته بنا السنون.. فقد قربت المسافات.. وأذابت الفواصل.. وطوت مشاعر الغربة والاغتراب التي تثير ضحكنا وسخريتنا هذه الأيام.. وأصبح "الذهاب" إلى مكة والعودة منها إلى جدة "مشواراً" –لا سفراً– يقطعه الغادون والرائحون بينهما – ممن يعملون في مكة.. ويقيمون في جدة أو العكس– في دقائق.. |
*** |
ومضت السطور.. |
ومضت صفحات الكتاب.. بلغته الفريدة الجامعة بين الإيجاز والجزالة.. بين البساطة والسلاسة.. بين المعاصرة والتراثية، وبإطلالته البانورامية الواسعة على الماضي.. وبتجاربه الإنسانية العميقة.. وبتوهجه الذي احتفظ به.. حتى ليحسب قارئه أنه كُتب في الأمس القريب ولم يُكتب قبل أكثر من أربعين سنة.. |
ومع مضي السطور والصفحات.. مضى الزمن وتعاقبت السنون.. وأسفرت أولى الشعرات البيضاء عن نفسها في رأسه.. فقد بلغ "الأربعين"، ومعها.. كان يتوازعه صراعان: |
صراع مع الذي مضى.. حول تجربته بين "الفشل" و"النجاح".. حول ما فعله وما لم يفعله.. وما أنجزه وما لم ينجزه.. وأين كان الخطأ في كل ما مضى؟ وأين كان الصواب فيه؟ ثم انقشعت غيوم ذلك الصراع.. واستراح إلى أنه "يستهل عهداً جديداً حياً بالجد والحزم.. نابضاً بالمنى والأحلام. فالأربعون.. هي سن الرشد الناضج والإنتاج الموفور".. |
وصراع مع ما هو آت.. عندما وجد نفسه يطل على مرحلة جديدة.. وأسئلة جديدة تفغر فاهها في وجهه وهي تصطخب بين العقل والقلب: من أين.. وإلى أين.. وما العمل..؟! |
وبمثل ما طوى صراعه مع "ما مضى".. طوى صراعه مع "ما هو آت".. حازماً حاسماً في "أن يكون شعاره العمل.. والعمل الدائب النافع الجسور".. |
وهكذا كان.. |
وهكذا كانت المراحل التي تلت من حياته.. من عمره.. من أيامه. فما زال دمعه يهمي وما زال قلبه يخفق.. وما زال عقله يسأل، وما يزال قلمه بين يديه.. وما يزال عطاؤه يتدفق.. |
*** |
إن الذي بين أيدينا.. ليس كتاباً يقدم حياة شاب في زمن مضى وحسب.. ولكنه كتاب يقدم درساً حافلاً جليلاً.. شجياً.. لكل شاب في زماننا وفي كل زمن آت.. |
|
|
|
|