((كلمة سعادة الأستاذ الشاعر قاسم حداد))
|
اسمحوا لي بداية باسم جميع الأصدقاء والشعراء والأدباء في البحرين، أن أقدم عزاء لجميع أصدقاء وأهل وذوي صديقنا الشاعر الفقيد محمد الثبيتي. |
يسعدني أن أتحدث عن الصديق إبراهيم غلوم على صعيدين متميزين وغير منفصلين: الأول منهما بوصفه صديقاً، والثاني بوصفه الناقد والأديب. |
إنه من بين الأصدقاء الذين أشعر معهم بتلك العفوية التي تمنح الحياة حيوية وجمالاً، وأتشوق إلى رفقته في الفعاليات الأدبية عندما يتسنى لنا ذلك؛ ففي مثل هذه المرافقات تتاح الفرص الأفضل للاسترسال في الحديث الحميم في كل شؤون الحياة وتجديد مراجعاتنا لبعض الرؤى المشتركة. |
غير أن الصداقة بالنسبة لإبراهيم تتجاوز البعد الشخصي، لكي تصبح صداقة التجربة والنص وهذا ما يجعله قريباً ممّا أكتب، بالدرجة التي تسهم في إضاءة العديد من النصوص قبل وبعد إنجازها بالدرجة ذاتها التي تمنحني درجة الاكتشاف فيما أقرأ نصوصه نقداً ومطارحات. |
ويمكنني في هذه الكلمة القصيرة أن أشير-حسب رأيي- إلى أهم ما يميز تجربة الكتابة النقدية لدى هذا الصديق. ففي مجمل مشروعه النقدي منذ بدايته المبكرة كان معنياً بما يمكن وصفه بتأصيل الأصول عبر قراءتها ونقدها. ولكي لا أشير إلا إلى الأمثلة، سأرى مثلاً في أطروحته المبكرة عن "القصة القصيرة في الخليج العربي" التي كانت حجر الأساس لنظراته النقدية لفن القصة في دول الخليج، ففي تلك الدراسة العامة عمل من خلال بحث ميداني دؤوب على تقديم رصد دقيق وعميق لمجمل الكتابات القصصية وقراءتها بتأمل المراجع النقدي، في سبيل اكتشاف المكونات المبكرة في فن القص، وهي الأرضية التي سيرى في ضوئها المؤسس التجارب القصصية المعاصرة والجديدة، وهو بذلك سيكون قد وضع التجربة القصصية برمتها في السياق الأدبي والتاريخي المناسب لكي نكتشف كيف أن العمق الاجتماعي بوعيه الحضاري لدى كتّاب القصص هو عمق متصل بجذور وعي مبكر في تلك الأصول البعيدة، وهو بذلك الكتاب قد تسلح بأدواته التاريخية التي ستعضد أدواته النقدية اللاحقة في الحقل ذاته. وبذلك الكتاب خصوصاً سيتوفر للباحثين من بعده المرجع الوثيق الصلة بالتجربة القصصية في هذه المنطقة. |
في تجربته الثانية ضمن سياق تأصيل الأصول، نلاحظ انشغاله بمراجعة أدبية متميزة لمشروع "البواكير" التي انهمك فيها بدراسة التجارب الأدبية الأساسية في بداية القرن العشرين والتي ارتبطت بالنهوض الثقافي في المجال الأدبي، والبواكير سلسلة ابتكرها إبراهيم غلوم لكي يحقق خطوته المعمقة في مراجعة الأصول ونقدها وتأصيلها من دون أن ينتظر المبادرات المؤسسية التي سوف تتأخر عنه دائماً. |
ففي مشروع "البواكير" نراه يدرس في كتابين منفصلين "مسرح إبراهيم العريض" الذي شكل في وقته التجربة المسرحية المبكرة نصاً وممارسة، لكي يستكشف الإسهام الأدبي (شعراً) في بواكير النزوعات الدرامية الاجتماعية وفي ثقافة بدايات ومنتصف القرن الماضي. وهذا الكتاب يمثل اتصالاً حيوياً بأحد أبرز اهتمامات إبراهيم غلوم النقدية وهو النقد المسرحي، الذي شكل منذ سبعينيات القرن الماضي مجال فعله النظري والفني والتنظيمي. |
وفي مشروع "البواكير" نفسه يأتي الكتاب الثاني في شكل دراسة البدايات النقدية والأدبية في البحرين والخليج، متخذاً من تجربة عبد الرحمن المعاودة شعراً ومناقشات نموذجاً للمرجعيات والانزياح، متخذاً من الأرشيف الصحافي المطلوب في أربعينيات القرن الماضي في الصحافة البحرينية مصدراً وثيقاً غنياً بتلك اللمعات المدهشة بجرأة النظر النقدي العفوي، وهو ما يشكل لتجربة إبراهيم غلوم مصدراً حميماً للنزوع الإنساني الفذ الذي سيغني منظوراته النقدية الجديدة. |
وفي نموذج ثالث من نزوع إبراهيم غلوم نحو تأصيل الظواهر الثقافية، أعتقد أن كتابه "الثقافة وإنتاج الديمقراطية" الصادر عام 2002 هو بمثابة الاستباق التأملي والنقدي لما ستتعرض له الثقافة من إشكاليات بالغة التعقيد في خضم ما يسمى بالمشروع الإصلاحي الراهن؛ فقد عمد الباحث إلى مراجعة التجربة الثقافية في مسيرتها المعاصرة، ورصد الفعل الثقافي بوصفه خطاباً في الديمقراطية، ولعل إبراهيم غلوم هو من أبرز المتصلين بتاريخ الفعل الثقافي تنظيراً وممارسة في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي، ومن أكثر المشاركين المباشرين لمجمل المشاريع والفعاليات الثقافية في المنطقة، ومن الذين أسسوا وشاركوا في صياغة أكثر المشاريع وبرامج العمل الثقافية على الصعيدين الأهلي والرسمي، كما شارك في كتابة جانب مهم من خطة التنمية الثقافية العربية. |
أقول هذا لكي أشير إلى حجم الإحباط الذي عايشه إبراهيم غلوم في سعيه الجاد من أجل صياغة رؤية ثقافية وسياقاً يليقان بهذه التجربة الغنية العميقة، مؤمناً بأن ثقافة على هذه الدرجة من النمو والتبلور لا بد لها من أن تأخذ مكانتها ودورها الفعالين في أي مشروع تنموي مزعوم في هذه المنطقة. |
في هذا الكتاب بالذات سوف يصوغ إبراهيم غلوم منظوراته المعمقة مستخلصاً الدروس والمعطيات الأساسية لمجمل التجربة سعياً لوضع هذه الثقافة بمكانتها ودورها المناسبين في المشاريع التنموية التي يجري الكلام عنها بين وقت وآخر، وهو من بين أكثر المنهمكين في هذا الحقل عاملاً بقدر كبير من الجدية والرصانة، وهو يرقب هذه التجربة بالذات وهي تتعرض لمحاولات المسخ والاستهانة والامتهان وعدم الاكتراث من أصحابها المزعومين في الجانبين الأهلي والرسمي. ولو كانت هناك قراءة موضوعية وجادة في واقعنا الثقافي لاستحق هذا الكتاب بجهده المتأمل أن يكون موضوعاً حوارياً لمجمل المزاعم النشيطة التي استغرقتها المنافحات السياسية المتصلة بالشأن الثقافي تكريساً لمشاريع الإصلاح الرائجة كزينة سياسية تفرغ الثقافة من نقديتها. |
وأخيراً أشير إلى النموذج الثالث المتمثل في آخر إصدارات إبراهيم غلوم وهو كتاب "المسافة وإنتاج الوعي النقدي"، بوصفه نموذجاً إضافياً وضافياً للنزوع المميز في تجربته النقدية في سبيل تأصيل الأصول من خلال القراءة وإعادة القراءة ونقدها، ففي هذا الكتاب الفاتن سوف يراجع الباحث مرحلة التأسيس الحديثة للحركة الأدبية الجديدة في البحرين، متحدثاً عن تجربة الناقد الصديق أحمد المناعي التي أسهمت بفعالية عالية في تأسيس الفكر النقدي بوعي الجيل الجديد لدوره الحضاري في حقل المعرفة الأدبية وفنونها. وقد قام إبراهيم غلوم مجدداً في هذا الكتاب برصد دقيق للأدوار النقدية التي مارسها أحمد المناعي برفقة آخرين بتميز متحرر من المزاعم وخطابات الوهم. |
ذلك هو إبراهيم غلوم في مجمل مشروعه الثقافي المعرفي النقدي، عندما يؤكد لنا في كل مرة جماليات الدرس النقدي وهو يحتفي بشرط المراجعة الواعية لتراثنا الثقافي الحديث لكي تبدو تجاربنا واضحة الاتصال بمصادرها، ومكتنزة بالخبرة والمعرفة التي طرحها الدرس الأول في ثقافتنا. |
إبراهيم غلوم يفعل ذلك كله من دون التفريط في شرط العلاقة الحيوية والفعالة والمتبادلة بين الثقافة والتنمية الاجتماعية والسعي الحضاري لتطوير الواقع الإنساني ومتطلباته العادلة. |
ختاماً، أحب أن يقبل مني الصديق إبراهيم غلوم التحية الخالصة في هذه المناسبة الممتازة في تكريم جدير به؛ فهذه مناسبة نعتز بها، لمعرفتنا الدقيقة بطبيعة الدور الحضاري الذي يتصدى له هذا الصديق منذ بداية مشروعه، مؤمنين بأن العمل الحقيقي هو ما ينظر إلى الواقع من شرفة المستقبل، ولدى إبراهيم غلوم القدرة على ذلك. كما يسعدني كثيراً أن أتوجه بالشكر الجزيل الذي لا يكفي، إلى الأصدقاء في اثنينية الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه على مبادرتهم الجميلة لتكريم إبراهيم غلوم، ونرى في هذه الالتفاتة تكريماً للأدب والثقافة في البحرين والخليج برمته. ولكم جميعاً التحية والاحترام. |
|