بالطو.. للبيع!! |
كان أبوه صناعي اليدين حاذقاً وكان كل هم هذا الأب أن يسوّي من ابنه ((فتحي)) فتى يأخذ شكل هذا النوع الراقي في أثوابه النظيفة عائداً من المدرسة أو ذاهباً إليها.. يتأبط محافظه وأوراقه ويتخطر تخطر الذوات.. ملء العين والنفس. |
واختار الأب أن يطلق عليه اسم ((فتحي)) لينسق بين اسمه وبين النتيجة التي انصرف همه لإعداده لها والبيئة الجديدة التي اعتمدها مدرجة له. |
درج الولد بين الأوراق والمحافظ، وتداخلت حياته في حياة المائسين في أثوابهم النظيفة من أولاد الذوات وساعدته رغبة أبيه الطاغية وعنايته بتذليل فوارق العيش رغم المعاناة فاستوى فتحي يخطر ملء العين والنفس في (بالطو) يلامس من الساق ما لا يحول دون لمعة أثوابه المتموجة في الجزء الظاهر تحت ذيل البالطو. |
وجاءني الفتى يوم أمس ينعي وفاة أبيه، وينفض سيرته أمامي في لوعة الملتاث المضطرب.. ويرجو أن أرى له، رأياً في هذا الاضطراب الذي لا يعرف كيف يوفق فيه بين فقره المدقع وهيئته التي ألف وجاهتها، وأن أجد له حلاً يتفق مع الحيلة للعيش في حدود هذه الرشاقة. |
قلت: أتعني أن أرشدك إلى مكان تجد فيه غايتك من العمل الرشيق. |
قال: لا أرى لنفسي شيئاً معيناً بعد أن تركت الاختيار إليك في الحدود التي ذكرت. |
قلت: لم تقيدني بالحدود التي ذكرت. إنني لا أتذوق هذا وليس يصح عندي تفويض تحدني فيه شروط.. ولكن لا عليّ أن أترك هذا لأسألك: ((ألم تجرب في حياتك أن تكون شجاعاً؟؟)). |
قال: لست أفهم ما تعني. |
قلت: إذا تصورتني أملك الآن حق تجريدك من هذا السمت الرشيق عليّ أن -أحلك محل وجاهة ((البالطو)) سمتاً آخر يدمجك في رجال المهن العمليين ما دمت أصبحت في حاجة إلى ما يضمن عيشك فهل تغفر لي هذا، وهل تجد في نفسك من الشجاعة ما يغريك بمصافحة الشارع والمضي في طريقه إلى بيتك متلبساً بهذه المخالفة. فما زاد على أن ضحك وشاعت في وجهه سخرية ناطقة. |
قلت: إنها مأساة جيل كامل مثلث في شخصك صارخة بأوفى ما يكون الصراخ وستبقى هذه المأساة مستتبة على صدورنا ضاغطة على أفئدتنا حتى يزول آخر متعجرف فينا من الحياة؟؟ |
قال: أتراني تعجرفت؟؟ |
قلت: لا علاقة لي بتصرفات شخص بذاته إذا حمل وزر ما يتصرف.. لكنه يعنيني الوعي العام عندما تطويه الفكرة الخاطئة فيتطبع عليها ويمضي في اعتناقها مضي البوذيين لا يثنيهم المنطق ولا يردعهم ألف دليل من الواقع؟؟ |
أنت تعرف أن في بلادك اليوم معاهد لعشرات المهن تفتح أبوابها لمن يتعلم ويعمل، وهي إلى جانب هذا تنفحك ما يقضي على شكواك من الفقر. |
يا ابن أخي.. عهدنا بالعلم غاية يتطلع الناس إليها بغية تفتيق أذهانهم على حقائق الحياة وتنويرها، فما بالنا نلوي به ونجعل منه وسيلة لأهواء ومنازع لا ينتظمها عقل، وطريقاً إلى وجاهة زائفة. |
إذا تعلم الفتى وليس له من غرض إلاّ أن تستوي من ثقافته شخصية متعجرفة تأنف العمل وتأنف كل ما في معناه من المهن الحرة، ثم حاربته الصدف قبل نهاية المطاف فلم تواته بالنتيجة التي يتطلع إليها فأية مأساة قلقة سيسلم نفسه أو يسلمه وليه إليها، وأي هوة سيتردى في سحيقها؟ |
إننا بهذه الوتيرة سنفتقد في أحد الأيام الأيادي العاملة جملة واحدة فلا نجدها، وسنستقصي أثرها في مناحي الحياة، فإذا بها تتكتل عند أبواب الوظائف أو تتسكع في معاقل الذوات، كما يتسكع السبهللا، نفس في الرغام وأنف في الغمام. |
أترى أننا في سبيل حفظ التوازن العام، نسمو بالعلم إلى طبقة الأرستقراطيين فقط ونضرب دونه نطاقاً يحول بين عامة الشعب وبينه، فنترك الأمة مصابة في جهازها العصبي؟ أم أننا نبيحه في الصورة الشائعة التي ترى فنحيل مجموع الأمة كاملاً إلى ذوات تميس بأثوابها اللامعة وتتخطر ملء العين والنفس دون أن تجد بينها اليد العاملة. |
قال: إنه أمر ما أعددنا له عدته. |
قلت: ليس في الأمر ما يدعو إلى العدة إلاّ إذا أردنا أن نكلف العلم غير حقيقته، إننا نتكلف عندما نجعل الطراوة شرطاً من شروط التعليم، ونتكلف عندما نسمو بالتعليم عن طبقة الممتهنين في أي صناعة مهما كانت رتبتها لأن العلم الذي يتأفف صاحبه من مزاولة أي مهنة تصادفه حقيق بأن يكون زيفاً تضلل به أعين الناس. |
ولقد شهدت في غير بلادي من الشرق العربي نظماً خاصة تحدد للمتعلمين في المدارس أردية موحدة مصبوبة في قالب متفرنج فكنت أعجب بهذا التوحيد بقدر ما يسيئني في التحديد والتقرير. |
وإني وإن كنت أعرف أن مقرري هذا التشريع أرادوا أن تتوحد الأمة في أحد الأيام في أزيائها وتشترك جميع طبقاتها في هذا الهندام الملفوف، ولكني أعجب لمن وقفت به الدراسة في منتصف الطريق ونحوه، قسراً، لماذا لا يقنع بما ناله ثم ينقلب إلى أية مهنة تعوضه ما فوتته الظروف لينتفع بها وينفع أمته، حتى المجلّين الذين أكملوا دراستهم ما يمنعهم إذا جد الجد أن يضعوا أيديهم في أية مهنة تصادفهم أو يصادفونها؟ |
أترى أن العلم جنى علينا أم أن أسلوبنا في تلقينه كان وحده الجاني؟؟ الواقع أن المدارس التي تعد ذهن الطالب لثقافة لا حد لسعتها كان عليها أن تعد روحه لفهم الحياة على حقيقتها وأن تهيمن على مناحي تفكيره فلا تتركه يعتقد أنه أليق بجانب في الحياة دون الجانب الآخر، وأن ندس في واعيته الخفية أنه ليس في الطراوة ما يتفق مع شخصية جبارة تعتز برجولتها وتركب في سبيلها الصعاب وأن اختيار السهل هو الحد الفاصل بين الإقبال من أصحاب العزم وبين المترددين من ضعفاء الرأي والإرادة. |
إذا وقر هذا في نفس الطالب واندست معانيه في واعيته الخفية، اندمج في هذه المعاني ودرج على تفسير الحياة في ضوئها تفسيراً يقربه من حقيقتها ويقوي أساره ضد كل فكرة ضالة فيها. |
قال الفتى: هكذا تراني أشهد الله أني ضحية هذه الثقافة التي أعدت ذهني ولم تلمس روحي أو تهيمن على مناحي تفكيري.. وبمعنى أكثر اختصاراً مما أسلفت أني ضحية الثقافة التي لم تورثني غير ((بالطو)) سأسخو به في الغد لأول زبون. |
قلت: بل هكذا تنتهي حيث بدأنا.. إن مأساتك مأساة جيل كامل، وستبقى هذه المأساة مستتبة على صدورنا أو نرتق الفتق ونصل أسباب العلم بأسباب الحياة. |
|