صليت العيد في أملج |
كان ذلك في الستينيات إن صدق ظني. وما أكثر خيبة ظني في عدد السنين والحساب.. |
كنت يومها مندوباً للتفتيش في أملج.. وكنا يومها ندلف إلى العشرة الأخيرة من رمضان. |
وقد قيل لي أنك ستسلك طريقك إلى المدينة لتقضي فيها أياماً ممتعة ثم تغذ السير إلى ينبع فأملج وهي مصيف رائع؛ لنقضي فيه عطلة العيد فأزمعت أمري وتوكلت. |
كنا يومها نحال إلى إدارة البريد لتهيئ نقلنا في عرباتها فاستلمت أوراق السفر وأخذت مقعدي بين الركاب والتفت فإذا بين ركابها الصديق أحمد فقيها. |
قلت إذا كنت ستقيم في المدينة إلى أيام فما رأيك لو كوّنت وإياك (بشكة).. سأكون أنا البشكة وتكون أنت رئيسها تدير أمر الإسكان والإطعام.. ستكون صاحب الحكم المطلق، شرّع بما شئت ونفّذ كيفما شئت.. وسوف لا أسألك عن شيء حتى تحدث لي منه ذكراً. |
لذَّت له الفكرة فنسي ما يتعين عليه لأعبائها وبدأ من اللحظة الأولى يخطط للبشكة التي تتلخص في شخصي أنا فوجدني كرعايا عبد الناصر لا أملك في دنياي غير الطاعة. |
وكان يصحبني طباخ ربما جاز لي أن أطلق عليه أكثر من وصف إلاّ كلمة طباخ.. فقد كان شاباً وصفت له -فيما أظن مزايا (مشاكلة زمان) فنسي فارق الزمن وراح يحيا حياتهم.. حزام عريض يزحف على نصف ظهره فيردف عجزه وينوء بصدره وبرز كتفه في شموخ و (عنطزة) يمشي إذا مشى كأنما ينصب من ((حادر)) يتحدى مواضع خطوه في هوس: (يا أرض انهدي.. ما عليكي قدي) ويتكلم إذا تكلم فتسمع لقوله وقع الرصاص يوم كانت (الهوشات). |
وعيّن لرئيس البشكة أن يندب أخانا المشكل ليختار لنا أول وصولنا المدينة نزلاً نسكنه فمكث غير بعيد وقال جئتك بالشرفة العالية المطلة على الرحبة الواسعة في باب السلام فأخذ رئيس البشكة بوصف طباخ البشكة وأعجبه أنها مشرفة فتم القبض والتسليم ونسوا أنها أيام سموم قائظ لا يصلح فيها للسكن إلاّ القياع السفلى من بيوت المدينة. |
وأقبلت البشكة التي تتمثل في شخصي تتهادى فأفسح لها في صدر المكان مما يلي مهب السموم وعندما أبديت ملاحظتي على موقع السكن وجدتني أتجنى على مركز الرئاسة وقد فوضتها الأمر وسلمت مقاليدي إليها. |
وانتهت أيامي في المدينة فحجزت وطباخي في عربة البريد إلى ينبع وأشهد أن طباخي كان طويل الذراع في مثل هذه المواقف فهو لا يكاد يضع عينه على أي مقعد يحجزه حتى يتراجع الركاب عنه إلى غيره طالبين السلام وأنظر إليهم وهم يتضاءلون فأضحك بملء سري ثم لا ألبث أن تشملني عدواهم فأتضاءل في أدب ولا أكاد أوجه إليه الكلمة إلاّ مغلفة بالناعم الرقيق. |
وقضيت أيامي في ينبع في بحث وسيلة السفر إلى أملج.. كان المفروض أن أستقل سيارة ولكن الطريق كان يومها لم يعبَّد بعد وقد قيل لي أنك على ما تقاسي من وعورة الطريق سيصادفك ممر تغوص فيه عجلة السيارة في خضم من البحر فخير لك أن تمتطي جملاً أو تسافر في أحد المراكب الشراعية مصعداً في البحر إلى أملج. |
واخترت الأخير إلاّ أنهم لم يجدوا لي يومها إلاّ مركباً مشحوناً ببراميل البنزين فعزمت السفر مدرجاً مع براميل البنزين، وعندما بدأ الطباخ يحمل متاعي في الصباح المبكر إلى المركب جاءني بخبر جديد يقول فيه إن في المركب خراباً اضطروا معه في رحلتهم أن يقذفوا ببعض البراميل إلى البحر وأن الناخوذة لا يأمن علينا السفر فهل ترانا ننتظر؟ |
قلت لعلّ في هيئتك ما أفجعه، فتراءى له أن يتخلص من زبائن لهم هذا الشكل المفزع، فتصامم ولم يعلق وراح يتشاغل بجمع المتاع. |
ولكن ما لبثت أن قابلت من أكد لي حقيقة الخراب فقلت لسنا خيراً من ناخوذة المركب أو نوتيَّته.. والمقدر في الغيب هو المقدر. |
واستوى بنا المركب باسم الله مجراه ونشط صاحبي الطباخ فقرب جهاز الراديو إليّ وراح يصلح من شأن (الأنتن) فما كدت أدير مفتاحه حتى صافحت قراءة المقرئ أذني يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا (النور: 40). |
ترى هل هو استهلال؟ هل لي أن أتطير من هول ما سمعت؟ إننا لا نزال على خطوات من الشاطئ!! وفي استطاعتي أن أعود قبل أن يقلع المركب. |
أيجوز الرحيل في مركب يغشاه بعض الخراب وتملأ ظهره شحنة البنزين وتستهلنا فيه آيات الرعب والخوف. |
ولكنهم كانوا قد وطأوا لي مجلساً ليناً في المركب وتراءى على مد البصر أمامي جو حالم لذيذ وتناهت إلى مسمعي وشوشة المياه وهي تتعانق وتتماوج في أصوات رقيقة خافتة فأخذني من جمال الروعة ما أخذني ووجدتني أتساءل: ألم ننته إلى أن ما كان في الغيب فهو كائن فماذا جد؟؟ |
أهو استهلال القارئ؟ |
إنه لا يقرأ لي وحدي فبحار العالم في هذه اللحظة يمتطي أمواجها ملايين الناس فهل لهم أن يتطيروا فيغادروها أم أنا الخفيف وحدي بين كل هذه الملايين. |
باسمك اللَّهم نمضي في طيتنا.. |
وأقلع المركب وجرى بنا في ريح طيبة ثم ما لبث أن ماج البحر وعصف الريح فواجه واجهة المركب ففلَّ من عزمه فكنا لا نمخر ميلاً حتى نعود إلى نقطة البدء. |
وقضينا ثلاثة أيام دون أن نحقق من مسيرتنا إلاّ أميالاً محدودة فرجوت إلى الناخوذة أن يعود بنا إلى المرفأ حيث ركبنا فاستعصى ثم هادن بعد أن غمزته بقطعة ذهبية ولم تستغرقنا العودة إلاّ نحو ساعتين فقد جرى بنا المركب بمجرى الريح. |
وعدت أبحث عن جمَّال وشقدف فلم أعثر إلاّ (بشبرية) أمتطيتها فكانت أول وآخر شبرية عرفت ركوبها. |
كان جمّالنا حاذقاً في شد الشبرية فكنت أستلقي أو أتمدد أو أنام ملء جفوني دون أي شعور بالنصب. |
كانت رحلة لذيذة قضينا في متعتها ثلاث ليال وأربعة أيام وأشرفنا في نهايتها على ساحل أملج. |
وأملج مدينة إذا غذ خيالك فيها فلك أن تتصورها فتاة لم تتجاوز بعد سن المراهقة دفع بها أهلها إلى البحر فاغتسلت ثم عادت إلى الشاطئ فترتفق ضفته في سكون هادئ. |
مدينة يقطعها شارع واحد تقوم على حافته البيوت الصغيرة في ألوانها البيضاء وتمضي جادته مستقيمة لا يتخللها دكان ولا يقلقها صوت بائع يتجول. |
ذلك أن سوقها ينفرد عنها في زاوية منفرجة من أحد أطرافها حيث تتزاحم مناكب البدو والحضر ويختلط رغاء الإبل بثغاء الماشية على أصنافها. |
ونزلت وطباخي في أحد منازلها على خطوات من إدارة المال وبدأت بجهاز الراديو فهيأته وأصلح الطباخ من شأن (الأنتين) فكان أول جهاز عرفته أملج. |
واجتمع الناس على صوته فلم تتسع غرف البيت لزحامهم ونظرت فإذا الساحة الواسعة تحت شرفته تغص بالمئات.. وانتقل الخبر في ليلته إلى أطراف المدينة فأقبل النساء متسترات في ثيابهن الفضفاضة ليستمعن في ركن من الساحة. وأقبل الرجال من كل فوج يحتلون بقية الأركان.. |
ترى هل ينتقل الصوت من بلاد الإنكليز بفعل هذا المفتش الساحر أم هي قوة خارقة حبست أصوات المغنين في صندوق من الخشب. |
لقد كانوا معذورين فجهاز الراديو يومها كان جديداً على أكثر الممالك وهو عندنا في مكة عاصمة البلاد كان يعد على أصابع اليدين فما بالك بأملج وهو البلد النائي وما بالك ببادية أملج وأرباضها. |
وجاءني سقَّاء بيتي بعد يومين ليخبرني أنه طلَّق زوجته في سبيل الراديو، قلت: ولكن ما ذنب الراديو قال: إنها اختلست خطواتها دون علمي إلى مجمع النساء تحت الشرفة فطلقتها.. قلت إنك تظلمها، تقضي أكثر ساعات الليل في مجمع الرجال من الردهة تستمع إلى الراديو وتنكر عليها ساعة واحدة اختلستها لتتحقق من حقيقة هذا العفريت الذي يغني ولم أزل به حتى أقنعته وآليت أن لا يترك مجلسي حتى يراجعها ففعل. |
ووجد طباخي من تجمعات الناس في غرف البيت وساحته الواسعة عملاً يزجي به فيشغله عن أعمال لا يفهمها في فن الطبخ.. نصب نفسه ملاحظاً عاماً على المتزاحمين ينظمهم في صفوف ويفرض عليهم الهدوء وهو يلوح بعصاه وأشهد أن نظرته الشزراء كانت تكفي للقضاء على أقوى عات يجلجل صوته بالضوضاء. |
ولكني ما لبثت أن فقدت كفاءته في القضاء على الضوضاء دون أن أوفق إلى إنسان مهيب يسد الثغرة مكانه. |
ذلك أنني بعد أن ضقت بجهله الذريع في فن الطبخ سألته يوماً -((هل ترى من الرجولة أن تغشني فتدعي معرفة الطبخ وأنت أجهل مني فيه)) فلم يعجبه أن أهز رجولته وقال -أما إذا أردت الحق فقد نزلت بي ضائقة وعلمت أنك في حاجة إلى طباخ فأسرعت إليك فلما قبلتني بادرت إلى أهل بيتي أتعلم منهم وقد علموني الكثير ولكن الوقت كان أضيق من أن يتسع للتمرين العملي فكان ما رأيت فإذا راق لك أن تسمح لي بالعودة إلى بلدي فعلت فوافقته على ما أراد وتركته ليعود. |
وأصبحنا في آخر يوم من رمضان صائمين فإذا (نجاب العيد) ينحدر من وراء التلال البعيدة قادماً من ينبع ليعلن ثبوت العيد في هذا اليوم فأفطر الناس وفطرت قبل اكتمال النهار وأخرت صلاة العيد إلى صبيحة اليوم الثاني. |
وكدت أكون بعد صلاة العيد نهباً موزعاً بين الأصدقاء كل يأبى إلاّ أن أكون ضيفه في فطور العيد ويقسم آكد الإيمان في صور لم تصادفني قط في بلدي حتى لو تعرضت لخروج المصلين من باب المسجد. |
وحرت في الأمر أيهم أدسم وأروع، أيهم أغضب وأيهم أرضي.. ووسوس الشيطان بالحل في أذني -((ليأت كل منكم ببعض ما عنده إلى بيتي.. ولنكن جميعاً ضيوف بيتي)). |
وبذلك انتهى الحل الشيطاني إلى مائدة كانت عيداً بحق لأولنا وآخرنا. |
وكان يوماً مشهوداً وفَّر علينا مشاوير المعايدات باجتماعنا في صعيد واحد. |
واقترح علينا مدير الشرطة أن نخرج بفوانيسنا ليلاً إلى الشاطئ لنصيد (أبو جلمبو) فكانت ليلة مؤنسة بين صخور الشاطئ ورماله جمعنا في نهايتها ملء كيسين كبيرين وأصبحنا مجتمعين في بيتي حول قدر من الماء الحار يغلي فيه (أبو جلمبو) ثم نتناوله فننزع قشرته: ((ومن فين آكلك يا بطه!!)). |
كانت أياماً لذيذة وكان ألذّ ما فيها جو أملج فهو لا يعرف حرارة الصيف.. وطقسه البارد لا أثر فيه للجفاف أو الرطوبة بين بين.. هواء منعش وجو ممتع. |
ورأيتني في صحبة أحبابي أستغني عن ثلثي عمري في الحياة وأعود إلى سنيَّ كفتى في سن العاشرة ذلك أن الملتفين حولي كان أكثرهم لا يعي مفاهيم الحياة إلاّ ما يعيه فتى بريء جديد على الحياة. |
وما أعذب البراءة من هذا اللون في بعض الظروف التي نتخفف فيها من الحياة. |
|