شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طرائف من مكة القديمة
حفلت كتب التاريخ بالكثير المثير من حوادث مكة والرائع والطريف من قصصها لنستمتع ببعض ما ذخرت به هذه الكتب للعظة.. والذكرى ولترويح النفس.
حديث الدرامية مع معاوية:
ما أحلى أن نبدأ قصصنا بحديث (الدرامية) سيدة من بني كنانة كانت تنزل الحجون.. وأي حجون هو؟.. إنه الحجون الإسلامي ولا نزال نطلق عليه إلى اليوم اسم الحجون الأصلي في عهد العرب الأوائل فهو الجبل المطل على برحة الرشيدي في الجهة المقابلة لمسجد الجن وكان حجوننا اليوم يسمى عندهم ثنية المدنيين.
ونعود بعد هذا إلى السيدة (الدرامية). فقد حج معاوية واشتهى أن يلقاها فجيء إليه بها وكانت سوداء مكتنزة اللحم فقال: ما حالك يا ابنة حام فقالت لست لحام أدعى إنما أنا امرأة من كنانة فقال: هل لي أن أسألك لم أحببت علياً وأغضبت معاوية؟.. لم واليت علياً وعاديت معاوية فقالت أوتعفيني فقال لا أعفيك قالت أما إذا أبيت فخذ:
أحببت علياً لعدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك لقتالك من هو أولى بالأمر منك وطلبك ما ليس لك بحق قال: ولذا انتفخ بطنك وعظم ثدياك.. قالت يا هذا بأمك كانت تضرب هذه الأمثال لأبي.. قال يا هذه أربعي فإنّا لم نقل إلاّ خيراً ثم قال كيف رأيت علياً. فقالت رأيته لم يفتنه المُلك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك، قال صدقت فهل لك من حاجة؟ قالت وتفعل إذا سألتك قال نعم، قالت تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها قال تصنعين بها ماذا قالت: أغذي بألبانها الصغار وأستحيي بها الكبار وأصلح بها بين العشائر، قال فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي قالت فتى ولا كمالك قال يا سبحان الله أو دونه ثم قال أما والله لو كان عليَّ ما أعطاك -منها شيئاً قالت والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين.. فلم يضق صدر معاوية بما سمع فقد ضحك وأمر بها بما سألت.
حدثت هذه القصة في المسعى:
وقصة الرشيد مع عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في المسعى لا تقل روعة عن قصة الدرامية فقد صاح بالرشيد وهو يمضي إلى الصفا يا هارون.. فقال لبيك يا عم.. قال: أرقَ إلى الصفا فلما رقي قال اعلم أن كل واحد من هذه الخلائق يحاسب عن خاصة نفسه وأما أنت وحدك فتسأل عنهم أجمعين فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قال له: وأخرى أقولها لك إن الرجل إذا أساء التصرف في ماله حجر عليه فكيف بك وأنت تسرف في أموال المسلمين وتسيء التصرف فيها وأنت محاسب عليها بين يدي الله فازداد بكاؤه. وأراد جنده أن يطردوه فكفهم عنه.
أبو الفتوح شريف مكة في أوائل القرن الرابع الهجري:
ذكروا أنه كان يتمتع بقوة نادرة كما أن له أختاً تضاهيه في ذلك ويروون أن من غرائب ما صح عن ذلك أن أخته أرسلت إليه ببعض الدراهم ليشتري لها شيئاً من الحنطة فأخذ الدراهم وفركها بين يديه فانمحى رسمها ثم بعث إليها الحنطة مصحوبة بالدراهم ليوهمها أن دراهمها زائفة فأدركت النكتة في ذلك فعمدت إلى قبضة من الحنطة وفركتها حتى صيرتها دقيقاً ثم أرسلت بها إليه تقول إن هذه الحنطة لا تصلح فكانت بليغة في ردها كما كانت نادرة مثله في فرط قوتها.
أم الحسين:
ومن روائع ما يعجبني من مواقف السيدات العربيات في التاريخ موقف أم الحسين بن علي بن قتادة..
كانت أمه سوداء قيل أنها حبشية وكانت معروفة بالبيان مشهورة بالبسالة وأصالة الرأي.. ذكروا أن الحسين ابنها وكان يتولى إمارة مكة في منتصف القرن السابع الهجري ساقته الظروف إلى موقف حربي حرج وكان سنه لا يزيد على الثامنة عشرة فخافت أن يخور أو يتراجع إذا تأزم الموقف فمضت في هودجها تسرع السير الجاد حتى أدركته فقالت يا بني إنك تقف اليوم موقفاً إن ظفرت به قال الناس ظفر ابن بنت رسول الله وإن فشلت قالوا فشل ابن الأمة السوداء فانظر لنفسك فإنه لا موت قبل فراغ العمر فكان ذلك من أسباب ظفره في الموقعة.
وفي ذلك ما يذكرنا بروعة موقف أم الزبير من ابنها وهي قصة يمنعنا من سردها أنها ذائعة مشهورة.
كيف كان المكيون يحتفلون بعمرة رجب:
ومن طرائف ما يذكره ابن جبير احتفال المكيين بعمرة رجب في القرن السادس الهجري فهو يقول: إنه رآهم ليلة رجب يحتفلون بالعمرة فيخرج النساء إليها بالهوادج تسيل بها أباطح مكة حتى لا يبقى في مكة من أهلها إلاّ من خرج للعمرة وقد زينت الهوادج بقلائد من الحرير وفاضت عليها الأستار المزركشة التي تسحب أذيالها على الأرض ثم يقول وفي صباح رجب يخرج الأمير إلى العمرة في حشد عظيم ويخرج المعتمرون قبيلة قبيلة وحارة حارة فرساناً ورجالاً يتواثبون ويتشاقفون الأسلحة حراباً وسيوفاً في مهارة عجيبة.. وكانوا يرمون السيوف في الهواء ثم يتلقفونها قبضاً على قوائمها كأنها لم تفارق أيديهم بالرغم من شدة زحامهم فإذا عاد الأمير من العمرة هرع إلى المسجد وشرع يطوف في حشده العظيم.
طواف أمراء مكة:
وطواف الأمير في ذلك العهد له غرابته وقد وصفه ابن جبير كما شهده يقول أن للأمير قرّاء يتقدمون موكبه إلى الطواف يتقدمهم رجال الحرس من السودان شارعين حرابهم فإذا بدأ الطواف شرع مؤذن صبي يبلغ العاشرة وهو أخو المؤذن الزمزمي يرعد فوق قبة زمزم داعياً للأمير بالسعادة الدائمة والنعمة الشاملة ثم يصل بكلام مسجوع مطبوع حفيل بالدعاء ثم يختمه ببعض من أبيات الشعر في مدحه فإذا شرع في الشوط الثاني اندفع بدعاء حار ووصله بأبيات من الشعر وظل على ذلك إلى نهاية المطاف.
رمضان في مكة:
ويصف ابن جبير عادة صيام رمضان في مكة فيقول ما خلاصته: إن دبادب الأمير أخذت تضرب في مكة ليلة الشك إيذاناً بصيام يوم الشك وبدأ المسجد يتلألأ نوراً وللمسجد فرقعة يضرب بها في الهواء ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المغرب ومثلها عند الفراغ من صلاة العشاء فتحدث صوتاً مدوياً (والفرقعة نوع من الكرابيج يضرب بها في الهواء فتحدث هذا الدوي).
ويتولى التسحير في مئذنة باب علي المؤذن الزمزمي قريباً من دار الأمير ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه في أصوات رقيقة -وقد نصبت في أعلى المئذنة خشبة طويلة أنيط بطرفيها قنديلان يُطفآن إذا حان الإمساك وأهل مكة في سطوحها المرتفعة البعيدة من المسجد يمسكون إذا أطفئ القنديلان.
الأذان في مكة:
ويذكرنا هذا بما فعله العباسيون في سبيل إشاعة الأذان في مكة فقد بنى الرشيد في القرن الثاني الهجري فوق الجبال منائر تشرف على فجاج مكة ورتب لها المؤذنين فكان مؤذن المسجد لا يكاد يرتفع صوته حتى تتابع الأصوات بعده من جبل إلى جبل آخر حتى تعم مكة من سائر أقطارها وفجاجها وبذلك كان الصائم لا يغيب عليه وقت الإفطار أو السحر ولكن هذه المنائر ما لبثت أن أهملت بتقادم الأجيال وخربت ولم يبق منها أثر -فاستعاضوا عنها فيما يبدو بالفرقعة.
الفلفل في مكة:
ومن طرائف ما قرأت في تاريخ مكة قصة الفلفل فقد ذكروا أنه عز وجوده في مكة عام 815هـ كما عز وجوده في مصر وأن صاحب مصر أرسل يطلب شراءه من مكة فصدر له ما يطلبه بسعر غريب ذلك أن وسق البعير بلغ ثمنه نحو عشرين ومائتي مثقال من الذهب.. ما كانت مكة تزرع الفلفل ولكنه كان يردها من الهند طبعاً ولم تكن هناك بواخر فكان طريق الفلفل يطول في سفر المركب إلى جدة فلم لا يبلغ هذا السعر.
النقود في مكة:
ومما يذكر لتاريخ مكة أن مكة استطاعت في فترة من الزمن أن تطبع نقودها على مطبعة خاصة بها في مكة أنشأها لها أميرها علي بن عنان في 827هـ ولم يذكر التاريخ شيئاً عما آلت إليه المطبعة وكيف أمحت آثارها.
بركات بن حسن:
ومن طريف ما يروون في ترجمة بركات بن حسن بن عجلان من أمراء مكة في القرن التاسع الهجري أن أحمد بن إسماعيل ملك اليمن كتب إليه أنه ينوي الخروج إلى الحج وطلب إليه إخلاء بيوت في مكة عينها لإقامته وأن يتلقاه عند حلى وهي قرية معروفة قريبة من حدود اليمن فأجابه بركات بقصيدة أنشأها عفيف الدين بن قاسم من شعراء مكة فيما يزيد على 30 بيتاً وفيها يقول:
بالقنا الخطى والبيض الظبا
وبخيل تتبارى سرّبا
وبأبطال إذا ما استعرت
نار حرب ولظاها التهبا
نحمي ذا البيت ونحمي جدة
وربا حلي وأكناف قبا
إلى أن يقول:
قل لمن رام ينادينا ومن
رام يأتي بيتنا مغتصبا
لا يحج البيت إلاّ خاضعاً
دافعاً عشراً لنا ثم جبا
وإذا ما كان رأساً لم يعد
عندنا يا صاح إلاّ ذنبا
الحاج قايتباي:
ومن طريف ما يذكر عن الحج: أن قايتباي الملك الشركسي المعروف بخبراته حج عام 884هـ ولم يحج غيره من ملوك الشراكسة فندب له صاحب مكة محمد بن بركات من يستقبله في الحوراء وهي بالقرب من أملج ينبع وأنه مد له فيها سماطاً عربياً كان من بين أنواعه صنف من الحلوى أعجب بها السلطان فسأل عن اسمها فقيل له إن اسمه ((كل واشكر)) وفي هذا ما يدل على عنايتها بالأسمطة وأنواعها من ذلك العهد وفي تسمية الحلوى ((كل واشكر)) ما يدل على لون من العاطفة الدينية.
وبعد أن يذكر القطبي كيفية استقبال قايتباي والاحتفاء بدخوله إلى مكة يقول إنه عندما انتهى موكب السلطان إلى باب السلام الخارجي تخطى عتبته بفرسه وفي هذا يقول ابن فهد القرشي إن ذلك كان تأديباً من الله فقد كان يتعين عليه أن يدخل محرماً مكشوف الرأس.
أول مطوف:
ثم يذكر القطبي أن القاضي إبراهيم بن ظهيرة القرشي طوَّف الملك قايتباي ويتراءى لي شخصياً أن قاضينا هذا كان أول مطوف في مكة ورثنا عنه هذه المهنة التي خربناها ونسأل الله إصلاحها في نظامها الجديد..
قايتباي وإمام الحرم:
وقصة إمام المسجد الشيخ محب الدين الطبري المكي مع السلطان قايتباي في حجه هذا قصة بلغت الذروة في روعتها وهي تدل على مبلغ احترام علمائنا في ذلك العهد أنفسهم.
تتلخص القصة في أنه وشي بإمام الحرم أنه لم يكن من مستقبلي السلطان خارج مكة فأمر به فحضر فعاتبه في ذلك فقال: إني أستقبلك في أشرف بقعة في المسجد الحرام فسر لجوابه ثم علم أنه لا يتقاضى شيئاً لوظيفة الإمامة فقال له إني فرضت مائة دينار شهرياً لقاء إمامتك فقال إمامتي حسبة لله لا أقبل عليها جزاء ثم ما لبث أن انسل من المجلس دون أن يأذن له قايتباي وقال وهو يخرج سلام عليكم فعلق بعض الوشاة على ذلك وقال للسلطان أنه أراد الآية سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (القصص: 55) فلم يسمع السلطان الوشاية وقال إنني تصورته أسداً قوي الشكيمة في أول مقابلته لي.. ولما عاد السلطان إلى مصر أرسل أمراً بتعيين الشيخ رئيساً للقضاة والمشيخة الإفتاء والتدريس والحسبة فوصل الرسول إلى مكة وأراد تسليم الأوامر إلى الشيخ نفسه ((ليحنّي يده طبعاً)) فلما انتهى إلى بيته قيل له إنه ذهب يحمل عجين بيته ليخبزه في فرن في أقصى الشارع فعجب الرسول من ذلك واستخف بعمله ثم انتظر إلى جوار البيت حتى حضر وسلمه الأوامر وانتظر الحنا فلم يخيب الشيخ رجاءه في الحنا فقد قدم إليه رغيفين مما يحمله من الخبز فكانت دهشة لم يقدرها سيدنا الشيخ فما كان من الرسول إلاّ أن قال: إن مثل هذه التعيينات لا تقل مكافأتها عن الألف.
فأعاد الشيخ إليه أوراق التعيينات وقال: تفضل فأعدها إلى سلطانك فإنه لا حاجة لي بها.
ومن روائع ما نقل عن الحسن بن أبي نمي أنه كان شديد الفراسة فارط الذكاء يتولى أمر مكة في أواخر القرن العاشر الهجري ذكروا أن من نوادره أنه وجد حبلاً نسيه أحد اللصوص في مكة فاستدل من رائحته أن السارق عطار ثم ما لبث أن تحرى عن العطار حتى عرفه.. وفي مرة أخرى اختصم شامي ومصري على جمل فأمر بذبحه ونظر فرأى مخه معقوداً فحكم به للشامي وأمر بتغريم المصري وقال: إن الشاميين يعلفون جمالهم ((الكرسة)) وهي تعقد المخ بينما يعلف المصريون جمالهم الفول وهو يعقد الشحم.. ووجد مرة عصا في مكان مال مسروق بالمزدلفة فعرف من شكلها نوع القبيلة فاستحضر جماعة منهم وتحرى عن صاحبها حتى عرفه.
وكان إلى جانب هذا جواداً وكان يشجع المؤلفين ويمنح الشعراء.. ومن طريف ما يروى عن الحسن أن الشيخ عبد الرزاق جد آل الشيبي المعروفين وكان فصيحاً رائع النكتة دخل على الحسن يستأذنه في السفر إلى الهند فأنشده الحسن بيت الغرائي المشهور:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه
وأنت تغنيك عنه مصة الوشل
فأجابه الشيبي من القصيدة نفسها:
أريد بسطة كف أستعين بها
على قضاء حقوق للعلى قبلي
فاستحسن بديهته.. وكان ثمن البيت من الشعر المحفوظ في رأيه ألف دينار فأمر له بها.
طغيال بن عتيق:
ومن أغرب المفارقات أن يكون للحسن بن أبي نمي شهرته من البراعة والفراسة ثم يُمنى بوزير جريء على الباطل متفنن في ألوان الظلم يتسلط على حكم البلاد دون أن يُرد له أمرٌ أو يسمع الحسن ضده أي شكوى.
ذكروا أن وزيره عبد الرحمن بن عبد الله بن عتيق الحضرمي وإليه ينسب باب العتيق في المسجد لأنه كان يسكن بجواره.. ذكروا أنه كان يستأصل أموال الموتى من الأهالي والحجاج فيحرم ورثتهم. وكانت له حيلة غريبة فيما يستأصل.
كان يجمع أختام المتوفين من قضاة مكة ونوابهم فإذا قضى أحد كبار الأغنياء أقام دعواه على تركة المتوفى بمبلغ يستغرق التركة أو يزيد عنها وكلف من كتَّاب المحكمة من يزور له حجة بذلك المبلغ ثم ختم بأحد الأختام المحفوظة لديه باسم القضاة السابقين ثم وقعها بشهادة شهود يقتنصهم ثم تذيل الحجة بهذا النص ((تأملت هذه الحجة فوجدتها مسددة وشهد بذلك فلان وفلان)) وبذلك تكتسب الحجة قيمتها الشرعية ويستطيع بموجبها أن يستولي على تركة المتوفى عن آخرها وكان بعض الناس يقرأونها ويعرفون أسلوبها في التزوير ولكنهم يعجزون عن أن ينبسوا ببنت شفة.
إنها مأساة أستطيع أن أفهم منها أن الطريق إلى أمير البلاد يومها لم يكن مفروشاً بالرمل الناعم برغم حبه للعدل وشهرته به.. أستطيع أن أفهم أن الجريء من رعاياه لا يكفيه أن يكون جريئاً على المكاشفة ما دام لا يجد طريقة تمهد لها ويعرف بالتجارب أنه سيظفر بعد المكاشفة بحصانة يأمن معها غائلة الأقوياء ولو أعد أمير البلاد يومها رعاياه للمكاشفة وتركهم يجربون حصانته من الغوائل لما عدم النفوس الحية من صفوف بني عمومته الأشراف أو من يليهم من أعيان الأهالي أو عامة الشعب.
ويؤيدنا في هذا أن ابنه أبا طالب لم يجرؤ على مكاشفته رغم علمه بالحوادث واستيائه منها بدليل أنه ما كاد الحسن يلقى ربه حتى أسرع أبو طالب إلى القبض على ابن عتيق وإيداعه السجن.. وشعر الجاني بفداحة ما ينتظره فاحتال حتى سرق جنبية الحارس وقضى على نفسه بها.
وما شاع الخبر حتى نقلت جثته إلى حفرة في طريق جدة دون أن يغسلوها أو يصلوا عليها واجتمع الناس فشرعوا يرمونه بالحجارة والنعال حتى دفنوه بها وعمد الأمير الجديد بعد هذا إلى تصفية أمواله وتوزيعها على مستحقيها.. وهجاه الشعراء في مكة وأكثروا في ذلك ومما قال بعض أدبائهم:
أشقى النفوس الباغية
ابن عتيق الطاغية
نار الجحيم تعوذت
منه وقالت ماليه
منشور الإمارة:
وبهذه المناسبة يطربني أن أقرأ لكم بعض عبارات المنشور الذي صدر من الآستانة بتوليه أبي طالب بعد وفاة أبيه الحسن ابن أبي نمي كنموذج لأسلوب المحسِّنات اللفظية التي سادت في ذلك العصر في أكثر بلاد الشرق. وقد جاء فيه ((ليعلم كل من كحل بصره بأثمد منشورنا الكريم وشنف مسامعه بلآلئ لفظه العظيم أن إمارة تلك المعاهد ((يعني مكة)) وما فيها من عساكر وما أحاطت به من الأصاغر والأكابر مفوضة إلى السيد السند الشريف أبي طالب ((إلى أن يقول)) فتح الله له بمفاتيح السر كل مغلق من الأبواب وما سقطت من أكف الثريا الخواتم ورقت على منابر الأغصان خطب الأئمة الكرام))..
سلطانة بنت الشيخ:
وأنقل عن هذا العهد قصة لها طرافتها فقد ذكروا أن الشريف أحمد بن عبد المطلب أمير مكة في عام 1037هـ كان يجاهر بعدائه للشيخ عبد الرحمن المرشدي مفتي مكة وفي هذه الأثناء رغب الأمير خطبة فتاة اسمها سلطانة بنت الشيخ علي شهاب فاحتال أبوها حتى خلص معتذراً. وتزوجت الفتاة غيره فلما كانت حفلة العقد طلب إلى مفتي مكة أن يتفضل بإجراءاته فاستفتح خطبة العقد بقوله: (الحمد لله أعزّ سلطانة وهو اسم الفتاة).
الحمد لله الذي أعز سلطانه وأدحض شيطانه فكانت نكتة الموسم ولكن أمير البلاد ما كاد يصله خبر النكتة حتى تصيد للمفتي ما أوفى بالثأر.
بدعة شرب القهوة:
وحدث في هذا العهد ما يستحق الدهشة وعهدنا هذا هو القرن الحادي عشر الهجري حدث أن شاع شرب القهوة في مكة كبدعة جديدة انتقدها العلماء وأفتى بعضهم بتحريمها وقال إنها خمرة مسكرة فصدر الأمر بجلد بائعها وشاربها وطابخها فكان بعض الناس يتعاطونها في أقبية بيوتهم وأحب شيء إلى الإنسان ما منع وكان المكلفون يهاجمونهم ويسحبونهم بالعنف إلى ساحة عامة ويضربون رؤوسهم بأوانيها حتى تدميها وكانت أوانيها من الفخار وربما قضى بعضهم من هول الضرب وربما اكتفوا عن ذلك بجلدهم بالسوط ثم ما لبثوا أن تهاونوا في شأنها، فكثر شيوعها لندركها اليوم وهي أفضل أنواع التحايا ليتنا ونحن نتلذذ بنكهتها نذكر الثمن الغالي الذي تكلفه آباؤنا في سبيل هذه النكهة قبل أن تصل إلى مجالسنا.
عقد الرُّكب في مكة:
وشيء كنت أتمنى لو فلسفه أطباؤنا الشباب فقد حدث في هذا العهد أن شاع مرض غريب أسموه (عقد الركب) كان الرجل يخرج من بيته سليماً فيعود إليه محمولاً معقود الركب لا يستطيع القيام عليها من غير داء يشكوه فكانوا يتخذون له شراب ماء الليم مع السكر بعد أن ينضجوه على النار في قشرته.
فهل مر بأطبائنا مثل هذا الوباء وهل يسلمون بعلاقة الليم بشفائه أم يحلو لهم أن يتفلسفوا على آبائهم؟!.
في ركاب الطواشي:
ومن غريب ما قرأت أن بشير آغا الطواشي من مماليك السلطان مراد حج عام 1049هـ وكان يحمل تفويضاً من السلطان بعزل وتولية من يرى عزله أو توليته من أمراء البلاد التي يمر بها فلما انتهى إلى مصر خرج واليها للقائه في ظهرها وقبّل ركبته ومشى بين يديه إلى أن أذن له بالركوب فلما انتهى خبر ذلك إلى الشريف زيد في مكة عز عليه أن يمشي في ركاب الطواشي فاستشار الشيخ عبد الرحمن المحجوب، وكان من رجال العلم الصالحين فقال أسأل الله أن يكفيك ذلك فاستجيبت دعوته لأن بشير أغا ما كاد يصل إلى مكة حتى سبقه خبر بوفاة السلطان مراد وبذلك بطل مفعول التفويض الذي يحمله. ودخل بشير أغا فقابله الشريف زيد مقابلة عادية وصافحه ثم ركض بفرسه حتى تقدم عليه وعزاه في السلطان فتضاءل بشير أغا لأنه كان يظن أن خبر الوفاة مجهول في مكة.
هدميات قديمة:
ولعلّ أخانا الكوشك وزميلنا شيخ المجلس البلدي يعرفان أنهما مسبوقان إلى هذه الهدميات التي تراها في مكة فقد أمر أحمد باشا نائب الشرع بلكات العسكر الإنكشارية في عام 1098 أن يمروا من باب الصفا إلى المروة ليزيلوا النواتئ والظلل ثم ركب في أثرهم فدخل إلى السويقة والشامية وأمر بإزالة نواتئ الدكاكين فيها.
في تنظيفات مكة:
ومن أطرف ما قرأت في حادثة أخرى أن المكلف بالتنظيفات منع من إلقاء القمائم في الشوارع ثم مر ببعضها فوجد قمائم بجوار أحد البيوت فكلف صاحب البيت وكان من الوجهاء أن يجمعها في جبته إلى المرمى العام.
جمل فوق المنبر:
ولعلّكم تستغربون إذا ذكرت لكم أنه في صباح أحد الأيام من عام 1091 فوجئ الناس بجمل يتربع في أعلى المنبر، لقد حدث هذا فهل تصدقون؟ أرى قوماً بينكم ينغضون إلى رؤوسهم في عجب، ويقولون كيف كان.. كان هذا السبب، وإذا عرف السبب بطل العجب.. سال وادي إبراهيم على أثر مطر عظيم واقتحم السيل المسجد الحرام حتى استقر به على المنبر فلما انكشف الماء في الصباح وجدوا الجمل في مكان في أعلى المنبر.. لا تسألوني ماذا صنعوا به فهذا خلاصة ما قرأته وأحلف أني لم أشاهد الواقعة بعيني.
بدعة الدخان:
ومنيت مكة بعد سنوات من هذا الحادث ببدعة شرب الدخان وقد قيل إنه انتقل إليها من مصر أول ما انتقل في عام 1112 ثم ما لبث أن ظهر شرب التنباك والمعروف عن بعض المؤرخين أن شجرة الدخان ظهرت أول ما ظهرت في عام 999 هجرية.
واشتد النكير على الدخان فلم ينفع النكير، وفي عام 1149 غضب العلماء لانتشاره فحاربوه في إصرار وأمر يومها أمير مكة الشريف مسعود بن سعيد من ذوي زيد أمر بمنع التظاهر بشربه فكان المكلفون يتعقبون الناس في جميع الطرقات ويعاقبون كل من يشربه.. قيل إن الشريف مسعود كان يعتقد تحريمه كما قيل إن الدافع إلى ذلك هو تبذير الناس وإسرافهم.
وحورب بعد هذا ثم حورب في أيامنا ومع هذا فقد ظلت سيئاته تغشانا.
التنويم المغناطيسي:
ولا أدري هل عرفت مكة القديمة شيئاً عن التنويم المغناطيسي فقد قرأت أن الشريف سعيد بن سعد من ذوي زيد مرض في عام 1228 مرضاً حار فيه الأطباء فجيء إليه برجل يدعي الكشف فطلب إحضار شخص ساذج لإجراء تجاربه فلما حضر كتب على جبينه شيئاً فغاب الشخص عن وعيه وشرع يتكلم عن حقيقة المرض ويصف العلاج وهو أسلوب يختلف كثيراً عما نسمعه من أعمال المؤمنين ووسطائهم.
المظلوم في جدة:
ونحن نسمع عن حارة المظلوم في ((جدة)) وربما يتساءل بعضنا من هو المظلوم وما ظلامته والقصة كما يرويها التاريخ تتلخص في أن تابعاً لأغوات المدينة أراد أن ينخرط في سلك الجندية فحيل بينه وبين ذلك فغضب لأجله الأغوات وأغلظ بعضهم في القول لرجال الحامية فثارت فتنة تحصن الأغوات فيها بالمسجد في المدينة فأراد قاضي المدينة أن يتوسط في الصلح فامتنع الأغوات من الحضور إلى مجلس القاضي فاعتبرهم القاضي عصاة للشرع وأمر بقتالهم فقاتلوهم ثم ما لبث الأغوات أن طلبوا الأمان فأبى رجل الحامية إلاّ بتقديم كبارهم إلى مكة ليرى الحاكم رأي الشرع فيهم فقبلوا ذلك ولما ثبتت إدانتهم عوقب بعضهم ونفي البعض الآخر.
ثم استأنف الأغوات دعواهم وأثبتوا أن سبب الفتنة كان وشاية أشخاص في المدينة على رأسهم الشيخ عبد الكريم البرزنجي فصدر الأمر بقتله ففر إلى جدة فقبض عليه وقتل في جدة ودفن في الجهة التي نسميها اليوم حارة المظلوم.
حادثة الشهيد:
حادثة الحسين الشهيد بن محمد بن عبد المعين حادثة تستحق الرواية فقد تولى إمارة مكة في شعبان عام 1294 وكنا من سنوات نشهد آثار قصره لا تزال ماثلة أمام أعيننا خلف الزاهر إلى يمين الطريق الذاهب من الزاهر إلى جدة ونسميه قصر الشهيد.
تولى الحسين الشهيد إمارة مكة على أثر إقصاء الخليفة العثماني السلطان عبد العزيز وإعلان الدستور وقد قيل أن الحسين يعتنق رأي الدستوريين فوجهوا إليه إمارة مكة.
ولكن ما كاد يستقر في مكة حتى تمكّن السلطان عبد الحميد من زمام الأمور، واستطاع أن يعد عدته لإلغاء الدستور ويقبض على مناصريه.
في هذه الأثناء كان الحسين الشهيد في طريقه إلى جدة تلبية لمأدبة أقيمت لتكريمه فلما انتهى إلى حيث ترجل عند دار الشيخ عمر نصيف تقدم إليه رجل في شكل الدراويش يطلب تقبيل يده فما كاد يلمسها حتى سبقه بطعنة خنجر في خاصرته فقضت عليه من فوره.
قبض على القاتل وحاولت السلطة أن تنتزع منه أي اعتراف يحقق أسباب الاغتيال أو يشير إلى الأيدي الدافعة فلم تظفر منه بحرف واحد رغم ما أذاقوه من ألوان التعذيب.
قالوا إنه أفغاني وإنه من المتحمسين لمبادئ الخلافة ولكن وجيه جدة الشيخ محمد نصيف وهو ابن أخي الشيخ عمر نصيف الذي اغتيل الحسين عند باب داره ذكر لي أنه سمع من بعض المقربين أن القاتل لم يكن أفغانياً بل هو من داغستان وأن أخاً له اسمه الشرواني باشا كان يخدم في الجيش العثماني في مكة فاغتاله بعض كبار المسئولين فجاء هذا إلى مكة معتزماً الأخذ بثأر أخيه فلما لم يجد غريمه أراد أن يضرب بأكثر مما يجب للثأر فاحتال حتى واتته الفرصة عند دار نصيف في جدة فقضى على الشهيد بالكيفية التي ذكرناها وبوفاته صدرت الأوامر الشاهنية بتولية الشريف عبد المطلب إمارة مكة ليقضي بحزمه على أنصار الدستور في مكة وكان قد تقلد الإمارة قبل ذلك مرتين واقتضت سياسة عبد الحميد أن يقبض على زعماء رجال الدستور في الآستانة وعددهم 11 شخصاً على رأسهم زعيمهم مدحت باشا وشيخ الإسلام في تركيا ثم ينفيهم إلى مكة ليسجنوا فيها تحت إشراف عبد المطلب فنقلهم عبد المطلب إلى الثكنة العسكرية في الطائف وقد مات مدحت وبعض رفاقه في الطائف ودفنوا بها وظل جثمانهم فيها حتى أوفدت أخيراً الجمهورية التركية في عام 1370 لجنة تولت نقل الرفات من الطائف إلى أنقره.
فتنة القبوري:
ثورة القبوري وهي قصة كان آباؤنا يتناقلون أخبارها إلى عهد قريب وتتلخص في أن رجال الدستور العثماني بعد أن قضي على آمالهم في عهد السلطان عبد الحميد، عادوا فانتعشوا مرة أخرى واستطاعوا الاستيلاء على السلطة وكانت أوامرهم تصل إلى مكة كمقاطعة تابعة لهم ولكن مكة بيئة غير صالحة لأكثر تعاليم الدستور.
كان من بين هذه التعاليم أنظمة يبلغها شيخ القبوريين تتعلق بأعمال الدفن فلم يهضمها شيخ القبوريين وخرج من دار الحكومة ليصيح بأعلى صوته الجهاد يا مسلمين.
ووجدت صيحته أثرها في جماهير مكة التي كانت تعتقد أن لوائح الدستوريين تخالف الشرع الشريف فخرج الناس بأسلحتهم ينادون بالثورة على الدستوريين الأتراك فاشتبكوا في عدة مواقع من الأسواق وقتل وجرح من الفريقين عدد كثير ولكن بعض الأشراف والأعيان سعوا لإخمادها وتوسطوا بين الفريقين.
أول جريدة في مكة:
وما دمنا في صدد أعمال رجال الدستور فمن العدل أن نذكر أنهم كانوا أول من وضع لبنة الصحافة في مكة، دعتهم ظروفهم لإنشاء جريدة في مكة تعبر عن آرائهم فكانت الجريدة التي سموها (الحجاز) وكانت تطبع في أجياد في مطبعة كانت تدار باليد وظلت المطبعة في مكانها خلف إدارة المالية وهي لا تزال تعيش بين المطابع والآلات الجديدة في مطبعة الحكومة.
وكانت جريدة الحجاز تطبع باللغتين العربية والتركية.. وأصدر أحد موظفي الأتراك إلى جانبها جريدة أسماها (شمس الحقيقة) ظلت تصدر إلى عهد الحسين بن علي قبل الاستقلال ولكنها كانت تتناول أكثر المسئولين بالنقد فتعثر سيرها ثم تعطلت بينما ظلت جريدة الحجاز توالي صدورها إلى أن ثار الحسين في مكة فانتقلت طباعتها إلى المدينة أيام حصار الحسين بالمدينة وظلت كذلك إلى أن سلمت المدينة وكان يتولى رئاسة تحريرها بالمدينة الوجيه المعروف السيد حمزة غوث.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :936  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج