وادي العقيق |
أحد مظاهر الترف الحجازي |
نحن إذ نقرأ ما رواه التاريخ من أخبار العقيق وطرائفه وما توسع في نقله بعض أصحاب الصناعة من كتاب القصة والرواة، تتسع أمامنا آفاق البحث في مسارات لها مساس بالروح الأدبية التي سادت الحجاز في تلك الفترة من ذلك العصر مضافاً إليها حياة الترف والبذخ التي أراد أصحاب السلطان في بني أمية ثم في بني العباس أن يعيشها الحجاز ليلهو بها عن أطماعه السياسية مضافاً إلى ذلك طبيعة الظرف وحب الدعابة في نفس الحجازي. |
ونحن نعلم أن روح الشاعرية سادت الحجاز في هذا العصر الذي ندرسه بشكل قليل النظير وأن الذوق الفني العالي هيمن على حياتهم وفاض حتى اتصل بخدور النساء فأزاح بعض ستورها وأبرزهن من روائها أنصاف سافرات وأن بعضهن بلغ من غرامه بالشعر أنهن كن يتناشدنه في المسجد الحرام ويتدارسن أخباره وأن منهن الشواعر والأديبات وناقدات الشعر. |
ذكروا أن سكينة بنت الحسين كانت مولعة بالأدب محبة للشعر وأنها كانت تعقد للشعراء مجالس يفدون إليها ويتناشدون في حضرتها فتستمع إليهم وتنقد ما ينظمون وتروي بعض أشعارهم وتفاضل بينهم وأنها أنشدت شعر الحارث بن خالد المخزومي فنقدته، ووفد عليها جرير وأنشدها شعره فنقدته وكذلك فعلت بالفرزدق. |
كما ذكروا أن عائشة بنت طلحة كان يجلس إليها الشعراء وأن عمر بن أبي ربيعة كان يعترضها في الطريق وهي تركب بغلتها فينشدها شعره وأنها كانت تقف لتستمع إليه وأنه كان يناقشها فيما تلاحظ وتنقد. |
ولا نستطيع أن نستقصي أسماء كل الأديبات والمغرمات بالشعر في هذا المحيط الذي ندرسه فذلك فوق ما يتسع له مثل هذا الحديث ولكننا نريد أن نخلص من هذا إلى نوع من التدليل على الروح الشاعرية التي سادت الحجازيين حينذاك وعلى مبلغ تعشُّق نسائهم لهذا اللون من الحياة لعلّنا نستطيع أن نفسر على ضوء ذلك أخبار العقيق ونذهب فيه مذهباً لا يبعد كثيراً عما نتحراه من الدقة في البحث. |
وادي العقيق يصدر من أحضان بعض الهضاب في جنوب المدينة على مسافة خمسين كيلومتراً منها ثم يمضي في انحداره حتى يحاذي جبل عير بقرب المدينة ثم يلتوي شمالاً ليحيط بضواحي المدينة من ناحيتها الغربية ويحاذي حرة الوبرة حتى يصب في زعانة. |
وتنحدر السيول الصادرة من أحضان الهضاب والهابطة من مزدلفات الجبال حوله فتحيل فيه نهيراً تصطخب أمواهه وتتلاطم أمواجه فيفيض على ما حوله من جداول يسقي نخيلها ويروي بساتينها، وتجتمع المياه في بعض منحدراته في برك تتسع أو تضيق باتساع أو ضيق الخلجان في الوادي فيهرع أهل المدينة في زمر وأفواج إلى شواطئه يمتعون أنظارهم ببهجته ويتنزهون بين غياضه وينفرد المستحمون ببعض ما التوى منه في حواشي الوادي ليبعدوا عن أنظار المتطفلين والمتفرجين. |
يروي أبو الفرج أنه سال العقيق ذات مرة فخرج أفواج المتنزهين من المدينة لائذين به وخرجت سكينة بنت الحسين إليه في زمرة من جواريها حتى جاءت السيل فجلست على جرفه ومالت برجلها فيه. |
وتمضي مواكب المتنزهين في حواشي الوادي فترى الرجال تحف بهم أخلاؤهم ونداماهم والنساء تتبعهن حاشيتهن أو جواريهن يلبسن القمص الإسكندرانية الرقيقة والثياب القاهرية المعصفرة مسدولة عليها الملاءات اليمانية الفضفاضة المرقشة ويرتفع في هذا المراح صوت ابن عائشة. |
ومن عجب أني إذا الليل جنني |
أقوم من الشوق الشديد وأقعد |
أحن إليكم مثل ما حن شائق |
إلى الورد عطشان الفؤاد مصرد |
ولي كبد حرّى يغذيها الهوى |
ولي جسد يبلى ولا يتجدد |
|
ويستزيده المستمعون في صخب ونشوة فلا يلبث أن يمتنع ثم يستأنف غناه من جديد. |
خرجن لحب اللهو من غير ريبة |
عفائف باغي اللهو منهن آبس |
يردن إذا ما الشمس لم يخش حرها |
خلال بساتين خلاهن يابس |
فلا يلبث إذا الحر آذاهن لذن بسرحة |
كما لاذ بالظل الظباء الكوانس |
|
ويحتشد النساء لصوته ويجلسن على كثب منه يستمعن إلى إنشاده في نشوة وطرب. |
وتمضي الدواب الفارهة في أعناقها القلائد المذهبة بأصحابها من جلة القوم وعليتهم في أقبيتهم المطرزة بالوشي تحت الثياب الرقيقة المصبغة من الكتان أو القز بعضها أطول من بعض كأنها المدارج تقوم قياماً من شدة الصقال متنقلين جماعات الشعراء. وحلقات المنشدين ومجالس المتندرين وأصحاب المجون. |
هذه حلقة (جميلة) مولاة الأنصار وقد نزل بها ابن سريح والغريض وسعيد بن مسجح وفوداً من مكة وصحبهم إلى العقيق معبد وابن عائشة حيث يتبارون جميعاً في أصواتهم ويحتكمون إلى جميلة فيما ينشدون فيسمعونها تقول: أنت يا ابن سريح تضحك الثكلى برقة غنائك وأما أنت يا معبد فليس كجودة تأليفك وأما أنت يا ابن مسجح فلك أولية هذا الأمر. |
وتحتشد الحلقة بكل غادٍ ورائح ويبدو موكب عمر بن أبي ربيعة مقبلاً فيخف الحشد إلى استقباله وترتفع الأصوات في جنبات الحلقة تتمنى على جميلة أن تسمعها من شعر عمر فتنشد: |
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها |
وموقفي وكلانا ثم ذو شجن |
وقولها للثريا وهي باكية |
والدمع منها على الخدين ذو سنن |
باللَّه قولي له في غير معتبة |
ماذا أردت بطول المكث في اليمن |
إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها |
فما أصبت بترك الحج من ثمن |
|
وتتوجه الأنظار ملتفتة إلى عمر فإذا عمر مطرق برأسه إلى الأرض في هيئة الحزين وإذا دمعه ينحدر قبيل لحيته وثيابه. |
وهذا مجلس الشعراء يجمع نصيباً وكثيراً والأحوص يستمعون إلى إسماعيل بن يسار وهو يترنم: |
لقد لمتني ظلماً بلا ظنة |
وأنت فيما بيننا ألوم |
أخافت المشي حذار العدا |
والليل داج حالك مظلم |
ودون ما حاولت زرتكم |
أخوك والحال معاً والحم |
وليس إلاّ اللَّه لي صاحب |
إليكم والصارم اللّهذم |
|
وتصدح على غير بعيد أصوات المعازف كأنها ترتل ترانيم الشعراء وتهزج بأهازيجهم وينحدر الممشى بالمتفرجين إلى ما يشبه الخور على حافة السيل فإذا شاب من أحفاد معاوية في طيلسان من الديباج الأخضر يتوشح بمطرف من الخز قد استند إلى جذع نخلة باسقة وراح يبث أرغوله تباريح جواه في نغمات شجية يسيل بها النسيم الرفاف إلى مسامع المتجمهرين فتحتشد زمرهم حوله في هدوء وتلصص يستمعون إلى نغماته ويئنون -لتوجعاته. |
هذا مسيل العقيق كمتنزه عام نستجلي فيه صورة واضحة من صور الحياة في ذلك العهد الزاخر بالترف. |
|