المسجد الحرام في التاريخ |
عندما أتم خليل الله إبراهيم عليه السلام بناء الكعبة تنفيذاً لأمر الله باتت بين يديها ساحة تحيط بها ظلت متعبَّداً للمؤمنين من ذرية إبراهيم. |
وظل الأمر على هذا طيلة عهد ((جرهم)) وعهد ((خزاعة)) حتى جاء قصي بن كلاب فأجلاهم وجمع العرب من كنانة فخطط لهم مدار الكعبة وأمرهم أن يحيطوا ساحتها ببيوتهم فاستقام بطن المدار كمسجد أفرد للمتعبِّدين والطائفين والمتفيئين ظل الكعبة من المخبتين. |
وأشرق الإسلام بنوره ثم كان الفتح فظل المدار حول الكعبة على أمره مسجداً تقام فيه فريضة الإسلام. |
كان المدار يستوعب المصلين طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى كانت أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأصبح المسجد لا يتسع للمصلين فأمر عمر في عام 17هـ بتوسعته بضعة أمتار فقوّمت بعض البيوت الملاصقة للمسجد وهدمت وأضيفت أرضها للمسجد. |
ويذكر التاريخ أن بعض أصحاب البيوت رفضوا التنازل عن أملاكهم فأمر الخليفة أن تهدم وتقوم أثمانها ثم تودع في بيت المال لذمة أصحابها. |
- أول سقف للمسجد |
وفي عام 26هـ وكان المسجد قد شرع يزدحم بالمصلين أمر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بزيادة التوسعة فزيدت وأمر أن تظلل بعض جوانبه فسقفت وبذلك كان أول سقف للمسجد في الإسلام. |
وفي خلافة عبد الله بن الزبير ظهرت الحاجة لتوسعة جديدة فأمر بها وزاد في تظليل المسجد من جوانب أخرى. |
ويقدر أبو الوليد الأزرقي مؤرخ مكة أن سعة المسجد بعد توسعة ابن الزبير بـ 32400 ذراع مربع. |
- إدارة الصفوف حول الكعبة |
وعاد المسجد ليضيق بالمصلين في عهد بني أمية فرأى المسؤولون كعلاج مؤقت أن تدار الصفوف حول الكعبة وكانت الجماعة لا تصلي قبل ذلك إلاّ إلى جهة واحدة من الكعبة فأديرت الصفوف ولكن هذا لم يخفف من الزحام فرأوا أن لا بد من توسعة جديدة ورفعوا الأمر بذلك إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ولكن عبد الملك رأى في عام 75هـ أن يضيف إلى تظليل المسجد مساحات واسعة وأن يجدد بعض جداره ويزينها وأن يقيم جميع الأسقف قديمها وحديثها على سوارٍ من الرخام ضببت رؤوسها بصفائح الذهب. |
وكتب في عام 90هـ إلى الوليد بن عبد الملك بأن جانباً في المسجد بدأ يتطرق إليه بعض الخلل وفي عام 91هـ أمر بنقض أكثر جوانب المسجد وأن يعاد البناء بصورة أمتن وأن يسقف من جديد بخشب الساج على عقود جلب لها أساطين الرخام من صعيد مصر من بلدة تسمى ((أخميم)) وأزر المسجد بالفسيفساء. |
كل هذه الإصلاحات كانت في حدود التوسعة التي انتهى إليها المسجد في عهد ابن الزبير رضي الله عنه. |
- عمارة المسجد في العهد العباسي |
وما أن وافى عهد المنصور الخليفة العباسي حتى ظهرت حاجة المسجد إلى زيادة التوسعة لشدة ازدحامه بالمصلين فأمر الخليفة في عام 137هـ بهدم بعض الدور في الجهة الشمالية من المسجد والشمال الغربي فاتسع المسجد إلى نحو الضعف، كما زخرفه بالفسيفساء وزينه ببعض النقوش المذهبة وأناط المرمر بجدار حجر إسماعيل. |
وفي عهد الخليفة المهدي وكان قد حج في عام 160هـ فرأى المسجد ضاق بالمصلين رغم زيادة المنصور فأمر بزيادة التوسعة وأن تهدم البيوت القائمة بين المسجد والمسعى فتضاف أرضها إلى المسجد كما تضاف أرض المسعى إليه ثم تمهد الأرض التي تلي ذلك المسعى كما أمر بهدم البيوت في الجهة الغربية مما يلي باب العمرة وباب إبراهيم لتضاف أرضها إلى المسجد فنفذ القائمون بالعمل أمره حتى بات المسجد في السعة التي رآها. |
ولكنه لم يقنع فقد عاد للحج في عام 164 وصعد على جبل أبي قبيس لينظر ما انتهى إليه أمر المسجد فتراءى له أن الكعبة لم تتوسط المسجد. وأنها أصبحت أقرب إلى جهته الجنوبية منها إلى الشمال فألزم المهندسين أن يهدموا الدور الجنوبية ليضيفوا أرضها إلى المسجد لتتوسط الكعبة المسجد فلما استبعدوا ذلك لأن مجرى السيل في وادي إبراهيم سيحول دون ذلك لم يثنه ذلك عن عزمه وأبى إلاّ أن يحوّل مجرى السيل من مكانه مهما كلف الأمر فلم يسعهم إلاّ أن يمتثلوا. وبذلك اتسع المسجد إلى الحد الذي كنا نراه فيه توسعة آل سعود إذا استثنينا زيادة باب الزيادة وباب إبراهيم التي طرأت بعد عهد المهدي كما سنبينه. |
وزيدت مساحة الأروقة في المسجد في هذه التوسعة كما زيدت أعمدة الرخام وقامت عليها الأسقف من طبقتين بينهما فجوة قدرت بنحو ذراعين لتخفيف وطأة الحرارة على المصلين. |
وعقد السقف الأعلى بالدوم والجريد والذي يليه بخشب الساج المنقوش وضببت رؤوس الأعمدة بالذهب وحليت بعض الجدر بالفسيفساء والألوان البرّاقة. |
ولم تطرأ زيادة على المسجد بعد الخليفة المهدي إلاّ ما كان من دار الندوة فقد كان متصلاً بالمسجد من جهته الشمالية فلما تقادم عهده وانتابه الخراب رئي هدمه وإضافته إلى المسجد، فكان باب الزيادة في عهد الخليفة المعتضد العباسي سنة 281هـ. |
- عمارة المسجد في العهد العثماني |
ولما كان عهد السلطان سليم العثماني رفع إليه أن الرواق الشرقي من المسجد اختل سقفه ومال إلى الأمام ميلاً خطيراً فأصدر أمره بوجوب هدم جميع أروقة المسجد وما عليها من سقوف وأن تحل محلها قباب عالية متينة البناء وندب السلطان من يتولى أمر ذلك فبدأ العمل في عام 980 بهدم الضلع الشرقي من المسجد وكانوا يحافظون على أساطين الرخام التي كانت قد استعملت في عمارة الخليفة المهدي للإستفادة منها في العمل الجديد وعندما رئي أنها لا تكفي لدعم القباب بالشكل المطلوب استعانوا بأسطوانات صنعوا بعضها من الحجر الشميسي الذي اقتطعوه من جبال في الحديبية بجوار بئر شمس على أميال من مكة كما صنعوا البعض الآخر من الحجر الصوان الذي اقتطعوه من الجبل المعروف بجبل الكعبة في حارة الباب وسمي جبل الكعبة لأنهم استفادوا من حجارته أيضاً لدعم الكعبة في بعض العهود وقد ظهر لهم فيما بعد أن استعانتهم بالحجر الشميسي والحجر الصوان كانت دعامة لها قيمتها في إرساء القباب وتثبيتها بشكل قوي يصمد لتوالي حوادث الزمان. |
وانتقل العمل من ضلع في المسجد إلى ضلع آخر وآخر، وبينما العمل جار على حدته إذ وافتهم أخبار الآستانة بوفاة السلطان سليم وتولية ابنه السلطان مراد عرش الخلافة وتعميد المكلف بعمارة المسجد أن يواصل عمله لإتمام العمارة على الصورة التي اتفق عليها في عهد السلطان سليم فاستمر العمل على حاله إلى أن انتهى بنهاية عام 984 تقريباً وهي العمارة المشاهدة اليوم داخل المسجد الحرام ذات القباب. |
- التوسعة السعودية |
وقد طرأت بعدها العمارة الجديدة ذات الطابقين التي أمر بإنشائها الملك سعود وأتمها الملك فيصل دون أن تمس عمارة السلطان سليم لتبقى أثراً من شواهد التاريخ. |
وكانت هذه العمارة عمارة، آل سعود، ضرورة لا بد منها فإن المسجد الحرام الذي كان يضرب المثل باتساعه بين مساجد العالم الإسلامي أصبح لا يؤدي مهمته بالنسبة لتضاعف عدد الحجاج وتكاثرهم فقد أمنت السبل إليه بشكل منقطع النظير وتيسرت وسائل السفر إليه بحراً وبراً وجواً كما أن العالم الإسلامي أخذت أعداده تتزايد بصورة ملحوظة فترتب على هذا زيادة توافد حجاج بيت الله فبات المسجد الحرام لا يستوعب هذه الكثرة الكاثرة. |
ولقد حاولت الحكومة قبل فكرة التوسعة أن تستفيد من أجزاء المسجد المكشوفة فأقامت مظلات أتوماتيكية على جزء كبير منها تظلل تحتها ألوف الحجاج فرأت أنه لا بد من عمل حاسم يقضي على الزحام قضاءً تاماً. |
وشكلت اللجان لخدمة الموضوع واستعين بكبار المهندسين وصدرت الأوامر العليا بوجوب أن تكون التوسعة تضاهي مساحتها مساحة المسجد القديم وأن يرفع فوقها دور آخر له مثل هذه المساحة وأن تضاف المسعى إلى أعمال التوسعة لتدخل من الصفا إلى المروة في مساحة المسجد وكانت طوال سني حياتها خارج المسجد تحتضنها دكاكين الباعة من كل جانب وبهذا تكون الزيادة الجديدة بما يوازي ضعفي المسجد القديم. |
ولم تقتصر الأوامر على هذا بل لحقتها تأكيدات أخرى بضرورة عمل ميادين واسعة خارج المسجد من جهاته الأربع فكان لا بد من هدم ألوف البيوت ومثلها من الدكاكين حول المسجد ولا بد من تحويل بعض الشوارع عن مسارها إلى طرق أخرى لتأخذ التوسعة في المسجد مآخذها. |
اعتماداً على هذا تشكلت لجنة لتقييم البيوت والدكاكين بالأسعار التي تتفق وقيمة موقعها من المسجد الحرام. وقد جاء في الإحصاء الرسمي أن مجموع ما دفع ثمناً للمنازل والدكاكين بلغ نحو 240 مليون ريال ومجموع ما صرف على العمارة 80 مليوناً. |
ثم بدأ الهدم في ربيع الثاني من عام 1375هـ وامتد إلى أواخر شعبان من السنة نفسها حيث احتفل بوضع حجر الأساس ومن ثم بدأت مراحل البناء بصب قواعد الإسمنت التي أقيم عليها الجدار الخارجي الجديد. |
ومضى العمل في بناء الطابق الأرضي ضلعاً بعد آخر بما في ذلك أرض المسعى التي باتت متصلة بداخل المسجد ثم شرعوا في بناء الطابق الثاني أو بالأصح الثالث لأنهم هيأوا تحت الأرض بدروماً واسعاً اتخذوا فيه عشرات الغرف لخدم المسجد وسقاة زمزم. |
واتسع حجم العمل حتى أصبح يعمل فيه نحو ثلاثة آلاف عامل عدا المهندسين والمراقبين والكتبة والمشرفين. وما كادت العمارة تتم في بعض مراحلها حتى كان المختصون بتحلية المسجد قد بدأوا يكسون جداره من الداخل والخارج بالمرمر الناصع ويحلون سقوفه وعقوده بالحجر الصناعي اللامع مما زاد في روعة البناء وبهائه. |
وكانت مساحة المسجد القديم حوالي 30 ألف متر مسطح فأضافت التوسعة إليه 160 ألف متر مسطح وبذلك أصبح المسجد في عمومه يتسع لستمائة ألف من المصلين. |
- ملتقى العلماء وحلقات الدرس |
ويهمنا بعد هذا أو قبله على الأصح أن لا ننسى أن المسجد الحرام عاش حياته مجمعاً علمياً واسع النطاق.. كان مفتاحه الرائد الأول عبد الله بن العباس، بحلقته العلمية الواسعة التي كان يضرب إليها بآباط الإبل إلى جانبه حلقات وحلقات لكبار الصحابة وأفذاذ التابعين. |
وكان بعض كبار الصحابة ربما عادوا من الغزوات ليستجمُّوا من القتال في سبيل الله.. ربما عادوا إلى المدينة أو مكة فإذا هم يملأون الحرمين بمعارفهم ويتحلق حولهم آلاف الطلاب ينهلون من ينابيعهم الغزيرة. |
وكان الحج يجمع المئات منهم في أركان المسجد الحرام يجلسون للفتاوى وتدريس العلوم وكذلك فعل التابعيون من كبار الفقهاء وأصحاب الحديث ورجال التفسير حتى ذكر أن المسجد الحرام كان يغص في عهد الأمويين والعباسيين من بعدهم، بحلقات العلم هذا يفسر القرآن وذلك يروي الحديث متصلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يفصّل مسائل الفقه وعلى غير بعيد منه إمام في العربية والشعر يتلو الشواهد ليثبت الحرف الأصيل والكلمة الفصيحة مستنداً إلى آية من كتاب الله أو رواية عن رسول الله أو منقول عن عربي أصيل. |
كان المار بالمسجد لا يترك حلقة حتى تطالعه حلقات يأخذ بعضها بأذيال بعض في سلسلة إذا عرفت أولها لا تكاد تعرف نهايتها. |
وكان خلفاء الإسلام في دمشق وبغداد يبرون علماء الحرمين ويجودون عليهم بالعطايا في سخاء تشجيعاً لهم لقاء ما يبذلون، حتى خلفاء المماليك الأتراك ومماليك الشراكسة كانوا حريصين على تشجيع علماء المسجد الحرام وتنشيطهم وبذلك كان المسجد لا ينفك آناء الليل وأطراف النهار يموج بالعلماء والمتعلمين وكان كثير من علماء الآفاق يفرون من آفاقهم اتقاء الفتن التي كانت تستعر في بلادهم فلا يجدون ملجأ آمناً لهم من بيت الله الحرام يستوطنونه ويبثون فيه علومهم ومعارفهم. |
- المدارس الملحقة بالمسجد |
ولقد بلغ من حرص بعض مماليك الأتراك والشراكسة أن أنشأوا مدارس خاصة ملحقة بالمسجد الحرام ومنهم من جعل لكل مذهب من المذاهب الأربعة مدرسة لها أساتذتها ولها طلابها وأفردوا لكل مدرسة مساكن يأوي إليها الطلاب وفرضوا لكل طالب مرتباً يكفي عيشه ونفقته عدا المرتبات التي كان يتقاضاها أساتذة المدارس والمشرفون والبوابون والخدم فكان المسجد في بكور الأيام وأضاحيها وأصائلها يضيق بالعلماء والمتعلمين حتى إذا عتم الليل كان المسجد لا يخلو من الدارسين والمراجعين على ضوء الشمع أو فتيل الزيت وربما اجتمعت الجماعة لنقاش باب في الفقه أو بحث في اللغة أو رواية في حديث وليس لهم إلاّ شمعة واحدة تتزاحم مناكبهم حولها. |
ولم يدخر العثمانيون وسعهم في الأخذ بيد المسجد من علماء وطلبة ففرضت المرتبات وبنيت المدارس والملاجئ ملحقة بأركان المسجد فظل المستفيدون طوال العهد العثماني الأول يتزاحمون بحلقاتهم في سائر أروقة المسجد وردهاته وزواياه حتى خلف من بعدهم خلف نسوا الله فأنساهم مجد الإسلام والعروبة وزين لهم تتريك العرب فتضاءلت جهود العلماء وفتر نشاط الطلبة وكاد المسجد الحرام أن يفقد ميزته العلمية إلاّ من حلقات لا تذكر باتت تتقاسم بعض أطراف المسجد في ضآلة تبعث على الأسى. |
إلاّ أن آمالنا الجديدة بدأت تتبلور بعد أن تكشفت الغيوم وسطعت الشمس بنورها وبدأت الجهود الجديدة تعمل في جد لاستئناف المسيرة بين أروقة الحرمين الشريفين وأخذ البذل والتشجيع يعمل لاستعادة المجد القديم لا في المسجد الحرام وحده. ولا في الحرمين الشريفين فحسب بل في بيوت تحفيظ القرآن ومعاهد الحديث والسنة ومدارس المعارف العامة وجامعة العلوم بشتى فنونها. |
مصادر البحث |
البداية والنهاية للحافظ بن كثير |
أخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي |
الجامع اللطيف للقاضي ابن ظهيرة القرشي |
منائح الكرم للسنجاري |
توسعة المسجدين لوزارة الإعلام |
تاريخ مكة لصاحب البحث |
|