شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شاهدت اليهود على كثب مني
هل آن الأوان لنملي عليهم بقوة سواعدنا معاني ما يقرون؟
ومضينا لنشاهد لوناً عجيباً من مآسي الحياة.
لقد قرأت كثيراً عن مآسي التاريخ، وربما تيسر لك أن تطلع أنت على أكثر مما اطلعت، ومع هذا فإني أستطيع أن أؤكد أنني وإياك لا نكاد نجد ما يشبه لون مأساة (بوابة مندلبوم) أو بمثل غرابتها المبكية إلاّ في الشاذ النادر.
إنها ليست بوابة بالمعنى المتعارف.. إنها قطعة من جدار لا يزيد ارتفاعها عن أربعة أمتار أقيمت لتفصل شارعاً في قلب القدس فتحجز العرب في جزء منه وتعطي بقيته الباقية منحة لليهود وإرضاء للعيون الزرق!!
إنها قطعة من جدار تقطع عرض الشارع من أحد الرصيفين ثم تنتهي قبل الرصيف المقابل بعده أمتار كافية لمرور السيارات من القطاع المحتل إلى داخل القدس حيث يعيش أحرار العرب.
وأنكى ما في هذه المأساة أن تفرض الهدنة على أباة الضيم من أصحاب البلاد أن ينصّبوا أنفسهم حراساً على هذا الفاصل الذي يسمونه (بوابة مندلبوم) فلا يبيحون لمثلي ومثلك أن يتخطاه إلى امتداد الشارع الذي كان يملكه العرب.
وحتى عندما أذن لي كصحفي لم أستطع أن أمضي بعد الفاصل إلى أكثر من عشر خطوات، ولكن ذلك كان كافياً مع كل أسف لأن أشرف على امتداد الشارع وكثير من الأزقة المتفرعة عنه وأشاهد اليهود المحتلين على كثب مني يمضون في أعمالهم مطمئنين في ظل قانون الهدنة الغاشم.
وشهدت حراس اليهود يحتلون النوافذ في أقرب البيوت إلى (بوابة مندلبوم) ويحتمون فيها وراء أكياس الرمل وقد شهروا السلاح -أول ما رأونا- وصوبوا بنادقهم متحفزين للعمل لأول خطوة يساورنا فيها الرأي بأن نتخطى ما أذن لنا.
ومضى صاحبي يشير لي دون أن يحرك يده: "هذه بيوت لا يجد أصحابها الذين أجلوا عنها سقفاً يستظلون به.. وتلك مزارع أمسى اليهود يأكلون ثمارها وبات ملاّكها يتحسرون على النظر إليها ولو خلسة".
وقلت: وماذا عن اليوم الذي أباحته الهدنة ليتزاور فيها سكان القطاعين. قال: إنه يوم في كل عام يباح فيه للمسيحيين من العرب في قطاع اليهود أن يتصلوا ببوابة مندلبوم لينتظروا إخوانهم من قطاع العرب، فيجتمع الأقارب من القطاعين ساعات محدودة ثم يعلن رجال الهدنة نذيرهم فيفترق كل إلى قطاعه عائداً من حيث أتى.. وهي ميزة يتمتع بها العرب المسيحيون وحدهم، أمّا المسلمون فلا يملكون هذا الحق.
وزفر صاحبي زفرة حسبت فؤاده انخلع لها، ثم مضى يعود بي إلى السيارة وهو يهيب بي: "لا تفوِّت على نفسك رؤية القافلة اليهودية إنها ستجتاز شوارعنا بعد عشر دقائق في سياراتها المصفحة لتحمل التموين إلى الجامعة العبرية الباقية في إحدى قرانا".
قافلة يهودية تجتاز شوارع العرب.
جامعة عبرية باقية في بعض قرى العرب.
إنها ألغاز في حاجة إلى مَن يعلن عنها في ركن (شختك بختك) فربما وجد غيري من أصحاب الذكاء مَن يستطيع أن يظفر بجوائزها.
ولكن صاحبي لا يطمح لجائزة ولا يطمع في أن يثبت لك أنه أحد الممتازين بالذكاء لأن الأمر في نظره لا يزيد عن قصة بات الغرض مكشوفاً فيها.
وتتلخص القصة في أن البواسل من رجال القدس عندما أجلوا اليهود قبل الهدنة عن قرية عربية في ضواحي القدس ترك اليهود خلفهم في القرية جامعتهم (الجامعة العبرية) كما تركوا بجانب ذلك مستشفى لهم.
فهل يبيح رجال الهدنة للعرب أن يربحوا ما كسبوا في قراهم.
أبداً.. لأن في هذا إجحافاً باليهود!!
والإجحاف باليهود لا يرضي رجال الهدنة.. إنهم يهود مدللون وليسوا عرباً.
لتفرض إذن اتفاقية الهدنة في مادتها الثامنة أن (تظل جامعة اليهود تؤدي أعمالها وسط المنطقة العربية ويظل المستشفى إلى جانب الجامعة يؤدي مهمته للجامعة، وليس لدى رجال الهدنة من مانع أن يبيحوا لليهود بقاء حراس من جيشهم في قرية عربية باسم حراسة المستشفى والجامعة، وأن ينظم اليهود لأنفسهم قافلة نصف شهرية تحمل الميرة من القطاع اليهودي في القدس إلى قرية عربية ليمونوا جامعتهم فيها ومستشفاهم وحراسهم بين الجامعة والمستشفى).
إنه فرض لا حيف فيه في منطق رجال العدل!! من جهابذة القرن العشرين!! ولكن الحيف كل الحيف أن يسمحوا للعرب بمثل هذا الحق في مثل هذا المنوال.
إن للعرب ما يقابل هذا، بل وأقرب من هذا لأن لهم كلية تقع فوق جبل المكبر بالقرب من مقر هيئة الأمم المتحدة.. وجبل المكبر أصبح بنص هذه الاتفاقية -اتفاقية الهدنة- منطقة دولية مجردة من السلاح، فهل تبيح الهدنة للعرب أن يواصلوا دراستهم في الكلية على غرار ما أباحت لليهود؟
أبداً إنه حيف.. فالعرب ليسوا يهوداً.. والعرب سكان أصليون وليسوا بغاة غاصبين فهل فهمت؟
إذا كنت محدود الذكاء مثلي فما عليك إلاّ أن تستفتي نظم العدل كما يفهمها رجال المنطق!! من جهابذة القرن العشرين.
وأقول لصاحبي: ولكن مشكلة الكلية العربية أيسر خطباً من مشكلة جامعة اليهود؛ لأن الأولى تقع في منطقة محايدة لا أثر فيها للخطر، بينما تقع الثانية في قلب قرية عربية حيث ينتظر الاستفزاز ولا يستبعد الخطر، فيزفرها صاحبي آهة طويلة وهو يصيح بي: "إنه منطق العدل في القرن العشرين لا تفحم حجته إلاّ لغة الرصاص وهدير المدفع.. أعطونا الرصاص والمدفع.. أنظرونا لنريك كيف يفهمون البنود ويفسرون المواد والعهود".
وبدت طلائع القافلة تتخطى (بوابة مندلبوم) وتتهادى في صف طويل بين العرب في شوارع آخذة طريقها في قلب المدينة إلى الضاحية التي تتصل بجامعة اليهود ومستشفاها ووقف حراس فلسطين العربية يفسحون أمامها الطريق ويمنعونها أن يدنو منها أي مواطن عربي.
إنها سلسلة سيارات مصفحة احتشد بعضها بأصناف التموين وامتلأت أخرى بالجند المدجج بالسلاح، وقد أقفل على من فيها إلاّ ثقوب صغيرة ترسم الطريق أمام سواقيها.
وهكذا تمشي قوى عدوك المسلّحة فترود أرضك وتدوس حماك في ظل الاتفاقيات والبنود فهل آن الأوان لنفرض أنفسنا على ما يتعاقدون.. ونملي عليهم بقوة سواعدنا معاني ما يفسرون؟
الهدنة جعلت الأب وبعض الأولاد في جانب العرب والبقية في جانب اليهود.
لعلّك تتهمني بالخيال وأنا أصف لك مثل هذه المشاهد الدامية التي لا يكاد يصدقها عاقل قبل أن يزور فلسطين ويصافح مشاهدها الغريبة.
سوف لا ألومك فقد اتهمت نفسي قبلك.. كنت أمشي بين هذه المشاهد وأنا لا أصدق أن رجلي هي التي تحملني إليها.. كنت أسائل نفسي أيقظان أنا أتمتع بكامل وعيي أم نائم أغذ في أحلام مهزوزة لا تنتظم لواقع؟
هذا حي الثوري. وهم ينسبونه إلى سفيان الثوري أحد جهابذة الإسلام المعروفين.. إن زكريا يقودني فيه من مرتفع إلى أعلى، ويقسم عليَّ إلاّ أن أجاريه كشاب لأبلغ نهاية مرتفعاته وهي لا تقل صعوبة عن مرتفعات جبل "قعيقعان" في مكة.
هذه دور عربية تنتهي بنهاية الزقاق الصاعد في مخارف الجبل يجب أن تقف عند هذا الحد فقد منح خط الهدنة الدولي ظهور هذه الدور وما يلاصقها من مساكن لعصابة المعتدين فلا يجوز أن تخطو نحوها خطوة.
أترى سطوح الدور على مدى نظرك.. إنها تتصل مباشرة بسطوح الدور التي سلِّمت للعصابة وسلِّم معها سكانها ليعيشوا تحت نير اليهود ولا يفصل بين الفريقين بين الحدود والحدود إلاّ طنف من جدار أو إفريز من (بلكون).
إنهم ليسوا جيراناً فقط بل جلّهم أصهار وأقارب، وأن من الدور ما استطاعت خرائط الهدنة أن تفصلها قسمين ليصبح الأب وبعض أولاده في مملكة العرب، وتمسي الزوجة مع بقية الأولاد في ما احتل اليهود.
لا نستغرب هذا فنظائره لا تقل غرابة.
إن بيت صفافة قرية عربية سكانها مسلمون، شطرتها اتفاقية الهدنة إلى شطرين.. كنا نمشي في شارع القرية الرئيسي ونحن نضع أيدينا على الأسلاك الشائكة التي تشطر الشارع.. كنا نمشي في الشارع يقودنا العمدة وبعض كبار القرية وعلى شمالنا من ربع متر منا كان يمشي رجال آخرون ينطق الأسى على جباههم.. إنهم رجال من القرية واتاهم سوء الحظ فباتوا من نصيب الأرض المحتلة، وبات الفاصل الدولي من السلك يفصل بينهم وبين أقاربهم في الجزء الآخر من الشارع نفسه الذي نمشي فيه.
وحسبتني أستطيع أن أبادرهم التحية أو السلام، ولكن رجال القرية كانوا أدق ذكاء مني فقد أعلنوني قبل أن نقابلهم بخطوات أنه لا يجوز في نظر الحراس أن نحييهم أو نسلم عليهم إلاّ إذا أردنا أن نسيء إليهم ونصمهم بما يسوقهم إلى مواقف الاتهام الظالم.
وأشار زكريا إلى رفيق لنا كان يمشي خلفنا فقال: إنه أخ للكهل الذي أطلت النظر إليه خلف السلك، ومع هذا فهو يكتفي بأن يملأ عينه من مشاهدة أخيه عابراً ولا يجرؤ على الإيماءة أو الإشارة خوفاً عليه أن يسوقوه متهماً بالخيانة!! ويذيقوه من نكال عذابهم، وأشار إلى مسجد القرية الوحيد وهو على بُعد أمتار منا فقال: إنه أصبح من نصيب منطقة اليهود فحرم العرب من الصلاة فيه.
أيكفي هذا لتسح عينك دمعاً أم تراك في حاجة إلى أغرب منه وأنكى؟
إنها قرية برطعة من منطقة نابلس في اللواء الشمالي.. عدا عليها خط الهدنة في اتفاقية رودس المشؤومة فقطع أوصالها.
بات المسجد في المنطقة العربية، أمّا عين الماء الذي ترتوي منه القرية وأمّا المدرسة التي يتعلم الأطفال فيها فقد ألحقتا بالمنطقة المخصوبة.
وأرادت الاتفاقية أن تتلطف مع السكان فأباحت للجزء العربي أن يصلي في المسجد المحتل في نظام مقدر، وأباحت للجزء العربي كذلك أن يسقي ماءه من العين المحتلة في أوقات معينة وترتيب خاص، كما أباحت لأطفاله أن يغشوا المدرسة وينتظموا في صفوفها فهم اليوم يدرسون فيها على المنهج اليهودي.
وقد تحريت عن عمدة القرية (المختار) فعلمت أنه معتمد من قبل الحكومة العربية والغاصبين في آن واحد، وأنه يحمل مع كل أسف هويتين.
أيكفي هذا؟ أم أتلو عليك من نبأ قرية بتير ما يثير أساك؟
إنها قرية تقع على خط الهدنة جنوب القدس.. وقد شاء لها سوء الطالع أن تنام في طريق الخط الحديدي الذي يصل يافا بالقدس المحتلة، رغم أنها داخلة بحكم اتفاقية الهدنة في مناطق العرب فماذا تظنهم فاعلين، وأي الحلول تتفق في رأيك مع منطقهم العدل؟
إنك لا تشك في أن هذا الخط الحديدي لو كان عربياً، ولو كان يصل بين مدينتين عربيتين لقالت الهدنة قولتها بإلغائه تحاشياً من المشاكل وبعداً عن الارتباك.
ولكن.. أقول: ولكن وأرجو ألاّ تأسى كثيراً وأنا أقول: ولكن هذا الخط كان يهودياً فما يمنعهم أن يسيروه؟
أتخشى أن تدوس دواليبه كرامة العرب، وأن تدق عجلاته الثقيلة على موطن الإحساس من قلوبهم.
إنها معانٍ شعرية لا قيمة لها في نظر حكام الهدنة ما دام هدير المدافع لا يؤيد العرب، وأزيز الطائرات النفاثة لا يملي حجتهم.
لقد رأيت القطار يطوي قضبانه بين مزارع العرب، ورأيت أحد المزارعين وقد وقف يحمل رفشه وهو ينتظر مرور القطار على حافة مزرعته فتمنيت لو مادت الأرض بالقرية ومزارعها قبل أن يظفر القطار اليهودي بطريقه فيها.
وابتدرني زكريا في حماس يتوقد لظاه: أتدري؟ إنه في سبيل مصلحة اليهود.. ومن أجل هذا القطار المدلل فقد أصحاب القرية ثلث مساكنهم الواقعة على جوانب الخط.. إنها مدرسة عربية رضيت الهدنة أن تبقيها لتعليم أطفال القرية بشرط أن يغادرها الأطفال عند نهاية الدراسة اليومية إلى مداخل القرية، ولا يتلكأ أحد بجوارها حرصاً على أمن اليهود.
وبعد أن قبل العرب هذه المنحة حاولوا أن يرفعوا على بابها لوحة تمثل اسمها فأبى رجال الهدنة لأن منطقتها دخلت في ما أهدي لليهود!!
قلت: وما شأن المزارعين حول شريط سكة الحديد؟ قال: شأن المتقاضين في عهد (قراقوش) المرحوم، فقد أبيح لهم أن يزرعوا أراضيهم فتجد العرب اليوم يتخطون المنطقة العربية إلى الشطر الخاص بمنطقة اليهود فيزرعون أراضيهم ويجمعون حاصلاتهم تحت حراسة اليهود، ولا يتعرضون في طريقهم لسكة الحديد لأن اتفاقية رودس حكمت بذلك.
قلت: وهل بنى اليهود سكة الحديد؟ فقال: بناها الإنكليز أعمامهم ثم أهدوها لليهود عند انسحابهم.
لا يجدون ما يقيم أودهم إلاّ لقيمات تتصدق بها وكالة الغوث
أتراني أسهبت طويلاً في حديثي عن فلسطين وما نالها من حيف الغاصبين، وأخذت لها من حيز المجلة أكثر ممّا ينبغي كتابته عن رحلة عامة أم تراني قصّرت فاقتضيت ما كان يجب أن تتسع له المجلدات من قصص بلدنا المنكوب؟
لا أستطيع أن أجزم بشيء في هذا أو ذاك، ولكني أستطيع أن أقول إن فلسطين المسكينة شبعت من تنميق الكتّاب، وتنضيد الشعراء، وبراعة الخطباء، وبلاغة المحامين، وباتت في أشد الحاجة إلى غير هذا اللون من المدد.
إن مئات الألوف من أرباب الثروات ورجال الأملاك فيها وأصحاب المزارع والمصانع باتوا مجردين من كل ما يملكون مشردين في كل صقع لا يجدون ما يؤويهم إلاّ سقائف لا تمنع الشمس، ولا تقي من البرد ولا يجدون ما يقيم أودهم إلاّ لقيمات تتصدق بها عليهم وكالة الغوث في صور يندى لها الجبين ويتفطر من مآسيها الفؤاد.
وهي اليوم بعد أن قاست من شظف العيش ما لا يقوى عليه جلد أصبحت معرضة لأهول ما تتعرض له أمة منكوبة.
كان صاحبي يحدثني وهو يشير إلى العيادة الطبية التي أقاموها في مخيمات اللاجئين في العروب، وتركوا ألوف المرضى يتجمهرون حولها في صور تنطق بآلامهم فقال: "إن هذا المستشفى تبشيري اسمه مستشفى البركة.. إنه يقدم خدماته للمرضى من اللاجئين، ويبث تعاليمه فيهم فيفرض عليهم الصلاة في كنيسة المستشفى!!".
"أتسمعني جيداً؟!".
"إنه يفرض عليهم الصلاة في كنيسة المستشفى.. ويعلمهم العبادة حسب الطقوس النصرانية".
لقد أنشأ هذا المستشفى مبشر إنكليزي قضى 15 سنة في السودان يعمل للتبشير.. وتنفق عليه اليوم جمعيات خيرية.
أتدري؟
"إنها جمعيات مسيحية تنتشر فروعها في أمريكا وبريطانيا".
أيكفيك هذا؟.
إن كان لا يكفيك فاعلم -أفادك الله- أن وكالة الغوث للأمم المتحدة تساعد هذا التبشير وتعين عليه فتتبرع بتموين المستشفى مجاناً.
ألا ترى أن في هذا الخطر المحدق ما يكفي للقضاء على عقائد إخوان لنا نعتز بإسلامهم، وأن في ما يقاسون من أنواع الحرمان والجوع والأمراض ما يعرضهم للإبادة والانقراض. أم ترى أن أقلامنا وما تدبجه من فصيح القول، وقصائدنا وما تنطق به من متين الشعر، ومنصاتنا وما تضج به من بليغ الكلام كافية لرد العاديات والصمود أمام المغيرات؟
طيب اللَّه ثراك يا أبا تمّام، فقد كنت أصدق من يعبر عن أحوالنا اليوم وأنت تقول:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حدّه الحد بين الجد واللعب
بدرت بوادر هذا الجبل
قدمني الصديق الأستاذ محمد العلاقي وكيل القنصل في القدس إلى أحد أصدقائه من كبار الموظفين في حكومة الأردن باسم شيخ الصحافة في إحدى جلساتنا في حديقة القنصلية.
وقدمني هذا الكبير إلى زميل له في جلسة أخرى باسم عميد الصحافة فعرفت لوناً من أساليب التحريف التي تغشى حياتنا.
وانتقلت الكلمة بقدرة قادر إلى إدارة كبيرة في القدس فلم أكن فيها شيخاً ولا عميداً بل نقيباً.
وجاء أحدهم يسألني عن الطريقة التي يتم بها انتخاب نقيب الصحافة في بلادنا فقلت ألا تسمح فتصحح الفكرة قبل أن نبحث تفاصيلها.
- قال: وما تعني؟
- قلت أعني أن هذا الماثل أمامك ليس نقيباً للصحافة حتى تسأله كيف تم انتخابه.. ثم هو قبل هذا وبعده إن شئت ليس عميداً.. لا.. ولا شيخاً إلاّ إذا أردت أن تسمّيني إكراماً لسني شيخاً أو كهلاً من كهول الصحافة أو شيوخها لا شيخها بالمعنى المتعارف.
إن الصحافة في بلادنا تنتظم شيوخاً تقدمت سنهم عني، وربما كان لبعضهم على شخصي فضل الأستاذ على المتعلم، كما تنتظم أكفاء ربما خالجني أن أحسد براعتهم لو جاز الحسد، فإذا ظل كل هؤلاء أحياء يرزقون فلا أمل لي في نقابة الصحافة ولا مشيختها.
فانفرط الرجل ضاحكاً ملء بطنه الكبير ثم قال: وإذا عشت لتنفرد بالكفاءة بعدهم فهل تتمنى النقابة أو المشيخة عند ذلك؟
قلت: إنني سأكون يومها في سن التخريف والهذر، ثم لا آمن أن يحل محلهم جيل لا يعجبه ما نكتب اليوم وقد بدرت بوادر هذا الجيل قوية زاحفة بأسرع ما يكون الزحف.
ومضت أيام تلقيت بعدها دعوة لحضور حفل الاستقبال بمناسبة زيارة جلالة الملك حسين للقدس، فلقيت صاحبي في إحدى صالات الاستقبال فما ملك مذ رآني أن غلبه الضحك ثم استدار حتى شد على يدي يصافحني وهو يقول: مرحباً بصغير الصحافة!! وسمعته شلة من كبار الحضور فاستغربوا ما يقول! فقص عليهم حديثي عن مشيخة الصحافة في بلادي فانكفأوا يضحكون في إغراق طويل لم يقطعه إلاّ هتاف الجماهير يعلن وصول الملك.
كانت الصالة في فندق (الأمباسادور) وقد غصت بأعيان الفلسطينيين يتقدمهم المفتي وكبار العلماء، وكانت سائر الغرف في الجناح تزدحم بعدد كبير من المستقبلين والمسلِّمين، وكانت أصوات الجماهير تشق الفضاء هاتفة بحياة الملك.
ودخل الملك الصالة في بذلة عسكرية من الخاكي، وقد شمّر عن ساعديه ومشى في خفة شباب العشرين حتى انتهى إلى الصدر حيث بدأ الناس يتواردون لمصافحته.
وساقتني الصدف خلال الزحام إلى زاوية لا تبعد إلاّ نحو مترين عن مجلس جلالة الملك فصافحتني من ملامحه وحركاته صورة كاملة ينطق فيها العزم، وتمنيت أن يحالفه وإخوانه ملوك العرب ورؤساءهم توفيق يساعدهم على انتزاع حقوق العرب بقوة سواعدهم لا استعطاء من مجالس الأمم أو هيئاتها ومندوبيها أو أصحاب القوانين الشوهاء والحكم الأخرق في مجامعها.
وتقدم إلى منصة الخطابة سماحة المفتي، ثم عقبه عدة خطباء في كلمات كانت جميعها تدور حول حقوقهم المغتصبة على خطوات منهم.. كانوا يشيرون إلى المناطق المحتلة وهي على مرمى البصر من نوافذ الصالة في فندق (الأمباسادور)، ويطالبون في حماس مشتعل أن يقودهم إلى خوض المعركة ليستردوا بقوة سواعدهم ما اقتطعته بنود الهدنة عدواناً وظلماً.
وانتهى الحفل بانتهاء الخطباء فتقدم جلالته إلى الشرفة الواسعة المطلة على جماهير الشعب وكانت هتافاتهم تدوي مطالبة باستئناف القتال ومبادرة الزحف لاسترجاع ما فقدوا، فطيّبهم جلالته بكلمة ارتجلها وكان ممّا ذكره فيها أن الأعمال مرهونة بأوقاتها، وأنه لا يزال عند مبدئه صامداً حتى يعود الحق إلى نصابه.
وأعجبني في القدس أسلوبهم في نصب أقواس النصر، فقد كانت الأقواس رغم قلة تكاليفها شيئاً طريفاً معبراً.. كانوا ينصبون الأقواس في هياكل خشبية عارية لا تزيد في بساطتها عن ساريتين بينهما عارضة.. وكان النجار لا ينتهي من تثبيت ما نصب حتى يكون مختار المحلة أو شيخها قد أطلق الصبيان إلى مناطق الشجر من نواحي القدس ليأتوه بأغصان من فروعها حسبما اتفق، فكنت ترى زرافات الصبية يملأون الأزقة والشوارع يسحبون وراءهم الأغصان حتى إذا انتهوا إلى مكان القوس، شرع الكبار يجللونه بالفروع ويشذبون زوائدها حتى يستوي القوس في شكله الأخير جذاباً تتفتح النفس على اخضراره اليانع ولمعته المخضلة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :931  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 92 من 92

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج