الحج في الجاهلية وصَدر الإسلام |
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في وسط جاهل، فلم يكن عليه أن يقاوم ما عبدوا من أوثان أو نسكوا من منسك ضال فقط، بل كان عليه أن يصمد لهذه القيم الأخلاقية، وأن يقضي عليها، ويبني على أنقاضها قيماً جديدة تسود المجتمع في مكة وتعلمه إنكار السبيل الضال الذي ألفه. |
كانت لهم تقاليد نادرة المثال في غرابتها، وكانت مع هذا تحتل مكانتها من التقديس والرعاية والحرمة بالرغم من شوائب الاضطراب التي كانت تشوب قواعدها. |
ولسنا في حاجة إلى التدليل على هذا بما يطول سرده من الأمثلة فحسبنا منها مثلاً واحد له علاقته بهذا الشهر الذي نجلّه بين الشهور ونحترم مواقيته بما لا يدع مجالاً للتلاعب والهزء. |
لقد كانوا يجلّونه بما لا يقل عن إجلالنا، ولكنهم لا يرون مانعاً من التلاعب في مواقيته إذا تعارضت هذه المواقيت مع مصالحهم، أو حالت دون بعض أهدافهم في الحياة. |
كانوا يؤجلون موعده في بعض السنوات إلى شهر المحرم، لأن بعض مصالحهم اقتضت تأجيله أو يقدمونه في شهر القعدة ليستفيدوا من تقديمه، وربما دارت مواعيده على مدار السنة فحجوا مرة في شعبان، وأخرى في رمضان وغيرها في غير ذلك! |
كان أمرهم في توقيت الحج وتعيين موعده فوضى، ومن الغريب أنها كانت فوضى من لون مضحك. فقد كانوا يتفقون على قواعد الفوضى ويعلنون نتائجها بين قبائل العرب لتمسي مرعية الجانب محترمة. |
كانوا يستبيحون هذه الفوضى لأنهم كانوا يحترمون شهر المحرم، فيحرمون فيه الغزو والقتال، فإذا أبت ظروفهم أن تؤجل القتال أسقطوا المحرم من حسابهم وأطلقوا عليه اسم صفر، ومضوا إلى نهاية عامهم يسمون الشهور بغير أسمائها حتّى إذا انتهوا من ذلك العام بعد أحد عشر شهراً صادفهم الحج في شهر القعدة، فأدّوا نسكهم فيه وكأنهم لم يتكلفوا شيئاً!! |
إنه نسيء الشهور الذي حرّمه الإسلام، وذكر القرآن الكريم أنه زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلون ما حرم الله. |
وقد قِيل إن أول مَن ابتدع إنساء الشهور في العرب مالك بن كنانة المضري المعروف وقد ظل ذلك متداولاً بين البيوت الكبيرة في القبائل يتولاه مسؤول خاص ليعلنه بين العرب كلّما قضت الحاجة ودعت الأمور وكان آخر مَن نسأ منهم أبو ثمامة جنادة بن عوف قبل أن يلغى النسيء في العام التاسع الهجري. |
كان المسؤول عن النسيء يقوم بفناء الكعبة إذا أفاض الناس من مناسكهم فيقول أيُّها الناس قد أنسأت العام فيأتمرون بما يقول، ويطرحون المحرم من حساب العام الجديد، ويطلقون عليه شهر صفر ليحلّوا فيه ما بيّتوا من غزو. أمّا إذا انتفى الداعي ولم يخرجهم باعث خاص تركوا شهر المحرم على حاله ولم يطرحوه من أشهر عامهم. |
ولما أهلَّت السنة التاسعة وقع الحج في ذي الحجة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر لإمارة المسلمين فيه، ثم ألحقه علي بن أبي طالب منتدباً من النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ المسلمين سورة التوبة التي نزل الوحي بها على إثر فصلهم من المدينة وبها أبطل النسيء وأعلنوا إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ * إِنَّمَا النَّسِئُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ (التوبة: 36-37). |
وفي سورة التوبة ألاَّ يحج بعد عامهم هذا مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأن لا عهد لمشرك ولا ذمة إلاّ أحداً كان له عند رسول الله عهد فعهده إلى مدته. |
وفيها أن الله أمر بجهاد المشرك ممّن نقض العهد من أهل العهد الخاص ومن كان لا عهد له فأجله أربعة أشهر يرجع فيها كل قوم إلى مأمنهم ثم لا عهد لمشرك بعدها. |
وفي سورة التوبة إقرار عام لأمور شتى كانت متروكة لانتظار التحديد وفيها تفنيد واسع هيأ المسلمين يومها لقيم حديثة ومعايير لا تمت بصلة إلى القيم والمعايير التي كانت تسود العرب في جاهليتهم، وتوجه أفكارهم إلى ما كانت توجههم إليه من سبل ضالة. |
وأهلَّت السنة العاشرة، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم عزمه على الحج ليكون إمامهم فيما جد من نسك، وما طرأ من تنظيم في أعمال الحج، فابتدر الناس من كل فج ليسترشدوا بأعماله، فمضى صلى الله عليه وسلم أمامهم في موكبه العظيم إلى مواقف الحج في سائر مشاعره مبيناً لهم أعمال النسك على وجهها الصحيح. |
وفي موقفه صلى الله عليه وسلم من بطن عرنة خطب الناس على راحلته خطبته العظيمة الشهيرة بخطبة الوداع وفيها قرر قواعد الإسلام، وهدم مسائل الشرك، ووضع أمور الجاهلية تحت قدميه، وأبطل الربا، وحرّم الحرمات من الذمام والأموال والأعراض، وفصَّل كثيراً من شؤون الإسلام، ووصّى أمته بالاعتصام بكتابهم فقال: وقد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً. |
|