محمد سعيد عبد المقصود خوجه.. كما عرفته
(1)
!! |
بقلم: حسين عاتق الغريبي
|
تحتفي جامعة (أم القرى) مساء الأحد القادم 9/4/1427هـ بعلم من أبناء مكة المكرمة الذين تركوا بعد رحيلهم أثراً لا يمحى في ذاكرة التاريخ وسيكون حفل التكريم مناسبة طيبة لإحياء ذكرى الأديب السعودي الراحل الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجه -رحمه الله- الذي تربطني به علاقة (فكرية) تأسست منذ اطلاعي على سيرته، وتتبع آثاره. |
وللحق.. لم يكن أديبنا الراحل مجهولاً بين تلك النخبة (الممتازة) التي عاصرت مرحلة تأسيس المملكة العربية السعودية، وعاضدت مسيرتها الخيرة على يد المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله-.. فقد كان من (الأعلام) المثبتة تاريخياً -أشاد بمكانته الرفيعة كل من عرفه.. ولد عام 1324هـ بمكة المكرمة وتوفي ودفن بالطائف عام 1360هـ، ولست بحاجة إلى استدعاء شهادات معاصريه لتنطق بما تعرف عنه من صفات نبيلة تمثل روح المواطنة الحقة والفعاليات الإنسانية المتجهة نحو أهداف خيرة تنشد الخير والصلاح للبلاد والعباد. |
ولعلّ أبلغ تصوير لتلك الشخصية الوطنية المميزة ما ذكره أستاذنا الأديب عبد الله عريف -رحمه الله- وهو يرثي الفقيد الراحل إذ قال عنه: |
(كان يرحمه الله -حياة في الحياة وكان نسيج وحده في الشباب- وكان أمة وحده في البلاد. |
كالبدر من حيث التفت رأيته |
يهدي إلى عينيك نوراً ثاقباً |
|
وكانت حياته مليئة بالمشاريع حفيلة بالأعمال لا أعرف -ولا يعرف الناس معي- مشروعاً قام في هذه البلاد، لم يكن محمد سعيد -رحمه الله- عضواً عاملاً فيه. فهو في الحق كان عصب المشاريع التي قامت في هذه البلاد وبه كان قوام أغلبها -وما بي أن أعدد أعماله ومشاريعه فأذكر عضويته في كل مشروع أو عمل وكيف خدم الحيوات المختلفة في بلادنا وكيف أخرج (الأزرقي) و (وحي الصحراء) وكيف أدار تحرير أم القرى أربع سنوات كانت فيه مثال القوة الصحفية العارمة وكيف تسلم عمله في المطبعة الحكومية وفيها آلة طباعة واحدة تدار باليد فتركها وهي إدارة يحسبها الناس دولة في وسط دولة -كما عبر أحد كبار الموظفين- شغل بها الأفكار والناس ثم كيف أرسل بعثة فنية إلى مصر وألحقها بأخرى وبنى داراً للمطبعة حالت الظروف دون تمامها..) إلى آخر الكلمة (الشهادة) التي لا غنى عنها للباحث في جوانب حياة ذلك الإنسان (الفاعل).. |
ولأهمية ما ذكره (العريف) رحمه الله عن (المطبعة الحكومية) أضيف قولاً للأستاذ الأديب محمد عمر عرب -رحمه الله- وهو أيضاً من معاصريه ففي كلمة نشرت له في مجلة (المنهل) عددي ذي القعدة وذي الحجة عام 1367هـ ذكر بأن محمد سعيد عبد المقصود (سعى في بناء دار للمطبعة في ساحة جرول بلغ من فخامتها وسعتها أن ظنها الناس ثكنة عسكرية وأراد أن يخطط أمامها (مدينة للعمال) ولكن القدر عاجله قبل إتمام مشروع البناية وبعد أن قطع شوطاً واسعاً قبل البدء في مشروع المدينة التي أراد أو فكر فيها).. |
- ذلك جانب من (منطق الحيوية القوية) التي كان يتمتع بها الفقيد وقد سخر ما متعه الله تعالى به في سبيل الدين وتقدم المجتمع وازدهار حضارته. |
- أما الجانب الفكري فيتمثل في تلك الطفرة التي فاجأ بها مجايليه من رجالات القلم حين شرع في عرض بيانه الفكري من خلال مقالاته الاجتماعية الجريئة وبحوثه الأدبية والتاريخية التي أثارت الجدل وأشاعت جواً من الحوارات الساخنة بينه وبين رصفائه أو خصومه. |
- وأعود ثانية إلى كلمة الأستاذ (العريف) لأستل هذا الوصف الذي يمكن أن يصور ذلك الحراك الفكري المشتعل.. يقول (وما أحسب الناس نسوا بعد مقالاته الاجتماعية في جريدة (أم القرى) تحت إمضاء (الغربال) وكيف رجّت الحياة الاجتماعية في بلادنا رجّا هز العقول وحرك الأقلام وما تبع هذه الكتابة -بعد ذلك- من أبحاث في الأدب والاجتماع والتاريخ والآثار والسياسة بإمضاءات مختلفة في كل منها دليل روحه القوية في نفسه المستوفزة وطلاب قانون حيويته القوية..). |
- أردت بهذه الإضاءة السريعة الكشف عن الجانب المهم في شخصية محمد سعيد عبد المقصود خوجه.. لكن ما علاقتي بهذا الرجل (القامة)؟.. وكيف تجرأت بإضافة عبارة (كما عرفته)؟! |
- صحيح.. أنني لم أشاهد -في حياتي- هذا الإنسان النبيل، فقد ولدت بعد عام من رحيله، توفاه الله عام 1360هـ وولدت عام 1361هـ، لكنه عاش في وجداني.. اتخذه خيالي صاحباً مؤنساً.. وجعلته لواقعي المعاش مثلاً حياً في الجد والكفاح، والتعامل الإنساني الشريف، المبني على تقوى الله تعالى والمسير على نهج المصطفى الحبيب سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه. |
تعرفت عليه من خلال نافذة معرفية تطل على عالمه الفسيح حين أصدر الأستاذ الناقد الأديب الدكتور محمد بن سعد آل حسين كتابه القيم (محمد سعيد عبد المقصود خوجه.. حياته وآثاره) عام 1404هـ قرأت سيرته وأعجبت بها وبحثت عن المزيد من آثاره مسترشداً بمراجع في التاريخ والأدب، من أهمها (معجم المصادر الصحفية لدراسة الأدب والفكر في المملكة العربية السعودية) صحيفة (أم القرى) الذي أصدره الناقد الحصيف الأستاذ منصور إبراهيم الحازمي عام 1394هـ. |
- وقد وفقني الله تعالى في إصدار كتابين عن الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه، الأول: بعنوان (الغربال) صدر في عام 1420هـ-1999م والثاني بعنوان (المجموعة الكاملة) صدر عام 1422هـ-2001م وكلاهما ضمن سلسلة (كتاب الاثنينية) وتمنيت صدور (معجم المصادر الصحفية) لدراسة الأدب والفكر في المملكة العربية السعودية القسم الثاني عن صحيفة (صوت الحجاز) في حينه لكنه لم يظهر إلاّ بعد ثلاثين سنة من الإعلان عنه وبالتحديد عام 1426هـ. وفي اعتقادي أن هذا المعجم القيم جاء ملبياً لحاجة الباحثين في فترات مهمة من تاريخ الأدب السعودي.. وسيكون ضمن مصادري الرئيسية لاستكمال حلقة البحث في حياة وآثار هذه الشخصية الأدبية المثيرة.. مستعيناً بالله تعالى ثم بما يوفره لي نجله البار الأستاذ الأديب عبد المقصود محمد سعيد خوجه من أجواء أسهمت في جمع الكثير من الوثائق والمعلومات.. شاكراً له دعمه السابق واللاحق. |
- كان إعجابي بهذه الشخصية الفذة ينبع من اعتقاد جازم بأنها كانت -في عصرها- تمثل الأنموذج المطلوب لمجتمع يخطو نحو التطور والبحث عن حياة أفضل. |
ومن حسن حظ أديبنا أن يعيش في ظل تلك الأجواء المشجعة التي واكبت انطلاقة مسيرة التأسيس بقيادة المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- الذي كان يولي اهتمامه البالغ بالأفكار النيرة ويمنح العاملين فرص العمل المثمرة. |
- وجدته من الطراز (الجذاب) في طروحاته الاجتماعية.. يعرف كيف ينتقي القضايا الملحة.. ثم يكتبها بأسلوب مبسط وبفكر حصيف.. يعكس شجون الحاضر.. ويستشرف آفاق المستقبل بطموح لا يعرف المستحيل. |
- وعندما رسم كاتبنا الاجتماعي خطته لاستثارة انتباه أفراد مجتمعه لقضاياهم فاجأ قراء الجريدة بحكاية (الغربال) الذي رآه بيد أحد المارة في الشارع العام ثم قراره اتخاذ لفظ (الغربال) ليصبح الاسم المستعار الذي يخاطبهم به.. لما لهذا الاسم من دلالة قوية على مصداقية الطرح.. ورغبة صاحبه في معالجة المشكلات بمنظار الناقد (الصريح).. لتنقية التقاليد والعادات المتوارثة من الشوائب.. تماماً كما ينقي (الغربال) الحب من الأتربة والمواد الضارة.. |
- ولم يكن كاتبنا متطفلاً على الصحافة أو ساعياً لشهرة، فهو (ابن بجدتها) وأحد أعمدتها في عهد نشأتها. |
- كتب في التربية والتعليم وفي الأدب والتاريخ والاجتماع والآثار.. وكتب في السياسة والاقتصاد وفي الصحة والرياضة.. وغيرها. |
وقد أشرت في مقدمة كتابي (المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه) إلى الحقائق التالية التي توجز أبعاد النشاط الفكري لدى أديبنا.. فقلت (إن القارئ لأعمال الكاتب والأديب محمد سعيد عبد المقصود -في كل مجالاتها التاريخية والأدبية والاجتماعية- ليجد متعة بالغة في طريقة عرضها). فقد كتب سطورها بأسلوب عصري ينأى عن التعقيد، وفي بحوثه (كان يؤرخ ويحلل في مقدرة الباحث المتمكن ومع نظرته الشمولية للمواقف والأحداث التاريخية فقد تمكن من تحقيق (الإيجاز المفيد) للقارئ، دون الإخلال بالتسلسل الزمني الذي يربط الأحداث المهمة). ومن الواضح أن (ابن عبد المقصود) -لثقته الشاملة وسعة تفكيره وصفاء ذهنه- (كان قد أوجد لذاته الأدبية استقلالية تبعده عن التأثر بمدرسة أدبية معينة) فهو يبحث ويسجل بعين فاحصة وروح ناقدة تميز الغث من السمين ثم يكتب ما يمليه عليه فكره من إيحاءات تمثل عصارة مخزونه الثقافي وحصافة رأيه. |
- ففي الأدب تجده يربط النص بالتاريخ ويتابع حوادث تطوره بدقة ويكشف حالاته الشفافية ترينا أسباب النهوض أو عوامل الانحدار وقد يأخذه الحماس إلى التحول -في التعبير- نحو المباشرة دون العناية بالناحية البلاغية، خاصة عندما يكون الأمر متعلقاً برؤية نقدية تمس حالة الأدب في عصره. وهذا الانفعال العاطفي لا يعني الابتذال في رسم الصورة الأدبية بقدر ما يسعى إلى تحقيق الإيصال والإفهام. |
- وفي البحث التاريخي يتواصل مع الزمان والمكان المعبرين عن الأحداث الماضية ثم يطلق فكره للتحليل مستعيناً بالأدلة والشواهد الثابتة. وقد ينتقل إلى مكان الحدث ليقف على ما يمكن الاستدلال به للوصول إلى الحقيقة. |
- أما مقالاته الاجتماعية التي كان ينشرها بتوقيع (الغربال) أو (متألم) أو (ابن عبد المقصود) أو (أبو عبد المقصود) فقد كانت تعكس رؤية ثاقبة تنظر للحاضر بواقعية تنخل العادات وتنقيها من الشوائب وتستشرف المستقبل بآمال وطموحات لا نزال نسعى إلى بعضها الآن، والأمثلة عديدة يمكن استخراجها من مقالاته التي نشرها. |
- حتى في (السياسة) نراه يبحث ويحلل في الأمور ذات العلاقة بالتقارب والجوار. وقد كتب في جريدة (صوت الحجاز) -بتوقيع متألم- سلسلة من المقالات تحت عنوان (حقائق ودقائق عن حوادث الجنوب) تحدث فيها عن فترة تاريخية قديمة تناول من خلالها مسألة الحدود بين المملكة العربية السعودية وجارتها الشقيقة اليمن. |
وبعد: فإن الحديث عن الأديب والكاتب الصحفي والمؤرخ محمد سعيد عبد المقصود ذو شؤون وشجون يتطلب دراسة عميقة لسيرته وآثاره. |
- إن معرفتي لهذه الشخصية الباهرة أوضحتها في بحثي السابق (الغربال).. وكانت (الخاتمة) ومضة تبرز لمحة التميز في كيانها الإنساني. |
نعم: من رحم المجتمع المكي ظهر محمد سعيد عبد المقصود خوجه.. كأنه على موعد مع التحولات المنعشة في البلاد.. فراح يغزل من خيوط (الفجر الجديد) آمال وطموحات مجتمعه.. أحب الناس وأحبوه.. فذهب يبحث عما يسعدهم ويصلح أحوالهم ونال ثقة ولي الأمر فاندفع بحيوية لا تعرف الملل والسكون. |
- حيوية تشتعل نبلاً وإخلاصاً ووفاء ووطنية وشهامة. |
- حيوية (اليد العاملة) التي تبني المنجز الحضاري بفاعلية مخلصة. |
- حيوية (الحرف) المضيء بنور الحق والحقيقة. |
- حيوية (النفس المطمئنة) التي استجابت في النهاية لنداء ربها عزّ وجلّ.. فرحلت لتبقى لنا سيرتها العطرة وآثارها الخالدة.. منهلاً يفيض صدقاً ووفاءً ووطنية وإخلاصاً. |
- رحم الله الأديب المؤرخ والكاتب الصحفي محمد سعيد عبد المقصود، فقد كان -فعلاً- (حياة في الحياة) وجزاه الله خير الجزاء وجعل ما قدمه من أعمال خيرة لوطنه وأمته في موازين حسناته والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. |
|