((كلمة سعادة الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه))
|
أحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأصلي وأسلم على خير خلقك، سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. |
الأستاذات الفضليات، الأساتذة الأكارم.. |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. |
تتشرف ((الاثنينية)) الليلة بتكريم ضيف عزيز قدم إلينا من الشطر الشرقي للوطن الحبيب وبصحبه الكرام، الذي تتسع شطآنه الدافقة بدفء المحبة والمودة ووشائج القربى، في سيمفونية خالدة، تربط بين أبنائه بلا استثناء.. فباسمكم جميعاً أرحب بالشاعر، والكاتب، والباحث، سعادة الأستاذ السيد عدنان بن محمد العوامي وصحبه الكرام الذين قدموا خصيصاً لزيارتنا في هذه الأمسية.. فأهلاً وسهلاً ومرحباً به بين ذويه ومحبيه عارفي فضله. |
نحتفي اليوم بشاعرية شاعر صقلتها الموهبة وغذتها التجربة، وزانها التفاعل المثمر في المشهد الثقافي والأدبي، وفي الوقت نفسه نحتفي بشاعر امتازت إبداعاته بالفحولة الأصيلة المتشربة بغزارة المعاني وجزالة الألفاظ ورقّة المشاعر، فتنوعت صوره بتنوع مداركه واتساع أفقه، وخصوبة أخيلته.. فقد تلونت مناخات إبداعاته في ذاكرة التاريخ بوحدة جغرافية مميزة، ما منحها بعداً فكرياً وأدبياً فريداً، وجعلها بوتقة تلاقح ضمت الكثير من الثقافات المتعددة، ورافداً مهماً في تقبل الآخر، والانفتاح عليه. |
لذا لم يكن غريباً أن ينقب ضيفنا الكريم في عمق التاريخ الأدبي لتلك المنطقة ويتتبع آثار شاعر كبير مغمور عند كثيرين، بل لم تسمع عنه صفوة بعض المثقفين، فالشاعر ((أبو البحر الخطي)) كان من أعلام منطقة القطيف قبل أربعمائة عام، وأسهم في كثير من التيارات السياسية التي انتظمت تلك المنطقة التي شهدت بعض الاضطرابات إبان العهد العثماني، وللأسف فإن شعره الذي ذاع صيته آنذاك تقلص وانزوى بسبب هجرته إلى إيران وبقائه فيها حتى وفاته، لذلك انقطعت صلته أواخر عمره بمسقط رأسه، وتحولت سيرته إلى أوراق باهتة عند بعض مؤرخي الأدب في العصور اللاحقة. |
وبحميمية ضيفنا المعتادة، استطاع أن يبحث في تاريخ ذلك الشاعر الرائع، وتجشم الكثير من العناء ليرسم لنا صورة مبدع ظلمه التاريخ، وأهال على منجزه الأدبي غير قليل من تراب النسيان، واستطاع فارس أمسيتنا أن يُخرج للنور كتابه القيم ((ديوان أبي البحر الخطي)) في جزءين من القطع المتوسط، تجاوز عدد صفحاتهما ثمانمائة صفحة.. وأفضل عليَّ مشكوراً بإهدائي نسخة منه بمجرد فسحه ودخوله المملكة، وقد دهشت لتكامل هذا العمل الكبير، فبالرغم من أنه يدخل في باب التحقيق، فإنه في الواقع يتجاوز ذلك كثيراً، فقد قام ضيفنا الباحث المحقق بمراجعة أربع نسخ مخطوطة، زائداً أربع نسخ مطبوعة، بالإضافة إلى أربعة عشر مصدراً تراثياً، وستة عشر كتاباً عن الموضوع، ومقالات في خمس مجلات، وعشرة مراجع متفرقة. |
هذا الجهد لم يتركه المحقق من دون الوصول إلى أقصى فائدة ممكنة، فهو يستقصي المعلومة حتى آخر الشوط في كل حالة، ثم يزيد عليها كل ما يصب في قالبها (تقريباً) خصوصاً عندما يتعرض للمعاني التي سبق ورودها لدى شعراء آخرين، وكذلك عندما يستقصي المعاني المكررة في شعره فيشير إليها حصراً.. إنه عمل مبرور إلى درجة الإحسان، جمع فأوعى، واستقصى ثم أوفى كل خيط حقه من التتبع.. ما جعل الديوان مرجعاً تاريخياً وتوثيقاً لكثير من الأعلام، ثم أثبت بعض الشعر الذي توصل إليه في خضم بحثه ولم يتركه يذهب سدى، بل اقتنص هذه السانحة بكثير من المهنية ليظهره للحياة مرة أخرى حتى لا يندثر، وهذه غيرة يشكر عليها، وتستحق الثناء والتقريظ.. بالإضافة إلى بحثه المضني عن التصحيف، والعودة إلى أصول الكلمات، وتقويم الإقواء، وتصحيح الأخطاء الإملائية والمطبعية. |
إن المتتبع لأعمال ضيفنا الكريم، يخرج بانطباع لا يختلف حوله اثنان، فهو مقل لدرجة كبيرة، خصوصاً في ما نشر له من أعمال، إذ اقتصر على ديوان ((شاطئ اليباب))، وإن تعددت مشاركاته الصحفية باعتباره مدير تحرير مجلة ((الواحة)) الفصلية التي تُعنى بالتراث، بالإضافة إلى كتاباته في عدد من الصحف المحلية والإقليمية.. فضيفنا الكريم ممن ترسخت لديه قناعات ثابتة بأن ليس كل ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يُكتب صالح للنشر، فالقلم يجري بالغث والسمين، وعلى المبدع الذي يتحمل أمانة الكلمة ويستطيع أن يمارس نوعاً من النقد الذاتي أو سمِّه إن شئت الرقابة الذاتية التي تضبط معايير النشر وفق مرئيات المبدع.. إلا أن هذا النمط قد يقود إلى شيء من الشطط، فتحجب بعض الإبداعات، أو يتم تمزيقها، بالرغم من كونها قد تمثل إضافة مهمة للساحة الثقافية والأدبية.. وهذه إشكالية يصعب الخروج منها إلا بموجب مرئيات المبدع الذاتية، أو محاولة التأثير عليه من قبل بعض المهتمين.. وقد مررت شخصياً بتجربة مماثلة عندما حاولت مراراً التشرف بنشر الأعمال الكاملة لشاعرنا الفذ معالي الشيخ عبدالله بلخير ((رحمه الله)) فكان ضنيناً بها، إلى أن رحل إلى دار الخلود. |
ولا بد من اغتنام هذه السانحة لمناشدة ورثة المبدعين ورموز العطاء الثقافي، أن يبذلوا قصارى جهودهم لكي ترى أعمال سلفهم النور بأسرع وقت ممكن حتى لا تطويها يد النسيان، فالذاكرة قد تحمل الكثير من الأسماء اللامعة، وشذرات من الشعر والنثر، لكن مرور الزمن كفيل بإخفائها خلف غلالات من الضباب الكثيف، إلى أن تنتهي من الذاكرة تماماً وتبقى باهتة في الوجدان.. ولات ساعة مندم.. سعيداً بالإشادة بجهود بعض من قدروا حجم المسؤولية الوطنية، وأسهموا معي مشكورين في نشر مؤلفات آبائهم أو أقاربهم لأن هذا ((الميراث)) ليس ملكاً لهم فحسب، بل ملك للوطن والتاريخ. قبل أيام كنت أقلب في كتاب ((تاريخ الأدب في الحجاز)) لمعالي الشيخ محمد سرور الصبان وهو كتاب صغير نشر عام 1344هـ وأحسب أنه أول كتاب نشر عن الأدب في الحجاز، عرفت بعض الأشخاص مثل الأساتذة: محمد حسن عواد، عبد الوهاب آشي، محمد سعيد العامودي وغيرهم، ولكنني مررت بأسماء لا أعرف عنها شيئاً أقول وأنا متأكد كل التأكيد أن الكثيرين من مثقفي وقتنا الحاضر، وسألناهم ما هي أعمال هؤلاء وما هي وظائفهم ربما نتكلم عنهم كنجوم في كرة القدم أو في أي عمل ولكن لن يخطر في بال كثير من المثقفين ويؤسفني أن أقول ذلك أنهم من الأدباء، وأنا متأكد أن رجلاً في قامة معالي الشيخ محمد سرور الصبان وأنا أعرفه معرفة جيدة، والكثير من المثقفين الكبار ممن يعيشون بيننا، لا يمكن أن يكون إلاّ قد اختار أشخاصاً لهم مكانتهم، ولكن لا نعلم شيئاً عن هؤلاء الأشخاص وقد طلبت من بعض الإخوان الذين يساعدونني في الاثنينية حصر هذه الأسماء وأن ننشر عنها في الصحف مناشدين من يعرف عن هذه الأسماء شيئاً من الأبناء أو الأحفاد، فنحن نتكلم عن حوالى مائة سنة، في محاولة لإحياء الشيء الذي نستطيعه لأننا لو مضينا لمضى كل شيء ويصبح أثراً بعد عين ونكرة لم يكن لها وجود.. |
متمنياً لكم أمسية ماتعة مع ضيفنا الكبير، وعلى أمل أن نلتقي الأسبوع القادم لنحتفي بمعالي الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه، رئيس جامعة شنقيط العصرية، وذلك في إطار التوأمة التي تربط اثنينيتكم بالنادي الجراري، ومعاليه صاحب أكثر من عشرين مؤلفاً في أصول الدين وأصول الفقه المالكي، وتاريخ القراءات وعلوم الحديث، وغيرها.. فاتني أن أذكر وأنا طالب في مدرسة الفلاح أن السيد العالم الكبير علوي مالكي قدم لنا في يوم من الأيام بما يشبه الامتحان الشهري بتكملة بيتين من الشعر وبيان من القائل، ولم يعرف أي منا الإجابة، ولأول مرة وكالمعتاد أجابنا الأستاذ أن البيتين للشاعر أبي البحر الخطي وتساءلت ومن معي عمَّن هو أبو البحر الخطي! ومرت الأيام وعندما أفضل علي أديبنا وضيفنا بهذه الأمسية وتحقيق كتاب رجل كأبي البحر الخطي في المنطقة الشرقية، عاش كثيراً من عمره وتوفي في إيران، وكيف وصل شعره إلى أستاذنا علوي مالكي! فأفضل علي بإجابة كريمة بأنه ذكر في بعض الكتب أن هنالك علماء حجازيين ومكيين ومن هنا نشأت العلاقة، فوضع أستاذنا هذين البيتين ليمتحننا نحن الطلاب، وهذا يعطينا فكرة لمستوى ما كان من تعليم يدرس للطلاب سواء كانوا في المتوسطة أو الثانوية، فإلى لقاء يتجدد وأنتم بخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
عريف الحفل: شكراً لسعادة الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه والكلمة الآن لراعي هذه الأمسية سعادة الأستاذ الدكتور عبد المحسن القحطاني رئيس النادي الأدبي الثقافي في جدة. |
|