شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-3- (الشخصية الوطنية)
من الصعب – ونحن نقرأ ذكريات عبد الله بلخير – أن نحصر ونحدد أبعاد شخصيته في دائرة ضيقة من الوطن، فلم تنطلق أفكاره وأفعاله ومواقفه ورؤاه انطلاقاً إقليمياً ضيقاً، ولم تكن –فيما رأيناه– مشاعره وأحاسيسه تتجه وجهة وطنية محددة، وإنما كان حسه الوطني تُفصح عنه دوماً مشاعره وأحاسيسه العربية، فدائرته المحددة هي عروبته، وتتسع لتشمل أمته الإسلامية.
وذلك لنشأته نشأة متجددة متطورة – فهو حضرمي المولد والمنبت، ومكي النشأة والبيئة، وسعودي الهوية والانتماء والجنسية، وعربي التوجه والامتداد، وإسلامي الدين والعقيدة.
ومن هنا لم تبدُ عليه أية تصورات محلية، فوطنيته مقرونة، دائماً بأحاسيس العرب الآخرين، أينما كانوا في الجزيرة العربية أو خارجها، وحددتها قصيدته:
شبه الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد
ويستحيل حسه الوطني إلى قوة عربية من الحماسة، حالما يعيش في خضم البحر العربي واهتياجاته القومية، فقد رأيناه يشارك الجماهير العربية السورية تظاهرها واهتياجها ضد المستعمر الفرنسي الغاشم، وينخرط وسط جموع المتظاهرين، فتمتزج مشاعره العربية بحماسة الجماهير السورية الوطنية، فيصبح واحداً وطنياً منهم.
ولهذا نراه يقول:
"وكم كانت سعادتي في الساعة التي وصلت فيها إلى الشام، وتوجهت إلى القنصلية السعودية لأول مرة، وكانت في شارع (الحلبوني) أن وجدت أمام دار (آل البكري) – وهي واقعة قريباً من مدخل ذلك الشارع – إحدى تلك المظاهرات الصاخبة بأهازيجها وهتافاتها ضد الاستعمار وعرضاتها، فما وجدت نفسي إلا واثباً من السيارة منغمساً بين الجماهير، أهتف كما يهتفون، وأصيح كما يصيحون وأرتجز بما يرتجزون".
ورغم أنه كان مدفوعاً بحسه الوطني لزيارة (القنصلية السعودية)، فإن التيار العربي القوي جرفه وأنساه ما كان يقصده.
وتعلوه تلك المشاعر الوطنية العربية عقب كل مشهد أو موقف نبيل، فيترجمه بدفقات من العواطف النبيلة المتفقة مع ذلك الموقف. نراه مثلاً يعبر عن تلك الحالة التي وقعت له وجماعته الطلاب الذين جاؤوا من بيروت لدمشق في أحد الأعياد، وتناولوا طعام الغداء في أحد مطاعم (المرجة)، وقد امتنع صاحب المطعم من أخذ الحساب، واعتبرهم ضيوفاً من الحجاز حلت بهم البركة:
"هذه الظواهر الطيبة والخيرة، كانت ملموسة بين العرب كافة، في مشرقهم وفي مغربهم، كانوا يتعاونون على البر والتقوى، وكانوا يحفظون للجزيرة محبتها وحرمتها، يكرمون من انتسب إليها، وتكرم الجزيرة بدورها كل من وفد إليها من أبناء الأقطار العربية، فحبه للعرب كافة والجزيرة صنوان.
ويشيد ببيت شعري لشوقي، عسى أن يترجم شيئاً من مشاعره وعواطفه حيال الأخوة العربية التي كانت رائعة، منذ نصف قرن وأقل:
يوم كنا ولا شك كيف كنا
نتهادى من الإخا ما نشاء
ويقف بنا عبد الله بلخير عند بعض الرحالة الأجانب الذين جابوا بلاد العرب، بقصد إفادة أوطانهم، وقد تجشموا العناء، وعاشوا الصعاب، ليخرجوا بفائدة كبرى، جنت منها بلدانهم الاستعمارية النفع في الاحتلال، وإقامة القواعد العسكرية وغيرها. وكان في كلامه، وهو الرحالة أيضاً الذي يسعى لخدمة أمته من خلال رحلاته، يدعو الشباب العربي -بدون تفرقة بين شباب وطنه أو شباب أمته- للاقتداء بأولئك الرحالة الذين نفعوا أوطانهم.
وحديثه عن رحلاتهم يفرضه الاستطراد والمناسبة، فقد قاده الاستطراد إلى الرحالة (وباستارك)، ثم إلى زوجته (فرياستارك)، التي لها اهتمامات رحلية أيضاً، وقد التقى بها في قرية (أوزلو) المعلقة بأحد الجبال المشرفة على مدينة (البندقية) في إيطاليا، ودعته هو وزوجته للغداء في فندق مجاور لمنزل أمها. وكان وصفه لها يأخذ طابع العظة والإرشاد، أي كان يصفها بروح وعظية إرشادية، تتجه إلى الشباب العربي في كل مكان، لما في حياة تلك السيدة من طاقة وعزم وطموح وتحمل الأهوال، لتحقيق أسمى الأهداف لها ولوطنها البريطاني رغم كبر سنها:
"والحديث عن هذه السيدة التي شارف عمرها -يوم زرتها- الثمانين عاماً، كان حديثاً شيقاً جديراً بالشباب العربي كله، وفي كل مكان أن يسمعه ويعيه ويتدبره، ويتعمق في دراسته ونتائجه" ويقرن معها أخريات: "ففريا ستارك إحدى السيدات البريطانيات العملاقات في خدمة بلدهن، تجولت في مجاهل الأقطار العربية وحواضرها، وركبت الجمال والبغال والحمير في حضرموت وإمارات عدن. وفي أرياف مصر، وجبال الأكراد بالعراق.. وعرفت أمراء وزعماء وقبائل كل بلاد نزلتها. وفي مؤلفاتها العديد عن رحلاتها تلك المعجب والمدهش والخطير عن عزمها وثباتها وسعة اطلاعها، وسعة إلمامها بدقائق الأمور وجليلها، مكتوبة ومصورة ومعززة بخرائط وإحصائيات ووثائق. فهي بكل ذلك تزاحم في الشهرة وصدق ولائها لبريطانيا وللغرب مثيلاتها من بلدانها كالليدي (سنهوب) في لبنان منذ عشرات السنين، وكالمس (بل) التي كانت لولب الاحتلال البريطاني للعراق في ما بعد الحرب العالمية الأولى.
ويخص هذه الأخيرة بحديث يظهر ما حققته لوطنها. وأحاديثه عن هؤلاء السيدات ظاهر المغزى والهدف، حيث تركن آثارهن مغروسة بعمق في تاريخ المنطقة العربية، وتاريخ الاستعمار فيها. وأن أثرهن على مصالح وطنهن البريطاني محفور في ذاكرة التاريخ. وبريطانيا لم تكن عظيمة لولا إخلاص أبنائها والعمل الدؤوب في سبيلها.
وهكذا تصطبغ كتابات أديبنا عنهم بالعظة والاعتبار والاقتداء، ولو في مجال الرحلات، وتنحو المنحى الوطني، لأنه يشيد بوطنيات النساء الأجنبيات. فأين منهن نساؤنا؟ وأين منهن رجالنا؟
"وهكذا تتناثر عرى تلك السلاسل الحديدية، التي كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بالأمس مشدودة بها وموحدة الأمر، كان برجال من أولئك القادة، الرجال منهم والنساء.. يقودون ويسيطرون على جحافل من الأتباع والعيون والآذان، منظورين ومنتشرين في زوايا المعمورة كلها. فلولا هؤلاء وأولئك لما قامت قاعدة لتلك الإمبراطورية التي لم يعرف التاريخ كله مثيلاً لها فيما يعرفه العارفون".
وأديبنا عبد الله بلخير رحال -بداية ونهاية- في بداية فتوته وشبابه كانت له رحلة مع وفد الجامعة الأمريكية ذات أثر كبير على نفسه. لذلك فقد خلدتها لنا ذكرياته هذه. وكان يسعى دوماً ليكون رحالاً بالمعنى الحقيقي في تقديم الفائدة لوطنه وأمته، ولو كان من باب التوجيه والنصح والإرشاد، فقد قدم درساً فيه خير ونفع للشباب، وكأن خبرته وتجربته في الحياة، وبخاصة إثر تلك الرحلة التاريخية للعراق، تدعوه ليقول حصيلة خبرته للشباب، عسى أن يأخذوا بها:
"وهكذا كانت زيارتي تلك في بغداد سبباً لمعرفتي لمن كان سبباً لتلك السعادة العظمى التي نلتها، عندما أصبحت بعد ذلك من أقرب المقربين إلى الملك عبد العزيز، على حداثة سني وبداية شبابي".
وقد انسحبت تلك الرؤية الوطنية الذاتية، على شباب الأجيال الصاعدة، بدون تمييز أو تحديد لنوعية معينة، وهو الذي علمته الحياة الجامعية في بيروت، أن يحس بعروبته قولاً وعملاً.
ولذلك يقول عن تلك الخبرة بأنه يدعو الشباب إلى الأخذ والاستفادة من الرجال الكبار العظام، وذلك بمجالستهم والتعرف عليهم.
"وكم أتمنى لشباب أجيالنا الصاعدة اليوم، أن يتعرفوا على الرجال ممن يكبرونهم سناً، ويستمعوا، إليهم، ويحضروا مجالسهم، ويستفيدوا من المعلومات التي يسمعونها، وأخبار الحوادث التي يرددونها... فتزداد معارفهم، وتثقف أذهانهم بالمعرفة والثقافة، والوعي، وسيستفيدون في حياتهم معنوياً وعملياً الكثير من تلك المعارف، التي يلتقطونها من معرفة الرجال، والتعرف بهم، والسعي إلى زياراتهم، والحرص على أحاديثهم، وسيجمعون هذه المعلومات ويكتسبونها ليضيفوها بعد ذلك إلى ثقافتهم الجامعية، ومعلوماتهم الغزيرة التي اكتسبوها بدورهم في تحصيلهم العلمي بين جدران المدارس والجامعات والمعاهد. فيكون في كل ذلك خير يكتسبونه ويتجملون به فيما يعلمون، ويكتبون ويؤلفون".
ويعرف عبد الله بلخير طاقة الشباب المتدفقة بالحماسة والوطنية والعمل.. ولذلك لا يفتأ يذكرهم بأحاديث ذكرياته، كلما استدعى الوضع والمقام والمناسبة أو الاستطراد، فيقدم لهم حصيلة تجاربه وخبراته في هذه الحياة كما رأينا، فقد تحدث عن الرياضة في الجامعة الأمريكية، وإقلاعه عن ممارستها، ولم يندم عليه. ومع ذلك فقد كان يشاهد المباريات الرياضية، وتسره ويغتبط بها، ويدعو الشباب إلى تقوية أجسامهم بمزاولة الرياضة، وذلك من منطلقين: الأخذ بحكمة (العقل السليم في الجسم السليم)، وتلبية للصوت الديني الذي دعا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرياضة.
يقول بحس وطني ديني: "وليسمح لي أبناؤنا الرياضيون، فيما قرأوا مما ذكرت، فأنا لا أقر أبنائي، ولا أقر أي واحد من أبناء وطننا السعودي ألا يكون على مثل ما يجب أن يكون عليه من القوة والرياضة والنشاط، فكل ذلك واجب وجوباً عينياً وشرعياً، أرجو ألا يعرض عنه أحد من ذكر وأنثى.. لأن العقل السليم -كما قالوا- في الجسم السليم، ولأن توصيات نبينا صلى الله عليه وسلم وديننا يوجب علينا ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سابق عائشة في العدو فسبقها وسبقته، وعمر بن الخطاب كان يوصي الناس بأن يعلموا أبناءهم الفروسية من رمي بالنبل ومبارزة بالسيف واجتهاد في السباحة.. لأنهم كما قال قد خلقوا لزمان غير زمانكم".
إن النصح والتوجيه للشباب ودعوتهم إلى كل ما فيه نفع معنوي أو مادي هي من سمات الرواد، والرائد لا يكذب أهله، ولا يضره بل ينفعه ويسعى لخيره. وكلما رأى أو سمع الروائع من الأعمال والأحوال في بلدان غير بلدانه، وعلى أمة غير أمته، تمنى لو تحقق ما رأى وسمع لبلده ووطنه وأمته.
ولهذا إن كان في (هلسنكي) من فنلندا زائراً متفقداً أحوال المسلمين، ومشاهداً ما يلفت النظر، فسيولد المشهد انطباعاً سريعاً ورؤية خاصة عن تلك الجاليات المسلمة في نفسه.. فيقول: "وأعلق ما ذكرت وما رأيت وما سمعت من زيارتي لتلك الجالية في (هلسنكي)، وما ذكرت وعلمت وسمعت من تعصبهم للغتهم، وإخراجهم الخادمات الفنلنديات من بيوت كل من حملت سيدة البيت بطفل من أطفالها وفور ولادته، حتى لا يسمع في السنوات الخمس من طفولته إلا لغة آبائه وأجداده التترية التي يسمونها تركية".
ولكن يستدرجه هذا المشهد، وتلك الرؤية إلى حديث وطني عربي.. له صلة بالخادمات أو المربيات اللواتي يفدن، أو يُستقدمن، إلى مناطق عديدة من الدول العربية، وبخاصة دول الخليج. ويطول حديثه الذي يقول عنه: "وتذكرت حالنا معشر العرب حوالي الخليج، كيف نستقبل المربيات الأجنبيات من الأقطار الآسيوية. ونسلم إليهن أطفالنا وفتياتنا، ونشتغل عنهم بشؤون حياتنا الوافدة علينا، من الزيارات و (الكوافيرات) و (المعارض) و (السوبرماركت) والسهرات، التي تشغل أوقات الطبقات الراقية والمتوسطة، من القادرين على استقدام الشغالات، فينشأ أطفالنا مضطربين فيما يسمعون من أمهاتهم ومربياتهم العجميات. وبدلاً من أن تتعلم المربيات العربية، يتعلم أطفالنا لغاتهن العجيبة، وينطبعون بطباعهن، ويرون منهن ما يستحسنونه من عادات بلادهن وحركاتهن وسكناتهن.. فتتمخض من كل ذلك أزدواجية مشوشة مضطربة، يشب عليها الجيل الذي قدر له أن تكتنفه تلك الأجواء في بيوت أهله".
ويستطرد عبد الله بلخير في مثل هذا الكلام، عن صنع أولئك الخادمات، وما يتركنه من أثر سيىء في طبيعة الأبناء من الأطفال ولغتهم وسلوكهم.
يستطرد بكلام ملتزم، ومن نفس مجروحة يؤلمها ما ترى، ويتوجس العاقبة الوخيمة. وهكذا في شخصيات الرواد: رواد الفكر والتاريخ واللغة والأدب والأصالة.. حيال مثل هذه الظواهر الاجتماعية وغيرها، وهم يعبرون عن مواقفهم الثابتة في نقد اجتماعي بناء ملتزم:
"وأصبحت الأجيال العربية متدرجة الآن شيئاً فشيئاً نحو الانسلاخ عن عالمها، وما هي إلا سنوات متوالية حتى تصبح بدون لون أو طعم أو رائحة، متعلقين بأذيال الشعوب الأجنبية المتقدمة، التي بهرنا تقدمها، فعشقناها والتزمنا بأن نحذو حذوها، سواء كان ذلك عن عمد أو عن إهمال لواجباتنا البيئية والأسرية، وستنتشر هذه الأمراض بمرور السنين المقبلة، إذا لم نوقف كل شيء عند حده، حتى لا ينقلب إلى ضده، والمسئول عن كل ذلك هو رب البيت وربة البيت، وليس للدولة إلا الإرشاد والموعظة الحسنة، وهو شيء ملاحظ ومسموع، إلا أن الأسماع والأبصار بعيدة عن رؤيته".
وقد يتبدى لنا حسه الوطني من خلال سلوك، أو قول. فيندفع في الحالين بعفوية وتلقائية، وبفطرته على نحو ما إثر واقع خارجي يراه أو يعيشه، فتظهر عليه (الغيرة الوطنية).
فاندفاعه تلقائياً – مثلاً – إلى المفوضية السعودية في بغداد، إثر مقتل الملك غازي، لينقل استياء الناس في الشارع من موقف المفوضية السعودية، لعدم تنكيسها علم المملكة إسوة بالسفارات الأجنبية، كل ذلك خوفاً على مصلحة مملكته وحرصه على سمعتها، وحكامها. وقد طمأنه الوزير المفوض (حمزة غيث) بكلام يستحق الذكر:
"فابتسم السيد حمزة غيث وقد رآني وجلاً وقال لي: اهدأ يا بني، إن علمنا لا يرفع منكساً في أي حادث من الأحداث. وزاد عليها حتى -لا سمح الله- لو مات الملك عبد العزيز نفسه. فهذه التعليمات قد صدرت إلينا من الملك عبد العزيز منذ بضعة أشهر، على أثر استفسارنا منه، يوم مات الملك جورج الخامس: ما الذي نفعل؟ فبلِّغت الممثليات السعوديات كلها في الخارج بأمر جلالته، أن العلم السعودي يحمل شهادة التوحيد، فلا ينكس لموت أحد، ولا يرفع لموت أحد، وحدادنا في مثل هذه الأحداث ألا نرفع العلم حتى لا ننكسه.
وهذا موقفنا اليوم من هذا الحدث الحزين، الذي أحزن الملك عبد العزيز بدون شك، وتلقيت منه برقية الآن بأن أقدم العزاء إلى من يستحقه وأن أشارك في الجنازة".
واندفاعه بالقول في إحدى المناسبات الطلابية، ليعبر عن ذلك الحس الوطني التلقائي، كما أن تلك المناسبة لجديرة بالذكر والتسجيل في هذه الدراسة، لما فيها من مداعبة تجمع الطرفة والحكمة، ومثيرة في آن، فضلاً عن حماسة أديبنا بلخير الوطنية المتزنة، وسرعة بديهته التي احتوت المشهد بثوانٍ خاطفة، كان على من أثاره زاخراً بالرموز والدلالات التاريخية والوطنية. يروي عن ذاك المؤتمر العربي الذي لم يكمل له التوفيق، بسبب إنذار الحرب، واضطراب العالم بتباشير قيام الحرب العالمية الثانية – كان قد داهم الجميع فلم ينجح ذلك المؤتمر، ولم يجتمع. وذهب كما ذهبت أمانينا الكثيرة أدراج الرياح، ومن باب الطرف والملح التي أرويها:
أن إحدى جلسات اللجنة التحضيرية لذلك المؤتمر قد عقدت كالعادة الأسبوعية برئاسة الدكتور (قسطنطين زريق)، ووجهت السكرتيرة العامة سؤالاً إلى كل ممثل من ممثلي الأقطار العربية، أن يذكر صادرات بلاده لتكتب عنها خلاصة فيما سيقدم إلى المؤتمر عند انعقاده. فدار السؤال على ممثل فلسطين، فذكر: الزيتون والحمضيات والقمح والأعناب وغيرها من حاصلات بلاده. وقال مثل ذلك مندوب الأردن. حتى جاء الدور على أحد ممثلي العراق في تلك اللجنة، وهو صديقي السيد (فخري الشيخ)، فأفاض في ذكر حاصلات العراق بقوله: أننا نصدر السمن والأرز والقمح والشعير والتمور بأنواعها، إلى آخر ما ذكره من صادرات بلاده من مثل هذه المحصولات. فلما جاء دوري وسئلت عن صادرات الجزيرة العربية، سبقني فخري الشيخ برفع صوته مداعباً لي بلهجته العراقية: (ما هي صادرات الجزيرة يا عبد الله؟ ولا تَنْسَ أنها واد غير ذي زرع)، فتبسم من حولنا ففطنت لما يعني، فعدلت عما كنت قد استحضرته في ذهني لأفضي به عن حاصلات جزيرة العرب، ولم يكن البترول يذكر يومئذ فقلت للسكرتيرة مجاوباً:
اكتبي، صادرات الجزيرة العربية هي: الخلفاء والأمراء والقواد والملوك.. وأنا مشير إلى العراق الذي ينتمي إليه أخونا فخري. فذهل الجميع مما سمعوا، وانتفض السائل الصديق فخري، وهو يظن أني قد غضبت من إشارته بواد غير ذي زرع، فقال لي: عفواً يا أخي، والله أني لم أقصد شيئاً مما قد يمر على خاطرك. فقلت له: أما أنا فقد قصدت أن أذكرك بما لا يغيب عن خاطري، وقد غاب عن خاطرك. وصفق الحاضرون لهذه الطرفة، وبقي (فخري الشيخ) ومن كانوا معنا إذا جاءت مناسبة يداعبونني عن صادرات جزيرة العرب، التي لا يستطيع أحد أن ينكرها مما أشرت إليه، فأعيدها على أسماعهم".
وإن أردنا أخيراً أن نبرز حسه الوطني خارجاً من نطاقه العربي، فإننا سنجده متمثلاً بروحه الإعلامية، التي كان يهدف منها إظهار حكام وطنه بأروع مظهر. ويتأتى دائماً بالاستطراد الذي ينتهي به إلى فكرة أساسية من أفكاره العديدة، التي تشيد بالوطن ورجاله، وإنجازاتهم الحضارية المعاصرة، في دنيا العلم وغزو الفضاء، ومواكبة العصر الحديث، مثل هذا القول: "يزيد حمدنا وشكرنا لله إذا رأينا اليوم القوى البحرية والجوية والبرية وقد أصبحت بمئات الألوف، وهو شيء لم يمر على بال، ولم يخطر على خاطر، أن نراه بعيوننا وفي حياتنا، من بداية الصقر حتى أصبحنا، وقد حلق في جوانب الكون بالأمس صقر من صقور هذه الجزيرة، فطواها طياً، وكان بهذا أول عربي ومسلم يبلغ هذا المستوى من الفخار، ألا وهو الأمير (سلطان بن سلمان بن عبد العزيز)، فلله الحمد والشكر، لا نحصي ثناء عليه".
وهكذا فإن شخصية بلخير الوطنية لا تنفصل عن مشاعره وأحاسيسه العربية، وتحتم عليه أن يبرز حسه الوطني، فإنها تكتسب غيرة وطنية، وروحاً إعلامية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :844  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 181 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.