شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هنريك وروسالي
رائعتنا هذه الأمسية (هنريك وروسالي) للروائي الدانمركي ماير. أرون جولد تميث. ولد ماير جولد تميت عام 1816م وتوفي عام 1887م. يعد جولد تميت قمة بين الروائيين في بلده بصورة خاصة وفي اسكندنافيا بصورة عامة. فقد عانى الكتابة والصحافة مدة طويلة ثم امتاز برواياته وقصصه ورائعة الليلة (هنريك وروسالي) أو (موعد في الوحل) من أجود ما كتبه.
الراوي: دعا الطالب الجامعي ((هنريك فالك)) خطيبته ((روسالي هيدبرج)) ذات مساء لحضور تمثيلية في أحد المسارح، وفي صباح اليوم التالي وبينما كان هنريك في بيت الطلبة تلقى وريقة من ((روسالي)) تقول فيها:
روسالي: أرى من المستحسن أن نفسخ خطوبتنا..
الراوي: وعرت الدهشة ((هنريك)) فنهض وارتدى ملابسه وأسرع إلى منزل خطيبته.. حيث أخبر أنها ارتحلت إلى جهة مجهولة وأن عمتها على استعداد لمقابلته إذا أحب..
وجاءت العمة لمقابلته بناء على طلبه فحياها ((هنريك)) وأطلعها على رسالة ((روسالي)) ثم سألها قائلاً:
هنريك: هل آجد لديك يا سيدتي تفسيراً لما في هذه الرسالة؟
العمة: لا يا بني.. إني أجهل تماماً دوافع ذلك.
الراوي: وكانت ((روسالي)) عندما عادت من المسرح هادئة تماماً، غير أنها لم تلبث أن ظهرت عليها أمائر انفعال داخلي كبير مرده تأثرها بالتمثيلية التي كانت تدور حوادثها حول خطيبين فسخا خطوبتهما لاختلاف الاتجاه والمشاعر وقد ألقى هذا المشهد التمثيلي في روع ((روسالي)).. إن كل خطوبة مصيرها عاجلاً أو آجلاً أن تفسخ فلماذا تنتظر.. إن الوحدانية خير وأبقى..
ومن ثم قامت ((روسالي)) فكتبت بضع رسائل إلى ((هنريك)) كانت ما تنتهي من كتابة واحدة منها حتى تمزقها لتبدأ في تحرير أخرى حتى قر قرارها على الوريقة التي صبّحت بها ((هنريك)).. ثم حزمت أمتعتها واستقلت أول قطار في الصباح.
(وتابعت عمة ((روسالي)) حديثها مع ((هنريك)) فقالت)
العمة: أنت تعرف أني ليس لي أي سلطان على أفكار أو اتجاهات ((روسالي)) وأنها كانت في زيارة لي فقط، وإني لا أستطيع منعها من زيارة أقربائها إذا أرادت ذلك.
هنريك: أي أقارب يا سيدتي، أي عم بل أية عمة.. إن والديّ ((روسالي)) توفيا كما تعلمين إني أعتقد أن وراء الأكمة ما وراءها..
العمة: لقد وعدت روسالي ألاّ أبوح بالسر الذي أأتمنتني عليه..
هنريك: حسناً يا سيدتي فليكن ما تريدين.
العمة: هنريك! ألم تصدر منك أية إساءة ما إلى ((روسالي)).
هنريك: لا يا سيدتي.. أبداً.. أبداً...
العمة: حسناً.. إن ترويض فتاة في السابعة عشرة من العمر مسألة عويصة ولا سيما من فتاة مستقلة في تصرفاتها لا تخشى والداً أو ولياً. وإنك لتعلم يا مستر هنريك أن ((روسالي)) في الحقيقة صغيرة على أن تصبح مخطوبة.. يجب أن تنتبه لذلك في المرة القادمة.
الراوي: ودع ((هنريك)) العمة وانصرف. وفي طريق عودته مكث عدة ساعات يستعرض في دقة، حياته الماضية.. لقد تذكر أنه مرّ بعدة لحظات ندم فيها على السرعة في الخطبة ليس لأنه وجد عيوباً في ((روسالي)) ولكن لأنه لم يقدّر وضعه ومورده المادي..
وسأل هنريك قلبه فتملكه حزن عميق على فعلة ((روسالي)) ولكن الأيام كفيلة بإطفاء لهيب الأحزان والغرام.
وكان أول عمل قام به ((هنريك)) هو تغيير دراسته من طالب في كلية اللاهوت إلى طالب في كلية الطب.. وبعد خمس سنوات ونصف من جهاد دراسي مستمر تخرج ((هنريك)) في كلية الطب واستقر رأيه أن يفتح عيادة في بلدة صغيرة في جزيرة (جتلاند) بدلاً من فتحها في (كوبنهاجن) العاصمة. وقد وجد صعوبات في بادىء الأمر للحصول على شقة تصلح لأن تكون عيادة.. وفي حالة اليأس وافاه أحد سماسرة العقارات وقال له:
السمسار: دكتور ((هنريك)) لقد وجدت لك داراً تصلح سكناً وعيادة.. فهل لديك المال الكافي لشرائها؟
هنريك: لمن هذه الدار؟
السمسار: لأرملة دكتور بيطري توفي منذ أيام..
الراوي: وكان وضع ((هنريك)) المادي قد تحسن بعد أن ماتت إحدى قريباته وأوصت له بكل ما لديها من ثروة.. فاشترى الدار وانتقل إليها.. ولم تمض بضعة أيام حتى جاءه فلاح من إحدى القرى المجاورة يطلب منه أن يذهب معه إلى مزرعة سيده.. وقد سر ((هنريك)) بذلك ووقر في نفسه أن اسمه قد اشتهر حتى بلغ القرى المجاورة.. وهكذا أخذ ((هنريك)) حقيبته الطبية وفيها آلاته التي لم يستعملها بعد.. وفي الطريق تراءى له أن يسأل الفلاح عن المريض الذي سيذهب لمعالجته فقال:
هنريك: مم يشكو هذا المريض؟ وماذا فعل قبل أن يمرض؟
الفلاح: لقد نشبت عظمة في حلقه بينما كان يأكل.
هنريك: ألم يضربه أحدكم بشدة على ظهره؟
الفلاح: شيء عجيب.. لم نعرف مثل هذا العلاج..
الراوي: وانتهت المحادثة.. ووصلا بعد ذلك إلى المزرعة وأخذ الفلاح الطبيب إلى غرفة الجلوس.. وذهب ليحضر له أكلاً خفيفاً وبعض المرطبات، فاعتذر الطبيب وطلب رؤية المريض.. فقاده الفلاح إلى ساحة بين الاسطبلات حيث وقفا أمام بيت معزول مشيد على مستنقع تفوح منه رائحة كريهة وفتح الفلاح الباب الصغير وقال:
الفلاح: ها هو مريضك يا دكتور.
الراوي: ونظر ((الدكتور)) فإذا مريضه (خنزير)... لقد تناسى ((هنريك)) إنه اشترى بيت طبيب بيطري ونقل عيادته إليه فغلى الدم في وجهه وصاح:
هنريك: أتنتظر مني أن أعالج خنزيراً؟
الفلاح: حسناً.. لقد طلبنا قبل مجيئك الدكتور (جاسيرس) ليعالج الحصان.. ولكن إذا حصل على رضاء سيدي فستعالج الحصان في المرة القادمة.
هنريك: اذهب إلى جهنم مع خنزيرك وحصانك.
الفلاح: من واجبك يا دكتور ألاّ تستعمل كلمات بذيئة.
هنريك: (محتداً) إنها اللغة التي تستحقها.. في المرة القادمة عندما يكون لديك حيوان مريض أدع له طبيباً بيطرياً.. لقد كنت أسمع عنكم أيها الفلاحين أنكم تستدعون الطبيب البيطري عندما يكون المريض آدمياً.
الفلاح: هل انتهيت من سبابك؟
هنريك: نعم.. والآن دعني أعود إلى البلدة حالاً.
الفلاح: امش على طول.. فلا أحد سيوقفك أنت أو كلماتك البذيئة.. التي يستحسن أن تأخذها معك..
الراوي: واسترجع الطبيب هدوءه، وقال يخاطب الفلاح بلهجة ناعمة:
هنريك: لقد حدث ما حدث لي نتيجة غلطتي فقد انتقلت إلى دار الطبيب البيطري.. وهذا يوضح لك حالتي.
الفلاح: ذلك ممكن.
هنريك: والآن أرجوك ترسل لي العربة.
الفلاح: لا.. فخيلنا لن تقود عربتك ولا كلماتك القبيحة من هذا المكان.. لا.. حتى تعالج الخنزير أولاً.
هنريك: لا تكلمني عن خنزيرك المريض.
الراوي: ومن دون أي كلام أمسك الفلاح بتلابيب الدكتور ثم ألوى ذراعيه بشدة وحمله مسافة غير قصيرة ورأس الدكتور يتدلى على ظهر الفلاح غير بعيد عن الأرض ثم رمى به على كثيب من العشب بعيداً عن المزرعة وقال له:
الفلاح: الخزي لك ولكلماتك النابية.
الراوي: وصرخ الطبيب وهو يتلوى من الألم والغضب وقال:
هنريك: يجب أن تعود بي إلى الدار فقد تركت حقيبتي الطبية بها وسأعتبرك سارقاً إذا لم تعدها إليّ.
الراوي: وأسرع الفلاح إلى الدار وعاد بالحقيبة ووضع عليها (كرونين) أي ما يعادل شلنين وسلمها للدكتور قائلاً:
الفلاح: هذه حقيبتك.. ومرة أخرى أقول لك: الخزي لك.
الراوي: وانصرف الفلاح وأدرك الطبيب أنه هالك.. فصمم على العودة مشياً إلى داره على قدميه..
ولما كان يجهل كل شيء حوله، فقد تحير أي طريق يسلكه للخروج من المزرعة. وظل يتخبط على غير هدى وخاصة في أول الأمر عندما كان في حالة الانفعال الشديد.. واستمر على هذه الحال حتى أظلم الليل وزاد في حيرته ولبكته انهمار المطر وعصف ريح بارد شديد فابتلت ملابسه وبدأ يشعر بقسوة البرد وأسود كل شيء في ناظريه وانتابه صداع وألم شديد في رأسه ولكنه استمر يمشي طلباً للدفء وأملاً في الخروج مما هو فيه وأخيراً لاحت له عن بعد أنوار نوافذ بيت فأسرع في مشيته وإذا به يجد حاجزاً من الماء بينه وبين هذا البيت على أنه لم ييأس بل ثابر في دورانه.
وبينما هو على هذه الحال.. كانت في ذلك البيت امرأتان، إحداهما سيدة كبيرة والثانية فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها. وكانت الفتاة تقرأ للسيدة مقطوعات شعرية لبعض شعراء الدانمارك. على أنها ما لبثت أن وقفت لتقول:
الفتاة: إني لأعجب يا سيدتي من الأساطير التي تتحدث عن العشاق الذين يخرجون من قبورهم.. إن مثل هذه القصص بعيدة عن الحقيقة على ما أعتقد.
السيدة: إن مثل هذه الأساطير مليئة بالأشباح والطيوف التي يشاهدها بعضهم أو يجسدها لهم عقلهم الباطني أو خوفهم الشديد أو حبهم الشديد.
الفتاة: حبذا لو أرى بعض هذه الأشباح التي تخرج من هذه القبور.
السيدة: أظن أننا لا نستطيع رؤية هذه الأشباح إلا عندما نكون معهم في قبورهم.. (يضحكان)..
الراوي: وران سكون مطبق على المرأتين اللتين سبحتا في خيالاتهما وأفكارهما..
وفجأة ظهرت الخادمة لتقول لهما..
الخادمة: يوجد خارج الدار شخص يطلب ملجأ..
السيدة: ما شكل هذا الشخص؟
الخادمة: لا أعرف لأن شكله مرعب.. وهو منقوع في ملابسه المبتلة..
السيدة: هل هو عامل أو مسافر؟
الخادمة: إنه يرتدي قميصاً أبيض ولو أن قميصه لم يعد أبيض من الوحل..
السيدة: إني متعجبة.. من ترى يكون.. اسأليه عن اسمه..
الراوي: وخرجت الخادم ثم عادت على عجل وهي تقول:
الخادم: إنه ممدد على الأرض يا سيدتي.
السيدة: ماذا تقولين؟
الخادم: إنه منطرح أرضاً.. وإني أخشى أن يكون ميتاً.
الراوي: وخرجت المرأتان على عجل.. وإذا بالفتاة تصرخ:
الفتاة: يا إلهي.. إنه هنريك فالك.. خطيبي.
الراوي: وحمل الدكتور وهو فاقد الوعي إلى غرفة دافئة وبدأ في إسعافه..
وظل هنريك على حاله بضعة أيام و ((روسالي)) بجانبه تقوم على خدمته وراحته وحين عاد إلى وعيه وفتح عينيه ورأى ((روسالي)) بجانبه صرخ:
هنريك: يا إلهي.. أأنت بجانبي.. هل أنا في حلم.. شكراً لك يا إلهي..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :918  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج