شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الانتقام الرهيب
للكاتب الفرنسي المسرحي ألبير كامي.
الراوي: في أحد الفنادق الريفية بمقاطعة (مورافيا) جلست الأم صاحبة الفندق وابنتها (مارتا) تتبادلان الأحاديث عن نزيل يوشك أن يحل بالفندق وتتمنيان أن يكون غنياً ووحيداً كذلك.. فالنزيل من هذا النوع هو الذي يلائم أغراضهما ولو أنه ندر في الأيام الأخيرة هبوط مثل هذا الصيد على الفندق مما أدى إلى عسر حالهما وكثرة تبرم ((مارتا)) من هذه الحال والأم تهدهد هذا التبرم بقولها:
الأم: بنيتي ((مارتا)) إن مطالب الأغنياء كثيرة.. وتحقيقها لا تتحمله أوضاعنا المالية السيئة..
مارتا: ولكن الأغنياء يدفعون كثيراً يا أماه..
الأم: آه يا بنيتي! إنني أتطلع فقط إلى الطمأنينة والدعة، وإلى شيء من الراحة بعد طول العناء.. وثمة ليالٍ ينتابني فيها ما يشبه أن يكون أحاسيس دينية تهيب بي أن أترك نفسي على سجيتها وأن لا أكون قاسية متشددة مثلك يا (مارتا)..
مارتا: أنا.. أنا.. يا أماه..
الأم: أجل (يا مارتا) أجل.. إنك تأخذين الحياة بكثير من الجد وهذا لا يناسب سنك فإني أعرف فتيات ولدن معك في عام واحد ولا يحلمن إلا بالحماقات..
مارتا: ولكن حماقاتهن لا تقاس بما نرتكب كما تعرفين يا أماه..
الأم: صدقت يا بنيتي وهذا ما يؤرقني ويضنيني فكلما حل بفندقنا ضيف وحيد غني قدمنا له المخدر في قدح الشاي حتى إذا فقد وعيه جردناه من ماله وأوراقه وحملناه إلى النهر وغيبناه في جوفه وسره معه..
مارتا: ما بك يا أماه.. ماذا تقولين؟
الأم: وددت يا بنيتي لو أن الضيف الذي يوشك أن يحل بفندقنا تتيح له الأقدار أن يفلت من أيدينا..
مارتا: لا.. لا.. لن يفلت من أيدينا ويجب أن يلقى مصير من سبقوه وستشتركين معي يا أماه.. أليس كذلك؟
الأم: (كالمغلوب على أمره).. ليكن ما تريدين يا (مارتا)..
مارتا: أراك تقولينها بطريقة غريبة كما لو كنت مكرهة على ذلك..
الأم: الحق إني متعبة وإني لأتمنى أن يكون ذلك هو الرجل الأخير فالقتل مزعج إلى حد يثير الفزع، ورغم أنه لا يهمني أن أموت على ساحل البحر أو في هذا السهل الفسيح فإني أود أن نرحل بعد ذلك معاً..
مارتا: سنرحل.. تمالكي نفسك فلم يبق إلا القليل يا أماه.. سيشرب النزيل قدح الشاي وينام ولسوف نحمله وهو لا يزال ينبض بالحياة إلى النهر وبعدها ستجدين الراحة التي تنشدينها..
الأم: إنني ذاهبة فأعدي كل شيء يا (مارتا) إذا كان الأمر يساوي حقاً ما نعاني في سبيله..
الراوي: ويفد ((جان)) النزيل ولا تلبث أن تقبل ((ماريا)) زوجه فيسوؤه مقدمها إلا أنها تبدي له ما يساورها من قلق فهي لا تريد منه أن يبعد عنها إذ أنهما كانا ينزلان في فندق آخر.. ولكن ((جان)) رغب في أن يدعها في ذلك الفندق ليقضي ليلته في فندق الأم وابنتها.. وتحاول ((ماريا)) أن تثني زوجها عن عزمه ولكنه كان مسوقاً إلى هذا المكان بفكرة معينة تجعله يتشبث بالميت فيه وإذ ذاك تسأله ((ماريا)).
ماريا: أهذا هو المكان يا جان؟
جان: أجل! إنه هو.. ومن هذا الباب خرجت منذ عشرين عاماً..
ماريا: لا أستطيع أن أصدق أن صاحبة هذا الفندق أو ابنتها لم تتعرفا عليك بمجرد أن شاهدتاك فالأم خليقة بأن تعرف انها.. وهذا أقل ما يمكنها عمله..
جان: بلى ماريا بلى.. ولكن عشرين عاماً من البعاد والفراق تغير معالم الأشياء قليلاً.. ولقد بلغت والدتي من الكبر عتياً وضعف بصرها حتى أني نفسي لم أكد أعرفها.. لقد جئت إلى هنا أحمل معي حظي والسعادة إذا استطعت أن أحققها فمسوؤليتي نحو أمي وأختي قد وجبت بعد وفاة والدي..
ماريا: ولماذا لم تعلمهما بحضورك يا جان؟
جان: أريد أولاً أن أستطلع أحوالهما عن كثب لأتبين ما يحقق لهما السعادة ثم أبحث بعد ذلك عن وسيلة لأعرفهما بنفسي..
ماريا: قد تكون على صواب يا جان.. فأرجو عفوك.. فإني منذ وطئت قدماي هذا البلد أسىء الظن في كل شيء.. جان.. لنرحل يا جان فإنك لن تعثر على السعادة في هذا المكان..
جان: ليست السعادة هي الأمل الذي جئنا نبحث عنه فنحن نتمتع بالسعادة فعلاً..
ماريا: فلماذا لا تقنع بما نحن فيه..
جان: ليست السعادة كل شيء يا ماريا.. فللرجال واجبات يلتزمون بها ومن واجبي أن أبحث عن أمي وأن أجد موطناً لي.. فالمرء يفتقد سعادته في الغربة أو في غمرة النسيان.. حقيقة أن الإنسان في حاجة إلى السعادة ولكنه أيضاً في حاجة إلى أن يجد ما ينتسب إليه..
ماريا: إنني يا جان إزاء إصرارك لا أملك إلا أن أعود من حيث أتيت أعود وأنا خائفة وقلقة جداً عليك..
جان: لا تخافي.. اطمئني.. مع السلامة.. مع السلامة..
الراوي: وبعد خروج ((ماريا)) بمدة تأتي ((مارتا)) فتسأل ((جان)) في خشونة أن يدلي إليها بالبيانات المألوفة كي تكتبها في سجل الفندق.. ويفكر ((جان)) أن ينتهز الفرصة فيكشف لها عن شخصيته ولكنه يجد نفسه حائراً بين رغبتين تتنازعانه.. فهو يريد أن يفصح عن الحقيقة ولكنه في نفس الوقت يريد كذلك أن يستخفي ولو إلى حين وينتهي من حيرته فيذكر ((لمارتا)) اسماً مستعاراً.. وتسأله ((مارتا)) عن المكان الذي سيقصد إليه بعد مبارحته الفندق فيجيب مراوغاً..
جان: لست أعلم بالضبط فهذا سيتوقف على اعتبارات شتى..
مارتا: أتريد أن تستقر هنا؟
جان: سوف أقرر الأمر على ضوء ظروفي..
مارتا: ألا ينتظرك أحد؟
جان: مبدئياً لا أحد..
مارتا: هل لديك ما يثبت شخصيتك؟
جان: أجل يا مدموزيل.. خذي هذا جواز سفري ففيه ما تبغين..
الراوي: وأمّل ((جان)) أن تعرف (مارتا) الحقيقة من تلقاء نفسها حين تقرأ جواز سفره ولكن هذه تركت الجواز بين يديها وشرد ذهنها لتحلم بأشياء أخرى ثم ما لبثت أن ردت إليه الجواز من دون أن تنظر فيه. إن ما ذكره (جان) عن عدم وجود من يرتقب عودته قد طمأن (مارتا) إلى أنها قد وقعت على صيد طيب وحاول جان أن يستدل من (مارتا) على نوع الحياة التي تحياها هي وأمها ولكنها صدته بخشونة وأفهمته أن حياتهما تخصهما وحدهما دون سواهما.. وتدخل الأم فيدور بينها وبين ((جان)) حديث آخر وتتهيأ الفرص الكثيرة له ليكشف عن شخصيته ولكنه يتردد مرة أخرى فيعمد إلى اللف والدوران والحديث عن المودة والقلب الوفي فتصرخ فيه (مارتا).
مارتا: ليس من عمل للقلب هنا يا مسيو..
جان: صدقت يا مدموزيل.. هذا بالنسبة إلى قلبك أنت، أما أمك فيلوح أنها تفهم الأمور وتقدرها حق قدرها.. سيدتي.. أتقيمين في هذا الفندق منذ أمد بعيد؟
الأم: منذ أعوام وأعوام كثيرة حتى أنني لا أذكر كيف كانت بداية إقامتي بل إنني نسيت ما كنت عليه إذ ذاك، إن هذه الفتاة ابنتي وقد لازمتني طوال هذه المدة فلهذا أعرفها ولعلّها بغير ذلك كانت تصبح هي الأخرى نسياً منسياً بالنسبة لي..
جان: أجل إني أدرك هذا ولكن لو أن لك ولداً أعارك ساعده فما أراك كنت تنسينه؟
الأم: ولداً.. أواه إنني امرأة طاعنة في السن والعجائز لا يعرفن كيف يحببن أولادهن.. لقد وهن القلب يا سيدي..
مارتا: أراك استرسلت في الحديث مع هذا الشاب يا أماه فهلا تركته يذهب إلى مخدعه.. خذ يا مسيو جان مفتاح غرفتك.. إنني ذاهبة يا أماه..
الأم: حسناً.. مع السلامة..
جان: مع السلامة يا مدموزيل..
الأم: إنني ذاهبة أيضاً يا مسيو جان..
جان: دعيني أساعدك على النهوض يا مدام.
الأم: خل عنك يا ولدي.. فلست عاجزة.. أنظر إلى هاتين اليدين إنهما لا تزالان قويتين.. وتستطيعان أن تقبضا على ساقي رجل..
الراوي: ولا يجد (جان) ما يدعوه إلى البقاء فيتجه إلى غرفته وتحدث الأم نفسها وهي تتأمل يديها..
الأم: إنها لفكرة غريبة أن أحدث ((جان)) عن يديّ ولو أنه نظر إليهما فلعلّه كان يدرك ما رفض أن يفهمه من حديث (مارتا) ولكن لماذا يبدو جنوح هذا الرجل إلى الموت شديداً ورغبتي في معاودة القتل ضئيلة لكم أود أن يرحل.. فأستطيع أن أرقد في هذه الليلة أيضاً وأستغرق في النوم.. إنني طاعنة في السن ولن أقوى على أن أطبق يدي على رسغيه، وأشعر باهتزازات جسده على طول الطريق المؤدية إلى النهر وابذل ذلك الجهد الأخير حين ألقيه في الماء ثم أعود مرتخية الذراعين.. مبهورة الأنفاس.. مشلولة لا أقوى على نفض العرق الذي تفصد من جسدي.. لا بأس.. إن الضحية في إبانها..
الراوي: وتدخل (مارتا) ثائرة فتطلب إلى أمها أن تبادر إلى العمل ولا تجعل لمشاعرها سلطاناً عليها.. فتجيبها الأم:
الأم: أرجو أن تكون هذه آخر مرة نضطر فيها إلى أن نتجرد من مشاعرنا وأن طلبك المبادرة للعمل هو لكي تبددي ما يعاودني من إحساس ضئيل بالأمانة..
مارتا: إن ما تسمينه إحساساً بالأمانة ليس إلاّ رغبة في النوم..
الأم: الحق معك. ولكن لماذا ترسل إلينا المصادفة ضحية قليلة الجاذبية مثل هذا الرجل..
مارتا: إنه كثيراً لشرود يا أماه.. وهو طيب إلى حد كبير.. ولكن ماذا يصير إليه العالم لو أن المحكوم عليهم أشاعوا في جلاديهم أحاسيس العطف والرحمة..
الأم: أراني اليوم متعبة يا (مارتا) وأنت ثائرة.. فلماذا نتشبت بالعناد ونطرح كل اعتبار في سبيل شيء من المال..
مارتا: كلا يا أماه.. ليس من أجل المال ما نفعل. ولكن من أجل نسيان هذا البلد.. ومن أجل بيت هادىء على شاطىء البحر..
الأم: ولكنني قانعة بما أنا فيه..
مارتا: لئن كنت أنت قانعة بما أنت فيه فإنني سئمت حياتي من هذا الأفق المغلق.. إنك كهلة لا تريدين إلا أن تغلقي عينيك وتنسي.. أما أنا التي تستشعر في القلب قليلاً من رغبات أعوام عمرها العشرين فأريد أن أحقق هذه الرغبات ولو تحتم على أن أوغل في الحياة البشعة التي نريد أن نهجرها..
الأم: إن من العسير أحياناً فهم امرأة عجوز. ولكنني أريد أن أقول لك ليس هذا المساء.. لنترك (لجان) هذه اليلة.. فقد تكون نجاتنا على يديه..
مارتا: أقسم لك يا أماه بأن نجاتنا في متناول أيدينا بالفعل وليس علينا إلا الخروج من هذا التردد القاسي.. فإما أن نعمل هذه الليلة وإلا فلن نعمل أبداً..
الراوي: وظل (جان) ساهداً في غرفته يستشعر القلق وشيئاً من خوف مبهم وقد أرخى الليل سدوله وهو جالس يحدث نفسه..
جان: ما أثقل هذه الليلة.. إن (ماريا) محقة في رأيها عن هذا البلد.. ترى ماذا تفعل هي الآن.. وفيم تفكر.. لقد كانت ليالينا هناك تفيض بالسعادة.. أما هنا فعلى العكس، ولكنني لا أرى ما يدعو إلى هذا القلق وهذه المخاوف فعلى المرء أن يعرف ما يريد.. وفي هذه الغرفة ستصحح الأوضاع وتسوى الأمور..
((يسمع طرقاً على الباب فيقول))..
أدخل.. أدخل..
مارتا: طاب مساؤك..
جان: طاب مساؤك يا مدموزيل (مارتا).. هل تريدين شيئاً؟
مارتا: لا.. لقد جئت لاستبدال المنشفة وتغيير الماء.. فلعلّه دفىء من جفاف هذا البلد وحره..
جان: صدقت.. إن هذا البلد جاف وحار.. تنقبض فيه النفس ويكتئب من مناظره الخاطر.. أين منه بلدي الجميل على شاطىء البحر الهادىء.. نهاره شمس مشرقة وليله نسائم عليلة منعشة..
مارتا: لطالما حلمت بمثل بلدك يا سيدي وكثيراً ما وازنت بين ربيعنا الكئيب هنا وما هنالك من بحر وأزهار.. وإن هذا التصور يا سيدي يجعلني عمياء عن كل ما حولي..
جان: إنني أقدر هذا يا مدموزيل.. والحق يقال إن الربيع في بلدي يشرح صدرك.. والأزهار التي تغطي الأسوار البيضاء تحيط بك من كل جانب ولو أنك تنزهت ساعة بين الروابي حول بلدي.. لعبقت ملابسك بأريج ورودها الزاهية..
مارتا: ما أبدع ما تقول يا سيدي.. أما ما ندعوه ربيعاً هنا فلا يعد وردة وبرعمتين تتفتح في حديقة الدير وهذا يكفي لفتنة الرجال في بلدي.. إن روحهم شبيهة بتلك الوردة الضنينة وأن لفحة دفء قوية كفيلة بأن تيبسهم.. حقاً إنه الربيع الذي يستحقونه..
جان: شيء مدهش يا مدموزيل (مارتا) أن ألاحظ أنك تخاطبينني - للمرة الأولى - بلهجة إنسانية.. بعد حدة تلك القسوة..
مارتا: إن الشيء الإنساني الوحيد الذي عندي هو الرغبة وفي سبيل الحصول على مشتهاي أحطم كل شيء يعيق طريقي..
الراوي: وتخرج (مارتا) وإذ ذاك يمضي (جان) إلى الفراش فيجلس فوقه ثم يعود إلى حديثه مع نفسه..
جان: يا إلهي! إن هذه الفتاة تحرضني على أن أغادر المكان وأن الحق بماريا، لكم أكون سعيداً إذ ذاك أنها حماقة لعمري.. ماذا تراني أصنع هنا.. في هذا المكان الكئيب.. ولكن لا.. فها هنا أمي وأختي اللتان أغفلت أمرهما طويلاً.. ها هي أختي (مارتا) عائدة إلي وفي يدها قدح الشاي.. ولكني لم أطلب منها شاي..
مارتا: إليك قدح الشاي.. أشرب يا مسيو (جان) فقد يساعدك على ما أنت فيه من حال..
جان: شكراً يا مارتا) شكراً..
الراوي: وتخرج (مارتا).. ويتناول (جان) قدح الشاي وما يكاد يفرغ في جوفه محتوياته حتى يقرع الباب بشدة وتدخل الأم لكي تحاول أن تمنع جان من احتساء قدح الشاي.. ولكنها حين تراه قد شربه تدرك أن لا جدوى من محاولة إنقاذه ويتبادلان حديثاً قصيراً ينبئها خلاله أنه سيغادر الفندق صباح الغد.. ثم يعطيها أجرة مبيته.. وتخرج الأم فيعود (جان) إلى حديثه مع نفسه وقد بلغ منه الإعياء مبلغه بتأثير المخدر..
جان: سأعود غداً بصحبة (ماريا) وسأقول لها ((هذا أنا)) ولن يعيقني أي شيء عن جعلهما سعيدتين.. لقد كانت ماريا على حق.. أواه.. لست أحب هذا المساء الذي يبدو كل شيء فيه بعيداً بهذا الشكل نعم.. أم.. لا؟..
الراوي: ثم يغرق في النوم.. ويهوم الليل وتدخل المرأتان ومعهما ضوء يبدو تحته جسد النائم وتحاول الأم - للمرة الأخيرة - إن تثني ابنتها عن اقتراف الجريمة، ولكن هذه تزداد إصراراً، وتنتزع حافظة ((جان)) فتحصي ما بها من نقود بينما تسألها الأم أن تجلس قليلاً فتهتف (مارتا)..
مارتا: هنا بالقرب منه..
الأم: أجل، ولم لا؟ إنه يوشك أن يمضي في رقدة تنقله إلى عالم بعيد.. إنه لن يستيقظ وشيكاً فيسألنا عما نفعل.. أما عن بقية الدنيا فإنها ستتوقف على باب هذه الغرفة المغلقة فهو ونحن نستطيع أن ننعم في سلام بهذه اللحظة وتلك السكينة أحرى بك أن تجلسي يا (مارتا) فإن لدينا من الوقت ما يكفي انظري إليه..
مارتا: أماه.. ليس لدينا من الوقت ما يكفي لأداء المهمة هيا للعمل هيا..
الأم: (مارتا) أكنت تعلمين برغبة (جان) في الرحيل هذا المساء..؟
مارتا: لا، لم أكن أعلم.. ولو أنني علمت لما بدل هذا من خطتي شيئاً إنه هو الذي شجعني على أن أقرر مصرعه فلقد ترددت مثلك في البداية ولكنه حدثني عن بلاد أتوق إليها وأعرف كيف يمس مشاعري فزودني بسلاح ضده.
الأم: هيا للعمل يا مارتا.. لكم يبدو لي أن ذلك الفجر لن يطل أبداً..
الراوي: ويطل الصباح ويأتي خادم الفندق الكهل يكنس المكان ويرتب الأشياء.. ونرى الأم ومارتا خلف المكتب تطرح شعرها إلى الوراء وتمني النفس بتحقيق الآمال..
مارتا: أماه! ها أنتذى ترين أن الصباح قد أهل وإننا قد أوفينا على نهاية ذلك الليل..
الأم: أجل! وفي غد سأشعر بأن انتهاءنا من ذلك العمل شيء حسن جداً.. أما الآن فلست أحس إلا بحاجتي إلى النوم وبجفاف قلبي.. لقد كان الليل قاسياً..
مارتا: ولكن هذا الصباح هو أول صباح أحياه منذ سنوات.. لكأنني أسمع صوت البحر سلفاً وأن في نفسي لحبورا يدفعني إلى الصياح ألا دعيني أهنأ بسعادتي هادئة البال فلقد عدت الشابة التي كنت. فجسدي يستعيد دفئه وكلي شعور بالرغبة في الانطلاق.. أماه بربك خبريني أترينني ما زلت جميلة..
الراوي: وبعد قليل تخرج الأم.. ويعثر الخادم على جواز سفر (جان) فيفتحه ويتفحصه ثم يقدمه مفتوحاً إلى (مارتا) التي ترفض أن تأخذه، ولكن يد الخادم تظل ممدودة به حتى تأخذه فيتركها وحدها ويخرج وتقرأ (مارتا) جواز السفر فتجمد في مكانها دون أن يبدو عليها أي أثر لأي انفعال، ثم تنادي أمها وتعطيها إياه فتقرأ الأم بدورها وتتسمر عيناها على الكلمات في صمت رهيب، ولا تلبث أن تقرر أمراً، ويدور بينها وبين ابنتها هذا الحوار الأليم..
الأم: ويحي! لقد كنت أعرف أن الدائرة تدور هكذا يوماً..
مارتا: أماه!!
الأم: دعيني يا (مارتا) لقد عشت ما يكفي.. عشت كثيراً.. أكثر من ولدي.. وليس هذا في نظام الكون.. الآن أستطيع أن أنضم إليه في أعماق ذلك النهر حيث تغطي الأعشاب وجهه..
مارتا: أماه! لن تتركيني وحيدة؟
الأم: إن قلبي الهرم الذي كان يعتقد أنه بمنجاة من كل شيء يعود اليوم فيستشعر الألم، وعندما تعجز أم عن أن تتعرف على ولدها، فإن دورها على الأرض يكون قد انتهى..
مارتا: كلا.. إنه لم ينته بعد طالما كانت سعادة ابنتها توشك أن تحقق..
الأم: إن في العالم قوى لا تقبل الأفكار.. وأن لنا يقيننا على هذه الأرض.. وحب الوالدة لولدها هو الآن يقيني.. كيف أستطيع الآن أن أتحول عن حب ولدي..
مارتا: با له من حب أصيل وعميق نسيته عشرين عاماً يا أماه..
الأم: أجل، حب جميل ظل حياً خلال عشرين عاماً من الصمت الرهيب حسبي هذا الحب الجميل، ما دمت لا أستطيع أن أحيا خارجاً..
مارتا: لا يمكن أن تقولي ذلك دون أن يكون بنفسك ظل من ثورة ومن دون أن تفكري في ابنتك..
الأم: بل إنه ممكن.. وإن يكن قاسياً عليك.. لست أفكر في شيء أو أثور على شيء، وأحسب أن هذا هو العقاب..
مارتا: ما اعتدت أن تقولي هذا من قبل بل إنك في خلال تلك الأعوام كنت تقفين بالقرب مني، وتقبضيني بيد ثابتة على سيقان أولئك الذين كتب عليهم الموت.. لم تكوني تفكرين إذ ذاك في الحرية ولا في الجحيم..
وما رأيت قط مرة أن الحياة حرام عليك..
الأم: كان الحزن خليقاً بتغيير هذا كله.. وماذا يعني الحزن لمجرمة؟ ها أنتذى ترين أنه ليس حزناً حقيقياً تعانيه أم فما ندت عني صرخة.. وما هو إلا معاناة لآلام مولد الحب من جديد وأنها لتفوق احتمالي..
مارتا: لا تنسى أنني أنا الباقية على قيد الحياة، وأنه هو رحل وأنك وجدتني بجوارك عمراً بأسره.. أما هو فقد ألقى بك في زاوية النسيان فلا بد لذلك من ثمن.. لقد منحته الحياة ما تستطيع أن تمنحه إنساناً أما أنا فقد بقيت هنا.. نشأت صغيرة كئيبة ملولاً، وكبرت في جلمود هذه الأراضي.. إن ما حدث لابنك ليس شيئاً هائلاً إذ لم يبق في الدنيا شيء لم يعرفه أفينبغي أن يسلبني حب أمي كذلك وأن يقتادك إلى غير نهاية في صقيع نهره..
الراوي: ولكن الأم لا ترجع عما اعتزمت عليه فتخرج مهرولة إلى حيث تلقى مصيرها بجوار ابنها في جوف النهر.. وحينئذ يحن حنون الابنة (مارتا) فتنفجر في صياح وحشي..
مارتا: آه.. آه.. الويل لك يا أماه.. اللعنة عليك وعلى أخي قضيتما على أحلامي الذهبية وآمالي اليانعة.. دفنتم البحر الذي عشقته وتمنيت أن أعيش على شطآنه حيث الشمس والهواء الطلق والحرية.. تركتماني في صحراء الوحدة الرهيبة.. والسكون القاتل.. آه.. آه.. اللعنة عليكما الويل لكما.. آه.. آه.. آه...
الراوي: وتصمم (مارتا) أن تقتل نفسها وتلحق بأمها وأخيها وفيما هي تتأهب لذلك يطرق الباب وتدخل (ماريا) زوجة (جان) سائلة عن زوجها فتقول لها مارتا..
مارتا: إنه مات.. مات..
ماريا: آه.. يا لهول ما تقولين.. يا لحزني.. أرني وجه زوجي ولو ميتاً..
مارتا: إن ذلك مستحيل.. لأنه الآن في أعماق النهر حيث ألقيته أنا وأمي بعد أن خدرناه..
ماريا: يا للفظاعة.. يا للبشاعة.. ويحك إنني أسمع من الكلمات.. ما لم يتردد قط على هذه الأرض إن عباراتك توقف مجرى الحياة في عروقي.. كأنك تتحدثين عن كائن آخر غير هذا الذي شاركني حياتي وعن تاريخ بعيد لم يكن لقلبي نصيب فيه.. ولكن.. قولي لماذا؟ لماذا فعلتما ذلك؟
مارتا: باسم من تسألينني يا هذه؟
ماريا: (صارخة) باسم حبي..
مارتا: ماذا تعني هذه الكلمة؟
ماريا: تعني ما يمزقني الآن وينهشني.. تعني ذلك الجنون الذي يهيىء يدي للقتل.. تعني مسرتي الماضية وهذا الألم الجديد الذي تجلبينه إلي.. لتعلمي أيتها المخبولة أنه لولا ذلك الشك العنيد في قلبي لعرفت ما تعني هذه الكلمة حالما تشعرين بوجهك يتمزق تحت أظافري.. هاتي أوضحي ما أريد أن أعرف جليته قبل أن تخونني شجاعتي..
مارتا: يا هذه.. جوابي إني سأشنق نفسي بعد قليل وإني أدعوك إلى أن تفعلي مثلما أفعل لتنضمي إلى زوجك في العالم الآخر.. فماذا يجدي حرصنا الشديد على الوجود ورجفة الأرواح هذه؟ وفيم اللهفة على مواجهة البحر أو على الحب.. إن زوجك يعرف الآن الجواب ولسوف تعرفينه أنت الأخرى وداعاً يا أختاه..
الراوي: وتخرج (مارتا) فتهتف (ماريا) صارخة ضارعة..
ماريا: أواه يا ربي! لا أستطيع أن أعيش، في هذه الصحراء.. إليك أوبتي فكن شفيقاً.. إسمعني يا مولاي.. خذ بيدي وارحم أولئك الذين يتحابون وأولئك الذين يكابدون آلام الفراق..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :894  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج