شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ثانياً: الحسّ المَلحمي
إن ملحمة مؤتة التي صاغها لنا الشاعر عبد الله بلخير صياغة شعرية رفيعة.. تقوم على اختيار، وتصوير المواقف البطولية التي تنبثق من الزخم الحربي، والصراع الحضاري، وتبلور خلاصة ذلك الصراع.. من خلال الآلاف المؤلفة من الناس و الوفود و الجيوش.. ومن خلال التلاحم العسكري بين القوى الكبرى.. القوة الفارسية، والقوة الرومانية، والقوة الإِسلامية.
لذلك كان الشاعر بلخير يدرك كنه هذه المسألة، ويعرف جوهر العملية الإِبداعية لمثل تلك الملحمة.. التي لا تستقيم عناصرها الفنية إلا بتجسيد بنيانها بإتقان وإحكام.
وإذا كان أول عنصر في بناء هذه الملحمة -كما مرّ بنا- هو المادة التاريخية التي عرف الشاعر كيف ينتقيها، ويكوّنها ويبلورها بحس تاريخي متألق؛ فإن الوقوف عند الأروع والأبلغ من الأحداث، وتصويرها بكامل عظمتها وشكلها بحس ملحمي مثير، هو العنصر الثاني في بناء ملحمة مؤتة.
ومن هنا وقف الشاعر عند تصوير السيادة العربية الإسلامية، وقوة جيش العدو، وعنف القتال، والمواقف البطولية النادرة من خلال التلاحم.
فأول ما يطالعنا في الملحمة انتشار الدعوة، وسيادة العرب على الدنيا بالإسلام ورسوله، ودخول الناس في دين الله أفواجا.. فقد نقل الشاعر تلك الصورة بشكل حي مثير، وبحس ملحمي تتجاوب له القلوب، وتضطرب له الأسماع حين يقول:
في أمة قد أراد الله بعثتها
إلى الورى لتقوي العرب والعجما
تنزلت فوق أكناف (السراة) بها
أي الكتاب على شوق بها وظما
فاهتزت الأرض بالخير الذي هطلت
به عليها وفاضت في الورى ديما
تجمعت حول داعيها وقائدها
(محمد) باعث الآمال والهمما
نادى فلبَّى نداه المسلمون فما
ج المشرقان ودنيا العالمين هما
تدفقت حوله الرايات خافقة
على (المدينة) تزجي الحرب والسلما
سالت مكبرة في كل منعرج
من (الجزيرة) مثل الغيث حين همى
وإن الأجواء الملحمية ليبرز تأثيرها من خلال تصوير قوة جيش الروم الكبير، وجيش المسلمين الضئيل، عندها ستتجلى بطولة المسلمين وهم في مواجهة صعبة، وموقف غير متكافىء. طالما أنهم سيصمدون، ويستبسلون، ويستشهدون:
وأن (ثيدروس) والرومان قد نزلوا
(مؤاب) في جحفل مستشرف ضخما
وأن إمدادهم يمشي (هرقل) به
من (إيليا) ومن (الجولان) خلفهما
وأنهم (مائتا ألف) وصولتهم
في أرضهم قد أحالتها لهم أجما
وأن جيش (رسول الله) عدته الـ
ـقصوى ثلاثة آلاف إذا نظما
وأنها الطامة الكبرى إذا اجتمع الـ
ـجمعان في ساحة الحرب والتحما
وإن ذلك الحس الملحمي لدى الشاعر ليتبدى لنا في المواقف الرائعة اتخذها أبطال الملحمة الأربعة: زيد، وجعفر، وعبد الله، وخالد.. وهم يسجلون صفحات ناصعة من صفحات البطولة النادرة. فكان كل بطل منهم يشخص أمامنا في وسط المعركة -وهو يقودها- فارساً مغواراً جريئاً لا مثيل له؛ ونتابع بطولات الفرسان، ونشهد تساقطهم، ونحس تجاربهم، وصمودهم، بكل ما فيها من صدق واندفاع واقتتال.. ويخيل إلينا وكأننا نتلمس نزيف جراحهم. نتمثل زيداً وقد خاض سعير الموت، يحمل رايته في يمناه، مختالاً راجزاً، حتى تناوشته رماح الروم ضرباً وطعناً. ويبلغ الحس الملحمي ذروته عند الشاعر وهو يسمو بمشهد جعفر وسط القتال المميت. ويبذل قصارى جهده الفني، وعمله الإبداعي، ليقدم لنا أعظم بطولة في تاريخ العرب الملحمي:
فهب( جعفر) يهوي فوق رايته
يهزها في اختيال الموات مبتسما
مكبراً في وجوه الروم مرتجزاً
بين الصفوف على (الشقرا) قد اقتحما
حفت به من رماح الروم أبعدها
طعناً.. ترجل منها هائجاً برما
أهوى على مهره بالسيف ضن به
أن يعتلي ظهره علج إذا غَنما
ثم استدار فدارت حوله خلق (الـ
ـرومان) والموت في أسيافهم هجما
طارت بها يده اليمنى.. فمد لهم
يسراه بالراية الغراء ملتزما
أهوى بيسراه سيف كافر فجثى
بلا ذراعين يحمـي صدره العلما
وما يزال على تكبيره هزجاً
في عزمه من رسول الله ما عزما
فمات مستشهداً تحت العجاج هز بـ
ر الغاب خير فتى في الهاشمين نما
قد مزقته المواضي والنبال وأطـ
ـراف الأسنة لما خرَّ مرتطما
وإن مما يتوج هذا الجو البطولي الملحمي هو تلك الشؤون التي نراها من معدات وأجواء الحرب والقتال.. كالراية، والفرس، والمهر، والسيف، والرمح، والأسنة والنبال… بالإضافة إلى ما كان يسمع من صيحات التكبير والرجز.
كما قد يستحيل جو المعركة إلى عالم متأجج من النيران، ولظى البراكين، والمنايا رحى تدور في المعركة، وفوق الفرسان، وعبر حمحمتهم:
ثار القتال فدارت فوق ساحته
رحى المنايا وكل حولها قحما
كأن حمحمة الفرسان صوت صدى
لظى البراكين دوَّت تقذف الحمما
ظل الفريقان في حرب مؤججة الـ
ـنيران سبعة أيام تسيل دما
وهكذا يظل لدى الشاعر عبد الله بلخير المقدرة الفنية على صياغة الأخبار البطولية، وتحويلها إلى شعر ملحمي.. من خلال تهويل قوة الجيوش وصخبها وتلاطمها، وتلاحمها، ومن خلال المشاهد التي تشترك العين برؤية براكينها ولظى نيرانها، والأذن وهي تسمع حمحمة الفرسان، وأصداء أصوات تكبيرهم وأراجيزهم.. وهم يسمون في عالم من التألق الروحي الرباني.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :953  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.