شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مُقتَطفات ممّا قالوه في عبْد الله بَلخير
ا- كتب الأستاذ عثمان الصالح في جريدة "الجزيرة" بتاريخ 29 جمادى الأولى 1400 هـ و 15 أبريل 1980م، في زاوية (رسالة إلى غائب)، يقول:
"عمر المرء علمه وشبابه.. وثمرة المرء استعماله علمه ونشره لأدبه. فإذا لم يُستعمل الشباب في العمل والنشاط والدأب فذلك شباب مضاع، ويعتبر دونما ريب على هامش الحياة.. وهذه الثمرة للمرء إذا لم تبد في علم ينشر، وأدب يستثمر، وعمل يؤثر.. فذلك علم موؤود، وأدب مفقود، وعمل وفكر منكود. وهذه الكلمات توجه إلى أديب غاب سنين طويلة. ثم لاح فترة قصيرة، ثم خبا وسكت. هذا الأديب هو الأستاذ الشاعر عبد الله بلخير. فأين هذه الغيبة؟ وأين هذا الاختفاء؟ فإن كنت بصدد التأليف، فأبرزه، وإن كان يأساً فإنه لا ييأس من روح الله، مؤمن مسلم. وما الذي يدعوك إلى اليأس وأنت الصحيح في عقله، السليم في وطنه، المعروف بفضله ونبله؟.
فانفض عن نفسك الأوهام، وتقدم إلى الأمام، وأبرز علمك والسلام".
* * *
2- وكتب الدكتور يوسف عز الدين في ملحق "الجزيرة" الأدبي بتاريخ 21 جمادى الثانية الموافق 6 مايو 1980م، كلمة عنوانها: [عبد الله بلخير.. بكل خير] ويبدو أنها من وحي كلمة (الصالح). يقول: "هزتني الكلمة الرقيقة التي كتبها الأستاذ عثمان الصالح عن الشاعر المبدع، والصديق العزيز الأستاذ عبد الله بلخير. والحق أن (أبا سبأ) رائد من رواد الأدب وشاعر شهدت له حلبات القريض بالسبق والتفوق. فقد تلمست فيها نغمات الوفاء والحب العميق للأدب والشعر والفكر. فقد كنت أتوقع أن أجد أدبه في كل مطبـوع، والحديث
عنه من كل الفضلاء، فإن شعر (أبي سبأ) خير أغاريد الشعر، وأجمل ألحان الأدب. فقد كان شعره في العراق منذ خمسين عاماً أغنيةً على كل شفةً ترددها القلوب، فقد سبر غور النفوس العربية، وهز المشاعر الوطنية بقصيدة نشرتها مجلة (الفتوة) في بغداد للأستاذ (سعدي خليل) أذكر منها:
شبه الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد
أشدو بذكراها وأهتف باسمها
في كل مجمع حافل أو نادي
منها خلقت وفي سبيل حياتها
أسعى وفي إسعادها إسعادي
كل له في من أحب صبابة
وصبابتي في (أمتي) و (بلادي)
إنه من بواكير الشعر الوطني الخالد، امتاز بجمال العبارة ورقة الأسلوب والموسيقى الخالبة. فقد تغنى قبل غيره بوحدة الأقطار العربية بقوله المشهور في تلك القصيدة التي حيا بها وفد الكشافة العراقية إلى مكة فقال:
مدّ العراق إلى الحجاز يمينه
فمشى المقام مرحباً متهادي
وترجلت صنعا وقام مرحباً
بردى يصفق بين دوح الوادي
وكان ديدني عندما وصلت الرياض أن أسعد به، وأفوز بالتحدث إليه، وأستفيد من فكره وأدبه.. وكان صاحب المكرمة في هذا اللقاء أخي الحبيب الشيخ عبد العزيز الرفاعي. فوجدت الأستاذ بلخير بكل خير يوالي نظم ملاحمه الشعرية عن التاريخ العربي الإِسلامي من بداية الدعوة الإِسلامية إلى اليوم مروراً بأهم الوقائع، حتى الأندلس في العصر الحاضر. فإلى عشاق أدبه بشرى أزفها، وسوف أكتب عنه دراسة مفصلة بإذن الله، لأعرِّف هذا الجيل بشاعر رائد.
* * *
3- وكتب الأستاذ علي حافظ في جريدة "البلاد" يوم الثلاثاء 27 ربيع الثاني 1401هـ الموافق 3 مارس 1981م، في زاوية (بعض الكلام)، كلمة بعنوان: (بلادنا كعبة القصاد ومحجة الملوك والرؤساء والرواد) تحدث فيها قائـلاً عـن
"جلسة ممتعة ضمت معالي الأستاذ الصديق عبد الله بلخير، والصديق الأستاذ أمين عبد الله، والأستاذ السيد يوسف مدني، وعلي حافظ وعثمان حافظ. وفي تلك الجلسة ولدت ندوة ناقشت أطرافاً من أحاديث السياسة والأدب والاجتماع بمناسبة ما نشر عن ندوة (المدينة العربية) التي احتضنتها المدينة المنورة.. إن فارس ميدان هذه الندوة الوليدة وبطلها هو معالي الأستاذ عبد الله بلخير، لما لديه من خبرة في دنيا الأدب والسياسة سياسة الدولة".
* * *
4- وكتب الأستاذ عبد الرحمن عبد العزيز الشبيلي في جريدة "الشرق الأوسط "، في زاوية (أبيض وأسود)، عموداً بعنوان: (وخير جليس في الزمان كتاب)، بتاريخ 4/1/1983م، تحدَّث فيه عن الأبيض قائلاً: "هو مجالس الناس يوم كان المتنبي وشعراء وعلماء زمانه هم نور المجالس والمحافل فكانوا جامعات ومعاهد متنقلة وثقافة عامة.. أوردت ذلك وأنا أنصت لبقية من خميرة الأمس في مجلس من مجالس الأمس، تعودنا أن نغشاه كل ليلة منذ أمد ليس بالقريب. والمجلس هو مجلس معالي الصديق الوفي الفاضل محمد المرشد الزعيبي أمدَّ الله في عمره، ويضم هذا المجلس خميرة تعبق رائحتها بالماضي البعيد، أمثال الأديب والشاعر والراوية المبدع الأستاذ أحمد بن علي المبارك، والأستاذ الشاعر والأديب عبد الله بلخير اللذين يعيداننا -أهل هذا العصر السيء- إلى قصص وسيرة وفحولة وعبقرية الأجداد، ويرويان بما حباهما الله به من ذاكرة وإحساس مرهف وتصوير يبلغ القمة لمجالس العظماء والعلماء وأهل الرأي في عصر أمتنا الذهبي، وكيف كانوا وبماذا يتحدثون؟ وكيف يفكرون؟ وماذا يفعلون؟ ".
* * *
5- وكتب أيضاً الأستاذ عبد الرحمن الشبيلي في جريدة "الشرق الأوسط" في زاوية (أبيض وأسود)، عموداً بعنوان: (هكذا عرفناك) بتاريخ 7/ 1/1983م. وكان العمود انطباعات عن قصيدة بلخير في زلزال اليمن، قال: "القصيدة الرائعة السامقة.. التي جاد بها الأستاذ والشاعر الفحل الكبير الشيخ عبد الله بلخير، جزعاً على ما أصاب شعب اليمن الشقيق، الشعب الـذي يختزن في أعماقه ونبوغه وفروسيته الكثير من أمجاد أمته وصفاتها. كانت قصيدة ذات رنين عميق، وأصداء داوية، رهيبة، ذكَّرتنا بالمتنبي وأبي فراس الحمداني، وأبي تمام، وشوقي، وحافظ إبراهيم.. لذلك كان لنا الحق قبل اليوم في أن نعاتبه ونرجوه أن لا يبخل على أمته. فالكلمة في هذا العصر تنزل وكأنها الغيث على الأرض المجدبة فترغمها على الحياة والعطاء.. الكلمة في هذا العصر -الذي تعز فيه الحقيقة وتندر- هي دواء للسقم وللمستعصي من الأمراض.
روح عبد الله بلخير، روح محلقة مضمخة بعصر الكرامة العربية.. مليئة بعنفوان القيم الإِسلامية.. روح تعيش في هذا العصر بالمعاناة المرة لأنها روح تختزن الماضي المشرف لهذه الأمة، كثيرون يعيشون حياتهم اليوم، ولكنهم قلة جداً أولئك الذين تذرف عيونهم الدمع سخياً عندما يخلدون للراحة، فتأبى نفوسهم الحرة إلا التحليق فوق هضاب التاريخ العربي الإِسلامي، لأنها عندما تنصت، فإنما تسمع فقط أصوات حوافر خيل المسلمين، وصليل سيوفهم، وتكبيرات جموعهم. عبد الله بلخير فارس من فرسان أمته، جعله عصره، يعتصر قلبه ويستنزف دمه إحساساً عميقاً.. وصورة صارخة لما يجب أن تكون عليه أمته.. ليس هذا بيده، وإنما هي روحه التي عشقت الأصالة والقيم والتعبير المدوي، إنه يقتلع من نفسه الكلمات الحارة الجبارة، التي يراها متجسدة في ماضي أمته، ويلقيها بكل القدرة والقوة في الأعماق السحيقة لهذا العصر، الذي غارت فيه مياه سد مأرب، ويتركها تدوي كالريح العاتية، وكالشهب المحرقة على رؤوس الشياطين. لقد سئمنا يا شيخنا الجليل سماع نعيق البوم فوق الأطلال، وتحرقنا لسماع نفير الجهاد، والفلاح.. لقد فقدت الأذن العربية سماع صليل السيوف، وليسوا بغير صليل السيوف: يجيبون صوتاً لنا أو صدى...".
* * *
6- وكتب مرة ثالثة الأستاذ عبد الرحمن الشبيلي بجريدة "الشرق الأوسط"، بتاريخ 24/1/1983م، كلمة عريضة بعنوان: (يا شاعر الأمة... ألا إن نصر الله قريب)، كانت تقطر حباً وتعاطفـاً وتجاوبـاً مع الشاعر بلخيـر..ويبدو أن الأستاذ الشبيلي قد اهتز بقوة حين راح يسمع شعر بلخير وبصوت بلخير، وبأنفاس بلخير، وازداد تأثره واهتزازه حين راح يلمح دموع الرجال في عيني بلخير.
وإن بكاء بلخير، أو لمعان الدموع في عينيه، لدليل على أن معاناته صادقة، إذ ينهل من عواطفه فيضاً حزيناً ساخنا.. كما أن [الشبيلي]، في تجاوبه وحرارته لدليل أيضاً على مقدرة شاعرنا بلخير على النفاذ إلى القلوب النقية الأصيلة.. يقول، وقد قرأ الملاحم الأندلسيات السبع وغيرها مخطوطة في ديوانه: "يا شاعر الأمة! كنت أعرف قيمة الكلمة، ولكنني عرفتها اليوم على صعيد آخر.. ومن مثلك يعرف ما تعرفه عن الكلمة، وأنت أول من أرسى طريقة إعلانها، يوم أسست وأنشأت أول صرح لها (1) .. فوق أرضك، أرض العرب والإِسلام. لهذا يا شاعر الأمة، عتبت عليك قبل اليوم، وناشدتك أن لا تبخل على أمتك بما عندك، واليوم بعد أن دوت كلماتك عن قرطبة والأندلس وصخرة بيت المقدس وصخرة جبل طارق.. اليوم بعد أن شرفتني وأسمعتني بعضها. اليوم بعد أن دمدم صوتك وتهدج وسالت دموعك، دموع الرجال، اليوم بعد أن شرفتني وأوقعتني معك فوق قمة شاهقة، شاهدت من شموخها جموح أمتي، ودوت في مسامعي أصوات تكبيراتهم خلف طارق بن زياد، ورأيت رأي العين وملء السمع رجيف الأرض تحت حوافر خيل كراديسهم وفيالقهم، وشاهدت بعيون غرقت مع عيونك بدموعها، رايات أمتي الخضر، وهي تنهب السهل والجبل فوق ظهور خيل هي الأخرى كانت شامخة بأنوفها للسماء، تشهد ملائكة الرحمن أنها هي نفسها تطلب الشهادة في سبيل الله...
يا شاعر الأمة! أنت رجل عاش روحاً ووجداناً تاريخ أمته.. أنت رجل وقفت بنفسك على كل السهول والجبال التي دارت عليها معارك أمتك المنتصرة..
يا شاعر الأمة! إن الذين لا ترتجف شفاههم ولا تدمع عيونهم ولا تبكي قلوبهم من أجل أمتهم، إنما هم يختارون لأنفسهم وأمتهم المذلة واليتم".
* * *
7- وكتب الأستاذ أحمد شريف الرفاعي بجريدة "الشرق الأوسط" مقالين عن ملحمة قرطبة بتاريخي 6و7/4/1983م، ومما قاله: "إن ملحمة قرطبة هي أولى الملاحم الأندلسية السبع التي كتبها شاعرنا الأستاذ عبد الله بلخير. وهذه الملاحم السبع يمكن أن تكون وثائق تاريخية يجب أن نقرأها، ونفتش من خلالها عن هويتنا ومصيرنا. هي أجراس إنذار من الزمان القديم إلى واقعنا العربي المعاصر، بكل تمزقاته وضراوته ومذابحه وآهاته وعاهاته. التاريخ الأندلسي في هذه الملاحم يبدو لنا ومن خلال الملحمة الأولى ملحمة قرطبة عبوراً إلى زماننا. والعبور إلى زماننا هو عبرة التاريخ في هذه الملاحم.
ويخطئ من يظن أن شاعرنا عبد الله بلخير يكتب مرثية أندلسية. الرثاء هنا ينتقل إلى الأرومة العربية والإِسلامية في زماننا، وينفخ فينا روح الحمية، ويدق نواقيس الخطر، وينبه الأجيال العربية والإِسلامية إلى ضياع محقق إذا لم نتنبه ونقاوم ما يراد من أخطار.
إن عبد الله بلخير يريد أن يقول لنا من خلال هذه الملحمة والملاحم الأندلسية الأخرى حقيقة مؤسية ومحزنة، نجد من خلالها أن الحروب الصليبية التي ظننا أنها انتهت بهزيمة الصليبين في موقعة حطين وهزيمتهم في معركة المنصورة وجلائهم عن الشرق في عهد السلطان صلاح الدين بن قلاوون.. هذه الحروب الصليبية مستمـرة. وهي لم تبـدأ في الشرق العربـي، وإنما بـدأت -حقيقة- في الأندلس بعد مصرع غرناطة ومن قبلها بأكثر من سبعمائة سنة في معركة بلاط الشهداء عام 114هـ. ولا تزال إلى يومنا هذا محتدمة في ميزان القوى الحضارية بين إسرائيل والعرب".
لقد استوعب الأستاذ أحمد الرفاعي مضمون شعر بلخير الملحمي، واستشف كنهه، وتجاوب مع روحه، وتلمس أبعاده القومية والحضارية.
* * *
8- وكتب الدكتور عبد الله محمد الغذَّامي في مجلة "اقرأ" بجـدة، العـدد (405) بتاريخ 6/4/1403 هـ، مقالاً بعنوان: (ابن الرومي في جدة)، يقول فيه: عرفته منذ الصغر عندما كنت أجلس قرب المذياع جنب والدي وهو يستمع الأخبار ويتابعها من محطة إلى محطة، ومن بين الإِذاعات كانت الإِذاعة السعودية حيث كان اسمه يتردد في نشرات الأخبار كثيراً ومعه صفة ملازمة لاسمه هي (مدير عام الإذاعة والصحافة والنشر)، وظل اسمه يطرق سمعي عبر المذياع على هذه الشاكلة حتى كبرت قليلاً وصرت أقرأ ما يقع في يدي من صحف أو كتب فوجدته مؤلفاً مشاركاً لكتاب عنوانه (وحي الصحراء). وتقف الصورة في ذهني عند هذا الحد وتمر السنون وتنأى بي ظروف الدراسة بعيداً عن بلدي ويحجب عني البعد كثيراً مما ينشر في بلدي، فلم أعد أرى من ذلك غير اليسير أو ما ينقله لنا بعض القادمين إلينا في أرض الغربة من كتب وأخبار. حتى إذا ما عدت إلى بلدي في عام 1398 هـ، كانت أيام الغربة قد مسحت كثيراً - مما لدي من ذكريات عن أدبنا المحلي، وشغلتني عنه قضايا البحث التخصصي في الأدب والنقد حتى وجدتني أعرف عن أدب الأقطار العربية المتقدمة أدبياً أكثر مما أعرف عن أدبائنا. وهذا ما جعلني أعيد نشر ما طوته الأيام وأراجع كتبي وأوراقي لأبحث في أدبنا مثلما أبحث في آداب الأقطار العربية الأخرى. ولفت نظري ما أخذت أقرأه أحياناً من قصائد عصماء أراها منشورة في بعض صحفنا وتحمل توقيع ذلك الرجل الذي كان اسمه من أبرز الأسماء التي تتردد في نشرات الأخبار السعودية، فكان لذلك وقع في نفسي يعيدها إلى أيام الطفولة وذكريات الخطوة الأولى. فأخذت أتساءل عن هذا الشاعر وأسأل عنه إلى أن جاءني الأخ الأديب عبد الرحمن المعمر وأخذ يحدثني عن الأدب وأهله وذكر لي من بين من ذكر معالي الأستاذ عبد الله بلخير، فقلت له: زدني عنه حديثاً فأفاض يحدثني عن علمه وفضله وأدبه فزادني شوقاً إلى معرفته والتعرف على أدبه فمعاليه هو صاحب تلك الذكرى الجميلة، وها هو الآن عندي في جدة وأستطيع أن أراه وأن أتحدث إليه ولم أعد بحاجة إلى المذياع لكي يردد اسمه على مسمعي.
وبينما كنت أتهيأ للاتصال بمعاليه إذا بي أفاجأ بالأخ الدكتور أحمد السومحي يتحدث إلي عن معاليه، ويقول إنه على صلة وثيقة به، فطربت لذلك طرباً شديداً وعجبت لأمري وأمره فما أن يخطر ببالي حتى يأتيني من يشدني إليه ويقربني نحوه. وهكذا يتم لقاؤنا فكان لقاء وأي لقاء.
ذهبنا أنا والأخ الدكتور السومحي إلى دار معاليه العامرة فتلقانا بأحر الود والترحاب وما إن جلسنا حتى بادرته، وقلت له: إني أعرفك منذ عهد الطفولة وقد جئتك الليلة لأسمع أشعارك وهذا مطلب لا أقبل المساومة فيه، فرحب أجمل ترحيب وقام وأحضر بعض الأوراق وأخذ يلقي علينا من شعره. فبدأ بقصيدة عن سويسرا وأتبعها بقصيدة عن مدينة القيروان، وأخرى عن شبه جزيرة (سبتة) بالمغرب، ورابعة عن (هيلاسلاسي). وهذه قصائد أربع أخذت قراءتها أكثر من ساعة وذلك أنها قصائد لا ككل قصائد الشعر، وإنما هي مطولات شعرية أوهي ملاحم على المعنى العربي للكلمة، ولكن أي ملاحم هـي من حيث طولها، وهو طول يتجاوز طول أي ملحمة من الملاحـم التي أوردهـا أبو زيد القرشي في كتابه جمهرة أشعار العرب للفـرزدق وجريـر وغيرهمـا من الشعراء.
إن ملاحم عبد الله بلخير تفوق كل ملاحم القرشي طولاً، وهي في ذلك شبيهة بقصائد ابن الرومي في طول نفسها - وصفة الطول ليست هي الميزة الوحيدة لما سمعناه من قصائد في تلك الليلة، حيث إن القصيدة عند شاعرنا كانت بمثابة البلاغ التاريخي يعبر عنه الشاعر بمواقف شعرية تقوم على الوصف التشخيصي للحالة، وتتعدد الصور في القصيدة الواحدة لتتحول القصيدة إلى ملحمة تتشكل فيها الأدوار وتتعدد لتحدث تأثيراً في السامع سينقله إلى عالم القصيدة ليتفاعل معها. ولقد دهشت من رصانة أسلوب الشاعر وجزالته وانسياب أبيات قصائده بين يديه -على الرغم من طولها- دون أن تشعر بأي تعسف أو استدعاء للشعر في قصائده، وكأن الفصحى لغة شربها مع لبن أمه ولم يتعلمها تعلماً.
ولم أرَ القافية تلين وتسهل في شعر معاصر كسهولتها في شعر عبد الله بلخير الذي سمعناه، اللهم إلاَّ في شعر معروف الرصافي. ومن هيئت له قراءة شعر شاعرنا فسيرى ذلك جلياً.
أما قدرة الشاعر على التشخيص فهي أبرز ما في قصائده، وهي التي تبرر طول القصائد وتجعل الطول مدلولاً فنياً ذا أبعاد شعرية صادقة. والقصائد الأربع كما هو واضح من عناوينها هي صور لمواقف وجدانية وقفها الشاعر على مفترق الزمن فالقيروان وسبتة يمثلان المجد التليد للأمة، وسويسرا تمثل التحدي العصري لنا كما أن (هيلاسلاسي) يمثل الإهانة التاريخية لنا حيث إنه كان يعلن أن رسالته هي تنصير المسلمين في بلاده مع أنه ذليل وفقير. والشاعر هنا يقف ليخاطب التاريخ ويستصرخ الأمجاد الماضية، وكأنه يوقظنا من رقدتنا، وفي نفس الوقت يعلن براءته ليأسه منا. وهذا موقف فيه من القسوة على ضمير الشاعر ما فيه. ولذلك، فإن الشاعر يلجأ إلى التاريخ لاستلهام صوره المشرقة، ويتفنن في تشخيص هذه الصور ولا يعوزه التهكم والسخرية إذا احتاج الموقف إليهما، إلاَّ أنه لا يلبث أن يمطر سامعه بدفق عاطفي هائل من المسألة الوجدانية الصارخة وكأنه يحاكم العصر ويهدد بإطلاق الحكم علينا جميعاً على مشهد من التاريخ الذي تم استحضاره على يدي الشاعر في مواقف متتالية من ملحمته.
وبذلك فالقصيدة عنده لحظة زمنية ترتفع فوق الحاضر وتتمدد على التاريخ لتستنجد به كي يعبر بها نحو غد تتفنن روح الشاعر في رسمه، مستعيناً بثقافة عربية واسعة وخبرة شخصية مارس فيها عبد الله بلخير التاريخ مباشرة في عمله مع الملك عبد العزيز والملك سعود ثم مع الملك فيصل رحمهم الله، فتجلت ثقافته وخبرته في طموح فني في شعره، حول فيه التاريخ إلى تجربة شعرية ظلت له هاجساً حتى استحوذت عليه، فصارت تنهال على شفتيه شعراً فياضاً، فيه متعة فنية بقدر ما فيه من لوعة وحسرة على إنسان اليوم.
وعلى الرغم من أن الشاعر يسترسل أحياناً في تفصيلات قد يراها السمع ترفاً لغوياً من الممكن إيجازه إلاَّ أن قصائد بلخير أعمال فنية مطولة يكتشف مستمعها في النهاية أن لكل كلمة فيها دورا أساسيا في بناء الصورة العامة للملحمة. إنني أطلق أحكامي هنا على شعر هو حتى الآن رهين محبسـه - وهو محبس اختياري بقرار من الشاعر نفسه. وكم أحس بأنني أظلم القارىء حينما أحدثه عن شعر لم يره. ولست أفعل هذا جهلاً مني بوظيفة النقد الحقيقية التي تجعل العمل المنقود وثيقة أولى يكون القارىء ملماً بها مثل المؤلف تماماً. ولكنني أفعل ذلك لأضع شاعرنا معالي الشيخ عبد الله بلخير أمام مسؤوليته التاريخية، فأطالبه بأن يسمع الناس شعره مثلما أسمعه لي، وليس كل الناس بقادرين على طرق باب شاعرنا لكي يستمعوا إليه، وإذاً تصبح المسؤولية على شاعرنا كبيرة ولا يحلها إلاَّ أن ينشر ديوانه ويخرجه للناس.
إن الظلام الذي يعيش فيه شعر حمزة شحاتة رحمه الله لهو ظلام ظالم حرم جيلنا من الاطلاع على شعر أبرز شاعر من الرواد. ولن نغفر أبداً لأولئك الذين منعوا طبع ديوانه في أحد النوادي الأدبية مؤخراً. كما أننا لن نقبل أبداً في أن يمتد الظلام ليلف شعر عبد الله بلخير. ونحن نطالب شاعرنا الكبير في أن يفك إِسار شعره، فالقصيدة إذا كتبت تصبح ملك الأمة، ولا سلطان للشاعر عليها، واحتباسها ظلم وعدوان، وأنت أيها الشاعر المجيد لست بظالم ولا معتد ولكنك بحاجة إلى صك براءة وصك البراءة هو أن تنشر شعرك.
وتلك ليلة أحسست فيها وكأنني أستمع إلى ابن الرومي في طول نفسه وجلال لغته وسلاستها، وفي قدرته على التشخيص واستنباط الصور ذات الفيض المتدفق حتى كأن "بلخير" أخذ على عاتقه إكمال رسالة ابن الرومي والفارق بينهما أن ابن الرومي أذاع شعره على أهل عصره أما عبد الله بلخير فلم يفعل بعد.
* * *
9- ما قيل وكتب عن الشاعر بلخير في جريدتي "عكاظ"، العدد [ 6086] تاريخ 14 ربيع الثاني 1403 هـ، وفي "المدينـة" العـدد [5806]، تاريـخ 1 جمادى الأولى 1403هـ، في ندوة احتفال وتكريم للشاعر بمنزل الأستاذ عبد المقصود خوجة.
وقد أشاد بالشاعر كل من الأستاذ عبد المقصود (مقدم الحفل) والأديب محمد حسين زيدان، والأستاذ علي [فدعق]، (عن ذكريات الأصدقاء)، والشاعر مقبل العيسى. ثم كلمة وشعر من بلخير نفسه.
ونورد ما كتب في الجريدتين لما في الواحدة من تكملة لما تجاوزته الأخرى:
أولاً- "عكاظ ": تكريماً لمعالي الشيخ عبد الله بلخير، أقام الشيخ عبد المقصود خوجه بداره العامر "الاثنينية" حفلة أدبية رائعة جمعت نخبة من وجوه الثقافة والفكر والأدب السعودي قدم لها الأستاذ عبد المقصود خوجه قائلاً:
إنني أحييكم جميعاً أجمل تحية وأشكر لمعالي الشيخ عبد الله بلخير تلبيته لحفل هذه الليلة كما أشكركم جميعاً لتشريفكم بمشاركتنا الاحتفاء بمعاليه.
لقد كان معالي الشيخ عبد الله بلخير أخاً عزيزاً وصديقاً حميماً لوالدي المرحوم محمد سعيد عبد المقصود، ولقد ربطت بينهما أواصر من الصداقة والمحبة والود كان بعض نتاجها صدور كتاب -وحي الصحراء- وبانتقال والدي رحمه الله تشرفت بانتقال هذه الصداقة إليه، ولقد كان معالي الشيخ ولا يزال الوالد الكبير والموجه القدير والصديق قبل كل شيء... تعلمت منه الكثير ولا أزال وقد تركت الكثير في نفسي من الأثر الطيب الذي أعتز وأفتخر به وأقول هذا عرفاناً بجميله وفضله في كل وقت ومكان.
الشاعر والأديب
ثم يقول الشيخ عبد المقصود:
أما معالي الشيخ عبد الله بلخير الشاعر الكبير والأديب القدير ورجل الدولة الذي تقلب في مناصب عديدة كان لها الأثر الكبير في تاريخ هذا البلد، إذ عمل فترة طويلة مع جلالة الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل رحمهم الله جميعاً، وهذا ما لا يستطيع مثلي أن يتحدث عنه وإنها لمناسبة كريمة أن يوجد بيننا مؤرخنا الجليل وأستاذنا القدير محمد حسين زيدان الذي يسعدني أن يتحدث عن معالي الشيخ عبد الله بلخير شاعراً وأديباً ورجل دولة، وقبل أن أترك المايكرفون أرجو من معاليه أن يمتعنا في هذه الأمسية.. بترجمة عن حياته ولادة ونشأة وشعراً وكرجل دولة.. ولا يسعدني إلاَّ أن أقول إن معاليـه جدير بالتكريم والتقدير والحفاوة وهذا مني جهد المقل الذي يقدمه تلميذ لأستاذه وابن لوالده فله ولكم جميعاً الشكر الجزيل.
أو كلما وردت "عكاظ" قبيلة
ثم تحدث بعد ذلك الأستاذ محمد حسين زيدان، فقال:
ما كنت معداً نفسي لأن ألقي كلمة في تكريم الشيخ عبد الله بلخير، ولكنني فوجئت بهذا الطلب من الابن العزيز الغالي عبد المقصود، وكأني ذلك الذي قال:
أو كلما وردت "عكاظ " قبيلة
بعثوا إلي خطيبهم يتوسم
فعبد الله بلخير أعرفه ولا أعرفه.. أعرف أثره ولا أعرف التأثير الذي حصل منه على هذه المكانة، لكنني أعرف تأثيراً واحداً هو أن عبد الله بلخير وأمثاله قد أعطوا "للفلاح" أن تكون بصمتها ظاهرة علينا.. فـ "الفلاح" في مكة لها بصمات على أبناء مكة ومنهم عبد الله بلخير الذي التحق أيضاً بالقصر الملكي عند الملك عبد العزيز يرحمه الله كلاقط للإِذاعة.. فكان يأخذ من الراديو ويقرأ الأخبار للملك عبد العزيز، وما كان كل من عمل لدى الملك عبد العزيز يستطيع أن يستديم العمل معه أو أن يعيش فترة طويلة معه.. ذلك لأن الملك عبد العزيز كان يطاق بحلمه ولا يطاق بغضبه، ولا أدري كيف تسنى لعبد الله بلخير أن يتحمل هذه الطاقة ولكنه أحيط برجال يقدرونه ويعرفونه.. وعبد الله بلخير عندما كان شاعراً حفظت له هذا البيت:
ليس في الأرض للضعيف حقوق
إنما الحق للقوي استداما
السائح ابن بطوطة
يقول الزيدان: كنا نقرأ له يوم كان لا يضن بشعره، ولكن الشعر الكثير الذي ملأ الدفاتر أصبح عبد الله بلخير ضنيناً به بينما هو حافل بالذكريات.. وكلنا ما كان يعرف أن عبد الله بلخير قد أمضى السنوات الكثيرة سائحاً كأنـه -ابن بطوطة- ليس المؤرخ وإنما -ابن بطوطة- الشاعر.. زار كل أثر إسلامي وكل من إذا ذُكِر بَكَتْه العيـن.. زار الأندلس والمغـرب كله.. حتـى يوغسلافيا قد زارها فأثرت فيه، ولكن ذلك ما ضن به، كأنه يحتفل بنا إذ يضن علينا. من هنا ألزمه أن يبيح نشر ما كتب من هذه القصائد المطولة في قرطبة وغرناطة وفي بلنسية وفي الجزائر وفي فاس، وفي تلك التي إذا ما ذكرناها ذكرنا ماضياً مجيداً.. ذكرنا العربي الفاتح.. ذكرنا العربي الذي علم اللغة. فلنا في الشمال الأفريقي تأثيران أو ثلاثة، التأثير الأول تأثير الفتح ولم يُعرِّب كثيراً، والثاني هو تأثير التعريب وهو تأثير بني هلال وبني سليم، والمؤثر بين هذين هو تمسك المغاربة بمذهب أهل المدينة المنورة.. لأنهم يحبون هذه الأرض ويحبون إنسانها.. تمسكوا بمذهب مالك وتمسكوا بقراءة نافع...
ولعل الأستاذ عبد الله بلخير يطري المغرب بما يستحق.. ويطري الأندلس بما يستحق وأن الذين عرفوا الأندلس يذكرهم التاريخ.. ولعل أستاذنا محمود الصواف يعرف هذه القصة:
يا راتعين وراء البحر في دعة
لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس
فقد سرى بحديث القوم ركبان
لقد كان هذا الشاعر يخاطب سلطاناً عظيماً له بواخر في البحر تخافها أوروبا وله جيش فتح (البلقان) وغزا (النمسا) فأطلق إمبراطور فرنسا الأسير من أجل عشيقته الإِفرنسية، ولكن معشوقه الإِسلام في الأندلس عقه وتركه.. ما أنجد الأندلسيين مع أنه لو أرسل البواخر فارغة وحمل المجاهدين المغاربة لأنقذ الأندلس.. والتاريخ يسجل العار على كل خوان، لقد ذكرني بذلك الأستاذ عبد الله بلخير... رجل الخير الذي عرفناه وزيراً للإِعلام وعرفناه في حاشية الملك يستطيع أن يضر ولا ينفع ولكنه قد نفع وما أضر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليت الغزاوي كان معنا
ثم تقدم الأستاذ عبد الله بلخير فألقى كلمة شكر حيَّا فيها الأستاذ عبد المقصود على حسن دعوته، كما شكر الأستاذ محمد حسين زيدان شكراً صادراً من صميم القلب على تقدمته، وقال:
أتمنى أن أكون من خير الناس ثقافة وإلقاء وعلماً.. ولكنني أخجل ولا أستطيع أن أجاري هذا الرجل العظيم في إلقائه، ولو كنت ألقيت كلمتي قبل ذلك لكان خيراً لي ولكن هذا ما حصل.
ثم قال: ما كنت أظن أن يكون الاجتماع بمثل هذا المستوى الحافل بهؤلاء الناس من أفاضل الرجال وأفلاذ أكباد هذه البلاد، ولكن عبد المقصود لمحبته لي ألزمني بأن ألقي شيئاً وأن أتكلم، فقلت له: كل شيء إلاَّ هذا، فقال لي: إننا عندما قررنا الدعوة لتكريمك لم نستأذنك، لأنني أعرف أننا لو أخبرناك لما قبلت، وإنما بلغنا الناس وحددنا اليوم ثم أخبرناك بأن هذا المساء سيكون لقاء عادياً لكي تلقي شيئاً للجماعة والإِخوان، فوجدت بعض أشياء لا أعرف إذا ما كانت في مستوى هذا الحفل أم لا.
وأفاض عن ذكرياته، فقال: لقد ذكر الأستاذ الزيدان مكة المكرمة، وذكر نشأتي فيها وهذه مسألة تحرك نياط قلبي وأنا عاشق للحجاز ومكة المكرمة والمدينة المنورة، وكنت أتمنى لو أن صديقي وأخي عباس غزاوي كان موجوداً معنا ليقرأ عني ما أريد أن أقوله لكم.
ثم تطرق معالي الشيخ عبد الله بلخير إلى ذكرياته عن النشأة منذ أن كان طالباً بمدرسة الفلاح وحتى تدرج في جميع مواقعه في عالم الأدب ودواوين الدولة. وأطرب الحاضرين بقريضه الرصين الذي كان يقاطع بالتصفيق وكلمات الإِطراء والإِعجاب منهم.
وحيث قال إن المقصود بالحبيبة هي مكة المكرمة، وكما قال الأستاذ الكبير الزيدان: فإنني قد وقفت في العالم تقريباً على كل بلد إسلامية وأنشأت فيها قصيدة طويلة وخلال ثلاثين سنة، فقد وقفت في قرطبة وفي غرناطة وفي أشبيلية وطنجة وفاس والقيروان وتلمسان وفي تركيا... إلخ البلدان، وفي هذا المقام سوف أذكر قصيدة واحدة عن قرطبة.
ثم دار الحديث عن سبتة، فقال: ومكثت بها أسبوعين وركبت إليها البحر قادماً من برشلونة، وقلت فيها قصيدة وهي محجة علماء العدوتين وكل من هاجر إلى الأندلس في زمانها الماضي والحاضر يمر عليها وله فيها دار ومن هؤلاء القاضي عياض وابن خلدون وكل أعلام الحديث، وأعلام الحديث لهم دور في سبتة.
وأنتقل من قرطبة ونأتي إلى مكة لأن السيد علوي مالكي أستاذي ومن رباني، فأقول: إنني قد تجولت ووجدت شيئاً طويلاً عريضاً في الشارع والقرى وأقول:
رأيت شيخاً توجهت نحوه
فألفيته كالرمح يهتز أسمرا
ثم استطرد فقال: إن بقية قصائدي في فاس وتونس وجبل طارق وسبتة كلها على نفس هذا النفس والوصف التاريخي لأنني آخذ من التاريخ وأعب منه عباً، وأتمنى -كما عملت الأناشيد المدرسية منذ خمسين عاما فانتشرت- أن تقرأ الأجيال في يوم من الأيام هذا الشعر والقصائد. ثم سأله الزيدان: هذه ليلتك فأرجو ألا تفوتك الفرصة، أجابه بلخير: لقد نظمت قصيدة أخرى عن أطلال (البترا) بالأردن وبما أن الليلة ليلتي فسوف أدع التواضع، ثم ألقى عليهم قصيدة -قرطبة- ومنها:
ترامى بي الشوق الملح مغربا
لعاصمة الإِسلام في الغرب (قرطبا)
إلى أن قال وهو يصف أنوارها وهضابها بالليل:
وصبح مسرانا فحط قطارنا
في أندلس الإِسلام أهلاً ومرحبا
* * *
ثانيا- "المدينة" بعد عقده لندوات الاحتفال بالأستاذ عبد القدوس الأنصاري والشاعر الكبير طاهر زمخشري وغيرهما من الأدباء.. واستكمالاً لمعاني المودة التي يجب أن تنتشر بين الأدباء لخلق الأجواء الصالحة لتطور الثقافة والأدب في المملكة... عقد الأستاذ عبد المقصود خوجه في منزله ندوة احتفال وتكريم للشاعر المعروف الأستاذ عبد الله بلخير ننقل ما دار فيها:
كلمة الافتتاح
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.. إنها لمن أكرم وأنبل المناسبات أن يكون جمعكم في هذه الليلة وهذه الأمسية الطيبة على شرف شخص، الكل فينا يعتـز
بوجوده بيننا ومعنا، لأنه رافد من روافد الخير لهذا البلد، فقد ساهم مساهمة مشهودة في مجالات مختلفة كلها بقيت نماء في نفوسنا وحباً وإعزازا نكبر فيه ما قام به خلال فترة حياته العملية ولا يزال يعيش بيننا في صحة وعافية.. معالي الشيخ عبد الله بلخير هو شخصية هذه الأمسية.. هو المحتفى به هو الشخص الذي نحمله ونحمل له كل محبة وتقدير في قلوبنا جميعاً..
المحتفي والداعي لهذا اللقاء هو الأستاذ صاحب الأريحية الطيبة الأستاذ عبد المقصود خوجه الذي لا أرى إلاَّ أن أترك له الميكروفون ليقول كلمة البداية في حضور المحتفى به معالي الشيخ عبد الله بلخير: ثم تكلم الأستـاذ علي فدعق عن:
ذكريات الأصدقاء
فقال: أولاً أنا أشكر وأثني ثناء عاطراً على الأستاذ محمد سعيد خوجه الذي أتاح ويتيح لنا فرصاً ذهبية يمارس فيها أصحاب القلم وأصحاب الفكر مادتهم ومبادراتهم، ويسعدني أن أقول كلمة صغيرة بعدما أمتعنا معالي الأخ الزميل الأستاذ عبد الله بلخير "أبو يعرب" إمتاعاً شعرياً وإمتاعاً من الذكريات.. وأنا الآن أتحدث إليكم وأنا صادق كما قال الأخ عبد الله بلخير: إني أعيش قبل أربعين عاماً الآن لأني أرى أمامي طاهر زمخشري والسيد معتوق حسنين والأخ عبد الله بلخير وأتذكر نزهات "الفلاح" ومبادرتنا الصغيرة الأدبية أيام "الفلاح".. عبد الله بلخير أيها السادة كرّم قبل أربعين عاماً أيضاً.. طبعاً يختلف التكريم الآن عن التكريم قبل أربعين عاماً.. كنت مع زملاء لي في مدرسة الفلاح أردنا أن نكرم الأستاذ عبد الله بلخير لشعره الممتع فانتدبني إخواني أن أقول بعض أبيات شعر في الأستاذ عبد الله فتفضل وجاء إلى الصف في مدرسة الفلاح وكنت أنا في السنة السادسة ابتدائي على ما أذكر، وكان الأستاذ عبد الله في السنة الثامنة.. سئل أعرابي: كم سنك؟ فقال: صحتي جيدة.
فتحلقنا وأعتقد أن الأستاذ عبد الله عبد الجبار معنا وبعض إخواننا الأدباء، وجاء الأستاذ أبو الخير وصفقنا له وانتدبوني لأن أقول شعراً وكنت أحاول محاولات صغيرة، فقلت بعض الأبيات وأظن أن الأستاذ عبد الله يذكرها وهذا الكلام قبل أربعين عاماً بالضبط.. قلت:
كرم الشعر وحيي بالقلم
شاعراً أوقظ في القوم همم
يا أبا الخير وقد أسمعتنا
شعرك الحي كأصداء النغم
ولا بد أنكم سمعتم القصائد التي تعتبر نحتاً من صخر وهزتكم جميعاً وأدخلتنا أروقة التاريخ وأعادتنا إلى ماض مجيد سحيق... هذا ما كنت أريد أن أقوله.. وبقيت صديقاً لعبد الله بلخير أربعين عاماً ولا زلت وسأبقى كما أعتقد إلى آخر نفسي.. فافترقنا أو تركنا بعضنا فترة وكانت للدراسة فذهب عبد الله بلخير إلى بيروت، وهذا لم يذكره في الجامعة الأميركية وذهبت أنا إلى العراق وطال بنا البعاد، ثم التقينا في بغداد في ردهة من ردهات دار المعلمين الابتدائية وأبى وفاء عبد الله بلخير وحبه لإِخوانه وحدبه عليهم إلاَّ أن يأتي إلى القسم الداخلي حيث كنت ويزورني.. وأنا كنت قد قرأت بالجرائد أن هناك بعثة من الجامعة الأميركية جاءت لتزور بغداد والعراق ولا أكتمكم أن عبد الله بلخير كان من رواد القومية العربية، وأعتقد أنه لا زال بل كان أقوى مما هو عليه الآن.. فالتقينا هناك وتبادلنا الحديث وكان عبد الله نجم البعثة التي ابتعثتها الجامعة الأميركية للسلام على بغداد ورجالها.. ثم افترقنا ثم التقينا مرة أخرى.. والتقيت به مرة أخرى كموظف في وزارة الإِعلام أو عنده في دار الصحافة والنشر، وامتلأت جوانح نفسي من عبد الله بلخير أخوة ومروءة ووفاء وأيضاً أدباً.. فكنت أنظم بعض الشعر وأعرضه عليه باعتباره طبعاً أكثر شعراً مني وأروع.. على كل حال أنا لا أريد أن أطيل عليكم بعد أن سمعتم واستمتعتم واستمتعت أنا أيضاً بذكريات الأستاذ عبد الله بلخير وكانت ذكريات لطيفة فعلاً وهذه من ذكرياتي مع الأستاذ عبد الله بلخير أردت أن أقولها لكم وأشكر مرة أخرى الأستاذ عبد المقصود محمد سعيد خوجه على هذه الأمسية الجميلة وشكراً جزيلاً لكم.
ما دامت هذه الأمسية قد عبقت بأريج من الشعر وسحنا معها في وجدانيات هي وجدان الإِنسان العربي المخلص الذي يرنو إلى تطلعات حضارية تعيد إلى هذه الأمة مجدها وبريقها اللامع.. فمسك الختام أيضاً سيكون هدية شعرية من شاعرنا الشاعر مقبل العيسى:
كلمة مقبل العيسى
الأستاذ عبد الله بلخير لا شك أنه من رواد الشعر في المملكة العربية السعودية، وأنا عندما كنت شاباً في تحضير البعثات قرأت له قصيدة مطلعها:
شبه الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد
لا شك أنني كلما قابلت أبو يعرب أتذكر هذا البيت لأنه فعلاً يصور آمال وتطلعات الأمة العربية في ذلك الوقت حيث كان التحمس للقومية العربية لأنها هي التي تطلع إليها العرب كلهم والمسلمون، فأنا هذه قصيدتي موضوعها يدور حول هذا البيت:
شبه الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد
بيت من الشعر لن أنساه في خلدي
أرهفت سمعي له يوماً بأجياد
لازلت أذكره رغم النوى زمناً
وهل تغورنجوم الملهم الشادي
آمنت بالشعر إلهاماً وموهبة
تحكي الصبابات من أعمال رواد
من يلهم الطير شدواً في خمائله
إلاَّ ترنم مشتاق بأمجاد
المجد للشعر مجدولاً بقافية
تشتاق منها الغواني جر إبراد
المجد للشعر لا للنثر يرسله
دَعيُّ شعر إذا ما ضمه النادي
من يسرج الخيل لا يخشى تقحمه
فكراً شروداً ومعنى غير منقاد
يا مبدع الشعر آفاقاً مجنحة
نجوى الحمائم أكباد لأكباد
أغلى الرياحين أهديها لما نقشت
منك الحروف لأجيال وأحفاد
بيت من الشعر يشجيني ويطربني
قد صغت منه ترانيمي وأورادي
أشتاق منه حياة ما نذرت لها
إلاَّ الورود وما أخفى لأعياد
أشتاق منه حياة لا يكدرها
دعوى الجهالات أو كيد لحساد
لكن قومي لداعي الحق ما التفتوا
بل فضلوا التيه في صحراء جلعاد
لهم حياة وإن كانت لمذبحة
لهم شبات وإن كانت لجلاد
فلا ترى العين إلاَّ كل مَسْأَمَةٍ
أو تسمع الأذن إلاَّ صوت إلحاد
القيد تدمي أكفاً آمنت بهدى
فالسيف منها وإن فرت بمرصاد
حتى استبد بنا الأعداء وانسلخت
للتائهين قرون أرض ميعاد
يا صانع الشعر آفاقاً مجنحة
تهدي الحيارى إلى أبعاد أبعاد
كل التباريح قد تشفى بعافية
إلاَّ تباريح محكوم بأصفاد
مقدِّم الحفل
معالي المحتفى به الشيخ عبد الله بلخير لا شك أنك كنت الوقود الذي أهدى هذه الشمعة نورها وضوءها الذي يلفنا جميعاً، ولن ننسى هذه اللحظات السعيدة التي عشناها في كنف ذكرياتك وسمعنا شيئاً من وجدانك ونرجو أن يمتد بك العمر لترى كل أمانيك وقد أصبحت شيئاً مجسداً في كل أبناء الأمة العربية والإِسلامية.. شكراً لهذه المناسبة.. وإلى اللقاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *
10- وذكرت مجلة "الأربعاء" في العدد العاشر، وتاريخ 23/6/1403 هـ، ص 40 خبراً بعنوان: (على ذمة المعمر)، جاء فيه:
"في رأيه أن الشاعر الكبير عبد الله بلخير هو من فحول الشعر ليس في المملكة فحسب، بل في كافة أنحاء الوطن العربي، وقليل أن تنجب أمتنا العربية مثل هذا الشاعر!.
هذا ما يراه الأستاذ الأديب عبد الرحمن المعمر، الذي لا يخفي إعجابه الشديد بالشاعر بلخير، حيث قال في إحدى المناسبات التي جمعت عدداً كبيراً من أهل الأدب والصحافة: إن عبد الله بلخير تجمعت فيه صفات ومزايا كثيرة قل أن توجد في غيره من الشعراء، فهو متحدث وصاحب شخصية قوية وثقافة واسعة خاصة بالتراث، ودبلوماسي بارع، إلى جانب موهبته الأصيلة في الشعر.. ورغم ذلك فلم ينل حقه من الاهتمام والانتشار. وتمنى المعمر أن يلقى شعر بلخير بعض الاهتمام والدراسة والبحث حتى يتعرف عليه الناس أكثر، فلا تكفي حفاوة جريدة "الشرق الأوسط" وحدها".
* * *
"أ بيض وأسود"
هشام ومحمد على حافظ
كان يحكي -على طريقته- بحماسة وإخلاص وإيمان، وكان موضوع حديثه موقعة (مؤتة) بشرق الأردن والتي قتل فيها ثلاثة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّرهم الواحد تلو الآخر وحدد أسماءهم قبل أن ينطلقوا من المدينة المنورة، وكان أحدهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
وعندما تمكن ذلك الجيش من الإِفلات من حصار الروم بقيادة خالد بن الوليد سيف الله المسلول والرجوع إلى المدينة المنورة. وخروج رجال ونساء المدينة لاستقبال الجيش المنسحب والرسول عليه الصلاة والسلام بينهم يحمل أطفال ابن عمه جعفر بن أبي طالب.. عند هذا الحد توقف فجأة عن الحديث وفمه مفتوح ولسانه معلق يريد الاستمرار، ولكنه بدل أن يستمر في الحديث أجهش بالبكاء. وكان كما نعتقد يتصور بخياله الشاعري وحسه المرهف وإيمانه العميق، مدى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة المنورة على شهداء المسلمين في أول موقعة يخرجون فيها إلى خارج الجزيرة العربية لنصرة الإِسلام وقبل فتح مكة المكرمة.
هذا هو شاعر الأمة الإِسلامية في الوقت الحاضر وباني ملامحها شطراً شطراً وبيتاً بيتاً الأستاذ الكبير عبد الله بلخير.
وعبد الله بلخير غني عن التعريف فهو كرجل دولة عاصر جميع ملوك المملكة العربية السعودية وعمل مع أغلبهم، معروف إسلامياً وعربياً ودولياً، وهو كأديب وشاعر معروف أيضاً بأنه شاعر الملاحم الكبير الذي لا يشق له غبار، وقراء "الشرق الأوسط" استمتعوا بالملاحم التي نشرتها له عن الأندلس والمواقع الفاصلة في تاريخ الإِسلام والعرب في أوروبا.
الملحمة التي ستنشرها "الشرق الأوسط" قريباً هي عن موقعة (مؤتة) التي كان يتحدث إلينا عنها، وهو -أي شاعر الأمة- لا ينظم ملاحمـه إلاَّ بعـد أن
يزور مواقعها وتتشرب نفسه بأحداثها وحوادثها ويرى على الطبيعة المكشوفة آثارها.
وهذا ما فعله في (مؤتة)، وبفضل زيارته لذلك الموقع وحماسته لحماية آثارها قررت الحكومة الأردنية بناء كلية حربية في ذلك السهل الذي جرت فيه المعارك التي استشهد فيها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد تمكنا من إقناع رجل الدولة السابق وأول وزير للإِعلام في المملكة العربية السعودية وشاعر الأمة في الوقت الحاضر بالحديث.
وحديث عبد الله بلخير الذي بدأناه سيكون تحت عنوان: (عبد الله بلخير يتذكر).
وعبد الله بلخير عندما يتذكر فستسمعون ما يفيدكم وتقرؤون ما يمتعكم، بالإِضافة إلى العبر والدروس التي ستضاف إلى كنوز الفكر والمعرفة والأدب العربي والإِسلامي.
يكفي أن يعرف القراء أن عبد الله بلخير عمل مترجماً لمؤسس المملكة العربية السعودية وموحد الجزيرة العربية المغفور له الملك عبد العزيز، وهو شاهد على الأحداث الجسام والحوادث الرائعة التي تفسر وتوضح عظمة ذلك العبقري الفذ وإنسانيته وإيمانه، وصلابته في الحق وسماحته وتسامحه مع الغير عندما يكون قادراً.
لن نسبق عبد الله بلخير ونحدثكم حديثه، فنحن غير قادرين على ذلك، ونحن ننتظر معكم ملحمته الرائعة أو ملاحمه الرائعة وكذلك ذكرياته العريضة المليئة بالآثار المتوقدة بالعبر والدروس.
والله الموفق.
* * *
"مع الفجر"
عبد الله عمر خياط
عندما سألت معالي الأستاذ الكبير الشاعر عبد الله بلخير على صفحـات هذه الجريدة عن اللقب الذي تُزين جريدة "الشرق الأوسط" به ذكرياته.. وما تنشره له من الروائع الشعرية.. ومدى استساغته له.. لم يكن تساؤلي إلاَّ من منطلق المحبة والتقدير.. بل والاعتراف بالشاعرية الرائدة لمعاليه.. وقد أدرك معاليه ذلك مشكوراً فكتب إجابته التي حرصت على نشرها على الفور رغم تهمة السنين التي ألصقها بي.. ليقيني بأنها مداعبة والد لابنه.. وانتهى الموضوع.. ولكن نفراً من الأصدقاء الألداء سامحهم الله.. حاولـوا أن يعملوا من الحبة قبة ويتخذوا من ذلك التساؤل طريقاً للغمز واللمز.. ولكن وللمرة الثانية فقد عرف معالي الشيخ عبد الله بلخير جـزاه الله خيراً اللعبـة فقتلهـا في مكمنها.
ولهؤلاء.. وأولئك أقول بأني وإن سألت معاليه.. فإن ذلك لم يكن إلاَّ مجرد تساؤل صحفي عابر من صحفي جوال انتهى بالنشر.. وإن محبتي وتقديري للأستاذ بلخير أكبر من الظن الذي يلوب في بعض النفوس.
فلقد قرأت شعر الأستاذ بلخير من ثلاثين عاماً أو تزيد.. قرأته في "وحي الصحراء" وحفظت منه كثيراً ولا زلت أردد قصيدة له رغم طول العهد بحفظي لها.. وكيف لا أحفظها وكل بيت فيها يضج بالتعبير الشعري الهادف كقوله في تلك القصيدة التي نظمها بمناسبة البعثة الثانية التي أرسلتها حكومتنا الرشيـدة إلى أوروبا:
أبناء يعرب والنفوس فداؤكم
ما للشباب على الهوان مقام
هبوا فقد آن الأوان وحسبنا
نوماً فقد سبقتكم الأقوام
طيروا زرافات إلى قمم العلا
فهناك قد نصبت لكم أعلام
فالملك يخطب بالصوارم والقنا
لا الكتب تخطبه ولا الأقلام
والحق يعطى للقوى ومن يكن
غراً فإن الفاتكين قيام
إلى أن يقول:
وطني الحجاز عرين كل غضنفر
كفكف دموعك فالشباب قيام
نفديك بالأرواح وهي أعزّ ما
يُفدى به إن صحت الأحلام
ونموت كي تحيا ويعذب في سبيـ
ـلك للشباب الموت وهو زؤام
ثم يختمها بقوله:
في عصر رب التاج منصور اللوا
ءِ من للجزيرة منقذ وإمام
إن استمرار حفظ روائع الشاعر الكبير الأستاذ عبد الله بلخير دليل اعتراف جيلي -لست وحدي- بالشاعرية المميزة العالية.. فهل بعد ذلك من مجال لما قيل.. وما قد يقال؟.
* * *
"الرِّجَال الكِبَارُ؟!"
علي عمر جابر
ربما سمحت لنفسي.. أو هكذا قدرت أن أكتب عن الرجل الكبير: عبد الله بلخير.
سلفاً أعرف قيمة الرجل، ومكانته الاجتماعية والفكرية. وسلفاً أعرف أنه سيضيق بما كتبت، مع أنني لم أقابله مرة واحدة في حياتي. والمرة الأولى والأخيرة التي رأيته فيها هي التي شدتني إلى كتابة هذا الموضوع، وهو حق له، ودَين في أعناقنا لا بد أن نوصله للأجيال القارئة.
ذات صباحٍ -ولأكثر من عامين مضيا- كان موعدنا مع أمنية غالية وثمينة.. وهي أن نسمع طرفاً من رواية طويلة عن أدب الحجاز. كان المكان كلية الآداب في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وكان اللقاء مع واحد ممن أثروا هذه المدرسة (أدب الحجاز) بعطاء ثر وغزير.. صادق، وأمين. ولما ينقطع بعد، وهو إنتاج غزير ومعبر. هذا اللقاء دعا إليه الدكتور: عبد الله محمد الغذامي.. وكان رئيساً لقسم اللغة العربية في الكلية. وساهم في تقريب انعقاده الدكتور أحمد السومحي وهو أستاذ في قسم اللغة العربية أيضاً. وكان أهم ما حرص عليه الدكتور الغذامي.. أن يسمع جيل اليوم.. رواية تلك المدرسة بواسطة واحد من روادها.
واستمعنا، واستمتعنا.. وإذا بالعملاق: عبد الله بلخير.. يسوق الشواهد.. كأنها ماثلة وحية أمامه. يتوقف عن الاسترسال. ولم ينقطع حديثه.. ليربط رواية بأخرى بعيدة عنها في الحدث والواقع.. وإنما كان نهراً متدفقاً وبلاغة في التعبير، وسلاسة في النطق.. لم يقطع هذا الاتصال.. إلاَّ اعتذار متكرر.. يقوله على استحياء اقبلوا مني القليل فقد نسيت الكثير.
أنصف هذا الرجل الكبير أدوار الرجال الكبار.. وأشهد أنه ما أنقص حقاً لأحد، ولا أعطى بغير استحقاق. تحدث عن البداية.. ولم يغالط حين تحدث عن التأثر والتأثير.. ثم كيف واصلت هذه المدرسة جهودها حتى استقامت وأفادت وأثرت. كان الأستاذ الكبير عبد الله بلخير دقيقاً في لفظه، متحسباً لقيمة الكلمة.. ولذلك تحدث في غير حرج، وفي غير مبالغة. كنا نستمع ونستزيد.. حتى كانت الخاتمة قراءة متأنية.. جيدة الإِلقاء عن قصيدة له في الأندلس، أو ضياع الأندلس.. سمِّ ذلك ما شئت فالقصيدة لها عنوانها الذي اختاره قائلها.
أستعرض هنا بلاغة الرجل، وقدرته، واستيعابه لمرحلة تاريخية. ولم أستطع، ولا بمقدوري أن أستعرض المحاضرة أو قل اللقاء، ولو فعلت لضاق المكان، وإن لم يمنع ذلك فسيكون في مكان آخر، ومناسبة أخرى.
ثم تواردنا عليه بالأسئلة.. وكان يجيب، وأحياناً، لا يجيب، ولكن يعتذر، كان يجيب عن كل ما يتصل بالأدب والفكر.. ولا يجيب ويعتذر عن كـل مـا
يتصل بشؤونه.. ثم أفقنا على صوت متهدج.. ينصح ويوجه ويلح في الرجاء على اقتفاء الأفضل، والتأثر به.
كانت خاتمة اللقاء وما زالت تدوي في مسمعي.. كأني أسمعها اليوم وأعيش أحداثها الآن.. رغم سنتين مضتا على هذا اللقاء. كان يقول: كنت وزيراً للإِعلام في يوم من الأيام، وكان بمقدوري أن أكون ظاهراً في كل وسائل الإِعلام بالصوت والصورة.. ولكني لم أفعل.. لم يكن يخدعني السراب.. وكنت أتلهف أن أخدم بلادي وناسها.. من موقع المسؤولية الذي اؤتمنت عليه، ولا أظنني أبالغ إذا قلت إنني لم أسع إلى نشر صورة لي.. أو أن أقول كلاماً في غير موقعه.
كان هذا إطار الكلام أو الحديث الذي حاور الأستاذ عبد الله بلخير في نطاقه.. وإذا جاز خطأ هنا في التعبير أو شاع شيء كهذا، فأنا وحدي المسؤول.. فقد نقلت ما استوعبت.. ولم أحمّل الرجل ما لم يقل به.
الرجال الكبار.. أعمال، وتواضع.. يصنعون الأعمال ويؤثرون بها في الأجيال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2813  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 36 من 36

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.