شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أولاً: الحسّ التاريخي
لأن غزوة مؤتة تمثل أول مواجهة إسلامية مع الروم، فقد كان الشاعر عبد الله بلخير ملزماً بدقائق الأحداث، والوقائع التاريخية التي لا تجنح به إلى عالم خيالي، وإن كانت الغزوة ومجرياتها معبأة بالوقائع الغريبة التي هي أغرب مما يصوره الخيال. ولكن يظل يتعامل مع تلك الوقائع بحس تاريخي. ولذلك فقد ظل الشاعر ينهل من مورد ثرّ، ويستلهم مادته من أخبار وقصص وروايات عديدة كلها تغري وتستدرج الشاعر كي يغرف منها ما يشاء. كما ظلت قصص ومواقف صالحة للتوظيف الملحمي لم يدنُ منها الشاعر، لأنه ضاقت به الملحمة الطويلة، ولم تعد تتسع إلى المزيد من المواقف والأخبار. واكتفى بالمواد التاريخية الهامة التي سخرها لملحمته خير تسخير.. كموقف الرسول وهو يبعث بسفرائه عبر العالم، وبخاصة إلى كسرى وهرقل يذكرهما ويعلمهما التعاليم الجديدة، ودعوة رب العالمين للعباد أجمعين. ومواقفهما المختلفة من النبي، ورسالته. وموقف الإسلام من كليهما. فإذا كان المسلمون متعاطفين مع الروم لأنهم أهل كتاب، فإنهم أعداء للفرس الوثنيين عَبَدَة النار. وقوله تعالى يبشر المسلمين وبنصرهم في موقعة بدر لم تبرح أذهان الصحابة الأوائل وفرسان الإِسلام الأفذاذ: " أَلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم". ولذلك فقد أفلح الشاعر في إبراز ذينك الموقفين. ففي موقف كسرى ترى أنه قد:
رمى رسالة من يدعوه ممتشقاً
حسامه في انفعال زاده صمما
مهدداً لرسول الله منتفخاً
ومقسماً بين من حَفّوا به قسما
أن يزحف الفرس في حرب تفيض على
(شبـه الجزيرة) من أطرافها عجما
إلى (المدينة) يأتيها يدمر في
طريقه النخل والآبار والسَّلما
بينما الموقف الثاني يختلف.. شعوراً ومقابلة وذوقاً:
أما هرقل فقد لاقى (رسو
ل الله) في مجلس بالقدس ضمهما
ألقى إلى (دحية الكلبيّ ) مسمعه
مرحباً ببني العرب.. محترما
مستعلماً منه عما كان يذكره (الـ
.. إنجيل) عن مرسل في العرب قد رسما
ومن المواد التاريخية التي تناولها الشعر موقف القبائل العربية المتاخمة لجزيرة العرب من الشمال.. والتي كانت أداة طيعة بيد الروم لضرب وصد هجمات العرب أو المسلمين الجدد.. وأكثرها قحطانية وغسانية هاجرت من الجنوب واستقرت في بلاد الشام. وقد ذكرت كتب التاريخ الإسلامية أن العرب المستعربة التي انضمت إلى هرقل في مآب من أرض بلقاء هم: (لخم، جذام، بلقين، بهراء، بليّ )، وكان عددهم مائة ألف بقدر عدد أسيادهم الروم.
وقد أورد الشاعر بعض تلك القبائل، ولكنه ركز على الأمير الغساني.. أمير بصرى من جهة هرقل، وإن لم يورد اسمه (الحارث بن أبي شمر الغساني)، فقد أورد بعض قواده أمثال (شرحبيل بن عمرو الغساني) وأخيه (سدوس بن عمرو) و (وبر بن عمرو..)، وكان موقف شرحبيل من الإسلام موقفاً مخزياً استطاع الشاعر أن يكشف كل ما يعتلج في نفسه من كراهية وحقد وعداء.. ويكاد يكون قتله لمبعوث الرسول (الحارث بن عمير الأزدي) (1) أحد الأسباب الجوهرية التي حركت في صدر الرسول روح الانتقام وطلب الثأر وإعداد الغزوة، واقتحام المسلمين للروم في بلاد الشام.
وكان شاعرنا لا يجد حرجاً في نقل غضب ونقمة (شرحبيل) على الإسلام والرسول وقريش والإشادة بغسان بروح جاهلية معادية، فيتركه يقول ويرغـي ويزبد ويصيح:
أمرسل من قريش؟ تستجيب لـه
قبائل العرب تمشي خلفه حشما
ومن قريش؟ أليست قلة سكنت
شعاب مكة ترعى الضأن والغنما
ليست كغسان في عد ولا عدد
ولا كقحطان سالت في الورى أمما
غسـان في ذروات الشام سادتها
وحلفهـا ظل بالرومـان ملتزمـا
فمالنـا ولمـا يدعـو (محمدهم)
وسوف نغزو إذا حل الشتا (إخمـا)
ولن يمر على (البلقا) من افتتنـوا
به.. ومن مر من أتباعه عـدمـا
وإن موقف (شرحبيل) وأميره وقبائلهما المستعربة لهي رمز لما نجده في بعض الدول العربية أو الإسلامية التي ترتمي في أحضان المستعمر المعاصـر -مجبرة أو مختارة- لتنفيذ مخططاته، ولتحقق مصالحها الذاتية أو مصالح حكامها.. متناسية المصلحة القومية والدينية الكبرى، مصلحة الأمة جمعاء. وإن حسَّ الشاعر التاريخي هو الذي يوحي بمثل تلك المشاعر. وإذا كـان الشاعـر -كما قلنا- قد عرف كيف يوظف التاريخ، ويختار منه أروع الأحداث والوقائع لمادته أو موضوعه الملحمي، فإنه في الوقت نفسه قد تجاوز أحداثاً ووقائع أخرى لا تقل روعة وإشراقاً في إثراء تلك المادة الملحمية.
ومن المواد التاريخية الموظفة خير توظيف أيضاً: حين عقد عليه السلام اللواء الأبيض أو(الراية البيضاء) ودفعها لزيد وأوصاه أن يعسكر بجيشه حيث قتل (الحارث الأزدي) وألاَّ يبدأ بقتال قبل أن يدعو من هناك إلى الإِسلام، فإن استجابوا حقنوا دماءهم وجزاؤهم على الله، وإلاَّ استعان عليهم بالله وقاتلهم. وخرج الرسول مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف يودعهم وقال مقولته المشهورة (2) بعد أن أمَّر الثلاثة قائلاً: الأمير زيد، فإن أصيب فجعفر، فإن أصيب فابن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمـون بينهـم رجـلاً فليجعلـوه عليهم؛ ولذلك يقول شاعرنا:
أوصى الجميع بتقوى الله ثم دعا
لهم.. يعيد بما أوصى به الكلما
قال: انفروا وأمير الجيش بينكم
(زيد) فجعفر في الترتيب بينهما
فإن أصيبا فعبد الله ثالثهم
فتى رواحة في ماجـد أو أزما
فـإن أصيب فإن الأمر بينكمو
شورى ترون بها من يحمل العلما
وهذه الراية البيضا شعاركم
تجمعوا حولها.. وامشوا بها قدما
وادعوا القبائل للإسلام ما استمعوا
لكم صلوا بهمو ما سالموا الرحما
ولا تريعوا شيوخاً في صوامعهم
ولا تمسوا من استخفى أو اعتصما
ولا تخيفوا مريضاً.. لا. ولا امرأة
ولا غلاماً.. ولا طفلاً.. ولا خدما
ولا تغلوا.. ولا تفشوا مساكنهم
ولا تخونوا.. وأوفوا العهد والذمما
ومن المعاني التاريخية التي صاغها شاعرنا صياغة ملحمية فنية وبحس تاريخي تسلم الراية الإِسلامية البيضاء والقتال في سبيلها ببسالة، وتساقط الأمراء الشهداء الثلاثة واحداً إثر الآخر. والوقوف عند كل أمير على حدة، ووصف صورته الحقيقية، وموقفه قبل المعركة، وخلالها، واستشهاده.. وبخاصة مع ابن عم رسول الله، الذي هاجر الهجرتين، وهاجر من الحبشة إلى المدينة، وموقفه مع النجاشي في شرح مبادئ الإِسلام، وفي الكيفية التي استشهد بها، وفقده يديه.. وما عوضه الله عنهما بجناحين يطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة.
ثم ذلك الرجز الذي كان ينبعث من الأمراء الثلاثة ويثير بأنفسهم وبالمسلمين وقدة الحماسة والاندفاع للموت والشهادة (3) . وعقره (الشقراء) (4) . وكذلك موقف خالد بن الوليد حين تسلم الراية والقيادة وتنظيم الجيش من جديد لما تحاجز القوم ليلاً، إذ جعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والساقة مقدمة، والمقدمة ساقة.. حتى ظن الروم أن مدداً جديداً وصل المسلمين.. وكان يحارب بعزيمة نادرة حتى قيل إن تسعة أسياف اندقت في يده.. وكان في الوقت نفسه ينسحب، ويناوش الروم سبعة أيام إلى أن تم له الانسحاب الكامل والعودة إلى المدينة. وفي حالة هذا الجيش الذي أخذ الناس يحثون على سنابك خيله التراب ويقولون: يا فُرَّار في سبيل الله. ويقول رسول الله يجيبهم: ليسوا بالفُرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله. وكذلك في لقاء الصبيان لهم، وقول الرسول خذوا الصبيان فاعملوهم، وأعطوني ابن جعفر.. فأتي بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه.
ومن بعض المشاهد والأحداث التي كانت رائعة ومشرقة في غزوة مؤتة، ولم يقف عندها شاعرنا هي أنَّ المسلمين -بعد أن تعبأوا في مؤتة- جعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة يقال له: (قطبة بن قتادة) الذي حمل على (مالك بن زافلة) قائد المستعربة فقتله (5) . كما جعلوا على ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له (عباية بن مالك).
وكذلك نهاية ابن رواحة حينما حمل جريحاً إلى خيمته قبل غروب الشمس..، أول يوم من أيام الملحمة، وتقدم إليه (عبد الله بن عمر) -وهو مستلق- بكوب ماء، فعرضه عليه، فرفضه ابن رواحة معتذراً بصيامه قائلأ له: إني صائم.. فضعه على ترس عند رأسي، فإن عشت حتى تغرب الشمس أفطرت. وإن تمسك ابن رواحة بشعائر الدين أمر مشهود له عند رسول الله الذي قال فيه: (إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة). كما يشهد له بذلك أبو الدرداء بقوله: (إنَّ كنا لنكون مع رسول الله في السفر في اليوم الحار ما في القوم أحد صائم إلاَّ رسول الله وعبد الله بن رواحة).
وفي قول كاهنة لقومها من حدس (بطن من لخم يقال لهم بنو غنم) حين سمعت بجيش رسول الله مقبلاً: (أَنذِرُكم قوماً خُزراً، ينظرون شزراً، ويقودون الخيل تتراً (متتابعة). ويهريقون دماً عكراً) فأخذوا بقولها، فاعتزلوا من بين لخم فلم يزالوا بعد أثرياء.
على أن ازدحام الأحداث التاريخية بحس الشاعر، لا بد إلاَّ وأن يجعله يضرب صفحاً عن بعضها.. ويتجاوزها، لأن الملحمة -كما أسلفنا- ضاقت به ولم تعد تتسع للمزيد. وفي كل الأحوال يظل الشاعر يتعامل مع الأحداث والحقائق والمعاني التي صنعها الأجداد الأفذاذ بحس تاريخي مشع بأبلغ الدلائل والإيحاءات.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :938  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

زمن لصباح القلب

[( شعر ): 1998]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج