شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كملة فارس الاثنينية سعادة الدكتور عاصم حمدان علي ))
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي وسلم على عبدك ونبيك الأمي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
أولاً: لقد أفاض عليّ أساتذتي وزملائي وإخواني وأبنائي بما تفيض به نفوسهم، أما العبد الفقير إلى الله فلا يملك من حطام هذه الدنيا إلا هذا الحب، فلست بعالِم ولست بمثقف ولست بمفكر، وإنما أرادوا أن يكرموني فقالوا ذلك عني..
وماذا تبتغي الشعـراء مني
وقد جاوزت حد الأربعين
 
وقال الشاعر:
لا ألفينك بعد الموت تندبني
وفي حياتي ما زودتني زادِ
كلانا غنيٌّ عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
 
يظن الإنسان أن البيتين الشعريين قد صدرا من نفَس شعري واحد، والحقيقة أنهما من قصيدتين مختلفتين، البيت الأول: للشاعر المعروف عبيد الأبرص، أما البيت الثاني: فهو للشاعر السيد عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وأوله أو قبله يأتي البيت:
فعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
 
بدايةً أهدي هذه الليلة لوالدتي أطال الله في عمرها حيث تقيم في المدينة المنورة منذ أن أتى بها والدي - رحمه الله - من قرية الفِقرة وعرقوس في نواحي المدينة فسكنت المدينة ولم تخرج منها أبداً، وتولع قلبها بحب هذه المدينة الطاهرة وهي علمتني كثيراً من هذا الحب، وأهدي هذه الليلة أيضاً لأم سارة شريكتي في الحياة والتي تتجاوز كثيراً عن غيابي عنها؛ لأنني أقضي معظم الوقت بين الكتب وبين الأوراق، وأهدي أيضاً الليلة لبناتي سارة وسحر وأسيل وابني أحمد -حفظهم الله- وحفظ لكم ما عندكم، وأهديها أيضاً لهذا الجمع الكريم الذي لا أقول أنه جاء يودعني ولكني أقول جاء لينثر الحب الصادق بين يدي.
الأخوة الكرام .. في مقدمتهم أستاذي الرجل صاحب الفضل الذي ما علم في يوم من الأيام أنني غاضب أو حزين إلا واتصل، وكأن هذه النفس الطيبة منه تشعره بحاجة أحبابه إليه حباً صادقاً ووفاءً ونبلاً، وذلك ليس بغريب على سليل أسرة العلم والفضل في بيت الله الحرام، وأيضاً لزملائي في الجامعة من تحدث منهم أو من لم يتحدث وجاء يحضر متكرماً لزملائي في الساحة.. لطلابي.. للجمع الكريم.. الذي أقول له أنني ولدت وليس في فمي ملعقة من ذهب.. ولدت في أسرة مستورة ولكنني تعلمت من والدي الشيء الكثير.. من مجالسه.. تعلمت منه لا فرق بين بادية وحاضرة، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين ابن الحارة ولا المثقف، جميعهم رأيتهم في مجلس والدي.. نعم.. ولهذا أخذ علي البعض أنني لا أذكر نسبي وقبيلتي التي هي الغامدي وظن أنه بهذا يلمزني، هذا شرف لي أنا عربي مسلم أو مسلم عربي وأنتمي إلى هذا الوطن الكبير وأنتمي إلى الوحدة الوطنية، ولكنني لا أنفي أصلي لكنني حفظتُ من والدي هذا البيت يقوله، يردده على مسمعي على قلة ثقافته:
كـُن ابـن مـن شئتَ واكتسـب أدبـاً
يُغنيك محموده عـن النسب
 
وأذكر أن شيخاً فاضلاً من شيوخ مكة لا أريد أن أذكر اسمه لأن القضية فيها شيء من السرية أو الستر، رجل من أهل الفضل جاء إلى المدينة وشرّفنا بنزوله في الدار، أراد أن يخطب لابن أخته في المدينة، فقالوا له إن حمدان يعرف الأنساب فجاء إلى البيت وكنت جالساً فدخل فهلل به ورحَّب، ثم جلس ثم سأله وصوته خافت لا يسمعه أحد قال له يا عم حمدان نحن نريد أن نخطب من البيت الفلاني يقولون أنك تعرف أنساب الناس، أجاب بكلمة لا زلت أسمعها قال له يا شيخ أو يا سيد لقد عاش في المدينة بيننا أناس لم يكونوا أبناء أحرار ولكن بفعلهم كانوا أبناء أحرار، نعم.. فالرجل سكت وصمت ثم ناداني إلى الخارج قال لي إن والدك لم يقل لي شيئاً، قلت له فضيلة الشيخ لن يقول لك الوالد أكثر من هذا، وأنا أعلم ولا أزعم ولا أدعي أنه لو وضع هكذا يده لعرف أنساب أهل المدينة بادية وحاضرة، ولكنه علمني ألا أتكلم في الأنساب ولا في الأحساب ولهذا أكره دائماً الحديث في هذا، نعم هذه هي المدرسة التي علمني فيها الدرس الأول حمدان، وعلمني فيها أن أكون صريحاً، وكان يقول يا عاصم لا تكذب.. لا تكذب.. لا تكذب..
أذكر أنه دخل عليه الشيخ الحافظ حِلِّيت بن مسلم المحمادي والد حبيبنا وصديقنا عبد المحسن حِلِّيت وجلس إليه ثم قال له كلمة في حق أحد إخوانه فبكى والدي فقال له: لا تبك يا حمدان، لقد غذيتهم من العيش الحلال.. غذيتهم من عرق جبينك، ولهذا أنا أقول أنني لست من أسرة أرستقراطية، ولكنني في أسرة مستورة، وأزعم أنني تعلمت في مدرسة والدي ما لم أتعلمه في الحياة.
حدثني - رحمه الله - قال لي: أن رجلاً من أهل المدينة اسمه مصطفى قباني -رحمه الله- كان هناك رجل - حتى ترون كيف كان المجتمع فيه تسامح ومحبة - اسمه محمد ابن هويمل الحازمي شخصية كبيرة، كان يعيش في المدينة وخارج المدينة، فسافر مصطفى قباني بعد أن نزلت به نوائب الدهر إلى ينبع، حيث يقيم الشيخ محمد بن هويمل ويعرفه أهل المدينة، كان يبدو الأسى على وجه مصطفى قباني، وكان من رجالات المدينة، حتى إذا ما انقضى المجلس قال له: كيف أنت يا مصطفى؟ كيف حالك؟ قال له: مريض يا شيخ محمد، لم يقل أكثر منها، أدخله إلى غرفته الخاصة، قدَّم له ألف جنيه ذهب، قال له: يا مصطفى هذا عطائي لك، هذا دواؤك، وذهب إلى مصطفى قباني إلى المدينة وعاد مرفوع الرأس، لم ينشر محمد بن هويمل الحازمي هذه القصة، ولكن نشرها الناس عنه، وانظروا كيف كان يعيش المجتمع بباديته وحاضرته قلباً واحداً وجسداً واحداً.
وحدثني ذات مرة وكان يُلقي عليَّ الحديث، أن الشيخ مصطفى عطار -رحمه الله- أستاذنا مصطفى عطار - أطال الله عمره - أستاذي يحمل اسمه السيد مصطفى عطار أين الأستاذ علي حسون؟ يعرف عنه أكثر مما أعرف أنا، مصطفى عطار كان شيخ الأدلاء في المدينة، كان شخصية بارزة وكان رئيس بلدية، كان الأدلاء "المزوِّرين" يلأتونه فيطلبون منه خمسين.. مائة، سلف لآخر الشهر ويكتبون ذلك على أوراق صغيرة، وفي آخر السنة سأل مدير أعماله واسمه العم حمزة خاشقجي، لا أعلم هل هو حي أم ميت -الله يرحمه- أما الشيخ مصطفى فقد توفى، قال له: أين الفلوس؟ أين فلوسي يا حمزة؟ فأتى حمزة خاشقجي بالأوراق.. وكانت كثيرة وقال له: فلوسك يا شيخ مصطفى عند أبنائك من أهل الأدلاء الضعفاء الذين يزوِّرون في الحرم، قال له: ماذا ستفعل يا حمزة؟ سامحوني إن كنت تكلمت بالعامية شوية لأنها عامية أهل المدينة، أظن معالي السيد غازي يحب العامية التي استخدمها الأستاذ عزيز ضياء، لكن طبعاً نحن نشجع على اللغة العربية الفصحى وهي اللغة التي يجب أن تسود، لكننا استعملنا العامية فقط لسياق الحديث، قال له: أريد أن أشتكيهم في المحكمة، لأنني طالبتهم مرات عديدة ولم يأتوا بالنقود، وأنت الآن على درجة الإفلاس يا سيد مصطفى، وأنت شخصية معروفة في المدينة وبيتك مفتوح.. وبستانك مفتوح للضيوف وكان بيته في العنبرية، وبستانه في درب الجنايز، بالقرب من بستان عباس سقاف والد المرحوم السيد عمر السقاف الذي كان وزير دولة، ووالد أخيه السيد علي السقاف -أطال الله في عمره- قال له: تريد أن تشتكيهم!!!! قال له: لا، ثم قال له: أرجو أن تحضر لي عود ثقاب (كبريت)، فقال له ماذا تريد به يا سيد؟ قال له: أريده، فخرج خارج البستان، وأشعل النار في تلك الأوراق جميعها، ثم قال له: يا حمزة تريدني أنزل واشتكي الفقراء والمساكين في المحكمة، أُشهِد الله على أني سامحتهم، مات مصطفى عطار مديوناً، سدد ديونه ابنه السيد حسن عطار الذي كان قنصلاً مشهوراً.
في مكة المكرمة البلد الذي قضيت فيه أجمل أيام عمري، زميلي وصديقي محمد نور يعلم ذلك، كنت جليساً وأنيساً وقريباً من رجل الفضل المرحوم الشيخ عبد الله بصنوي، وأزعم أنني أعرف عن حياته باستثناء أبنائه وأهله ما لا يعرفه غيره.
سمعتُ عن قصة قالوا لي في الماضي - ومعالي السيد محمد العربي يعرف كثيرا، قالوا لي: أن امرأة قُبِضَ عليها في الليل مستورة، ثم أُتي بها إلى المخفر، فقالوا لها: من أنت؟ فقالت: أنا أخت عبد الله بصنوي، والناس تعرف عبد الله بصنوي لأنه مشهور، فما كان من الضابط إلا أن أحضر عبد الله بصنوي ليلاً من بيته فقال له: يا عم عبد الله هل هذه أختك؟ الحقيقة لا أعرف ما القضية ولكن المفروض أن تسترها ولا تجعلها تخرج في الليل هكذا، قال له: هي أختك؟ الشيخ عبد الله لم ينظر إليها، قال: نعم هي أختي، قال له: ماذا تريد؟ قال: كفالة، قال: اتفضل وخرّج المهر حق الحارة، الشيخ عبد الله جلس أكثر من خمسين سنة عمدة وخمسين سنة يؤذن في المنبر، بارك الله في العمر بأعمال الخير، في اليوم التالي جاء العم حمزة بصنوي - الله يرحمه - وكان سكرتيراً لمهدي بيه، كل الناس تعرف مهدي الذي كان مدير أمن عام وكان شديدا جداً، شدة أحياناً بالغة عن اللزوم، - رحمه الله - فكان عم حمزة بصنوي وهو أديب وصديق الأستاذ إبراهيم فودة، وأنا أدين لهما الاثنين بأنهما فتحا المكتبة لي، كانت للشيخ عبد الله بصنوي مكتبة، وقرأت منهما الكثير وعرفت منهما الكثير، قال له: جاء عم حمزة، قال: يا أخي، مهدي عَلِمَ عن القضية؟ مَنْ أختي؟ أختي فلانة؟ عندهما أختان، قال له: لا، حاشا، قال له: كيف؟ قال له: هي أختي في الإسلام، طبعاً المرأة أُطلق سراحها، جاءت المرأة إلى بيت البصنوي عاهدته على أن تبدأ حياة جديدة نظيفة، انظروا إلى هذا السلوك التربوي العجيب! وألا تعود إلى سيرتها الأولى، سمعت القصة كنت أجلس معه في الحصوة أنظر معه إلى الكعبة، في ذلك الصباح الجميل من أيام مكة الجميلة العزيزة على نفسي، سألته عن القصة؟ أجابتني الدموع من عينيه لم يتكلم بكلمة واحدة.. نعم كان هذا عبد الله بصنوي..!
في يوم من الأيام كان له ابن وضربه أحدهم غاضباً بماء نار ففقد إحدى عينيه، وتجمع الناس وكاد القصاص أن يكون، جاءني - رحمه الله - وأنا ابن من أبنائه وكان يخاطبني كرماً منه يا أستاذ قال لي: يا أستاذ أريد منك أن تذهب لأمك في البيت، كنت أسكن عندهم في البيت وأُدين لعبد الله بصنوي بالكثير، كما أُدين لحمدان في المدينة، قال لي: أريدك أن تذهب وتقول لها: أن عبد الله بصنوي يمشي في الصلح، والناس جاءتني ومنهم علماء، منهم: فضيلة السيد محمد علوي المالكي -حفظه الله-، وغيرهم من الرجال، ربما السيد بكر تونسي أيضاًَ والد حبيبنا، كان من الشخصيات المهمة في مكة.. الذين يمشون بالخير بين الناس، أريدك أن تذهب لعمك حمزة في أجياد وكان يسكن بجانب بيت إبراهيم فوده، وتخبرهم أنني سوف أنزل وأتنازل عن الشخص الذي سكب ماء النار على وجه ابني، هكذا الناس زهدوا في العقاب فيصفحون عن الناس إكراماً بعد أن قال لقد جاءوني وأنا أطلب العفو من الله - سبحانه وتعالى عز وجل - هذه بعض صفات عبد الله بصنوي الذي عرفت وأعرف عنه أكثر.
أما القصة الأخرى فأرويها عليكم.. لماذا؟ لأننا نحن زمن بحاجة إلى الأسلوب التربوي في معالجة المشاكل، كان السيد حسين حبشي مفتي الشامية في مكة، جد حبيبنا السيد أحمد حسين حبشي الموجود في مكة، كان يسكن في حارة الباب، وبيته معروف، ووجهه مضيء، كان رجلاً يتسلل إلى الحارة ليلاً، في حارة "الباب"، ويقول أهل مكة: الفقر يدور.. يدور ويبات في حارة "الباب"، لا أعرف ما السبب لهذا..! لكن يظن أن الحارة تكون في الليل هادئة جداً من بدري، الحوانيت مغلقة.. وفي الليل يأتي ويتسلل، في يوم من الأيام أخطأ الطريق، ودق باب السيد حسين حبشي، طالع السيد بطلعته البهية.. ولآل البيت نور.
(أنا خيارٌ من خيارٍ من خيارْ ) , (لم يجتمع أبواي على سفاحٍ قط)
عندما قالوا لها لبريرة يا ابنة حمالة الحطب، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب فقال: لماذا تؤذوني في أهلي؟ هذا إن أردتم الرجوع للحديث السيد عبد الله يعرف الحديث أكثر مني، وشيخنا الشريف.. عبد الله فرّاج شريف، وحبيبنا الأخ محمد سعيد رحمة الله من أهل مدرسة الصولتية ومن رجالاتها، انظروا إليه في مناقب أهل بيت لابن تيمية، شيخ الإسلام.. في رواية أخرى: أن المرأة التي قالت لها أنصارية، فالأنصار كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا أموالهم ومتاعهم وما يملكون وجعلوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدون أن يُكَفِّروا عن المقولة التي أزعجته وأثرت في وجهه، فنزل الوحي في تلك اللحظة على رسول الله، هذا في بعض أسباب النزول، أنا أروي روايات مختلفة.. قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ في القُرْبَى (الشورى، الآية: 23).
نعم.. وبُلينا اليوم بمتشددين ليس من همهم إلا أن يحدثونا أين هو والد رسول الله هل هو في النار أم في غير النار؟ هل هذا يُرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل يُرضي واحداً منا أن يتكلم أحد في أبيه بحضرته؟ هذا رسول الله غضب لابنة حمالة الحطب، فكيف نجعل على ألسنتنا هذا السيئ من القول في حق والد المصطفى صلى الله عليه وسلم!!! لماذا البعد عن مقاصد الشريعة؟ وَمَا كُنَّا مُعَذَبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء, الآية: 15) نعم هناك أحاديث كثيرة وردت.. فضيلة الشيخ محمد علي الصابوني يعرف أكثر مني، لكن يجب دائماً عند العلماء أن يفسروا.. ليس هناك منافاة ببن الآية وبين الحديث، ويجب أن يفسروا الحديث بما يتناسب مع الآية، لكن الأهم من ذلك أن غاية الأمر أنهم من أهل الفترة، الذين ما حضروا رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما شاهدوه ولكنهم شاهدوا النور، وحملت آمنة النور وعبد الله هو الذي كان بعد الله سبباً في هذا النور في أحشاء آمنة بنت وهب...
المهم أن السيد حسين حبشي أشار إلى الرجل بيده إلى الدار التي يأتي إليها الرجل متسللاً فذهب الرجل متخبطاً لا يعرف.. لقد كان الناس يستحيون من العلماء الربانيين المخلصين، لقد ذهب الرجل إلى البيت الذي يأتي إليه ليلاً متسللاً في الظلام يطلبون الستر حتى وإن كانوا في المعصية، "اللهم استرنا واستر أهلينا وأبناءنا بسترك الذي سترت به على ذاتك فلا عين تراك ولا يد تصل إليك" ذهب إليها قال لها: لقد ارتكبتُ خطأً جسيماً، لقد طرقت باب السيد حسين حبشي، وكنت أظنه الباب الذي أدخل منه كل ليلة.. قالت له: لا تخف هذا السيد حسين لن يأتيك منه أذى، قالت له: لقد حرمتَ علي وحرمتُ عليك، فلنذهب غداً إلى السيد حسين، طرقا باب السيد حسين وكان العالِم في الماضي كما يعرفون هو من يعقد القران فعقد قرانهما، وأصبحا رجلاً وامرأةً من دون أن يعلم أحد، لم يفاتحهما السيد حبشي في شيء، نحن نحتاج.. لا نضّيع حدود الله.. لكن نحتاج إلى أساليب التربية في العلماء ليس بالغلظة ولا بالجفوة ولا بالشدة.
أفتكر أني قلت.. لكن أريد أن أقول كلمة.. الأستاذ عبد المقصود خوجه جزاه الله خيار نحن الآن في نهاية عام 1424هـ.. مع 1425 حتى لا يجادلني علي حسون وعبد المحسن حِلِّيت في العمر أقول أني أنهيت بفضل الله أربعين عاماً في الكتابة، طبعاً ليس كتابة بل بدأت ككاتب "خربشات"، 1385 بدأت كاتباً رياضياً وأعترف أن علي حسون وفوزي خياط شجعاني على ذلك، ولكن من بداية التسعينات غيرت الموجة فلم أجد الرياضة هي مبتغاي، ولكنني وجدتها في دراسة السيرة النبوية في الحرم النبوي الشريف، وقراءة كتب الأدب.
لكن أحب أن أقول للجيل الذي يتعجل الوصول إلى الشهرة، لقد ظللت عقداً واحداً من الزمن أكتب في صفحة القُرَّاء في جريدة المدينة، لم أتبرم.. لم أنزعج.. حتى استوى أسلوبي فبدأت الكتابة في عام 1394هـ على صفحات ملحق التراث عند صدوره على يد زميلنا الدكتور تركستاني، ثم أصدره الأستاذ عبد الله العباسي -الله يرحمه- الملحق الثقافي في جريدة المدينة وهو من الأوائل في جريدة المدينة، الأستاذ أسامة السباعي والأستاذ غالب أبو الفرج أظن الصحفيين يعلمون ذلك، والحقيقة كان أول ملحق ثقافي يصدره عبد الله العباسي، هذا الرجل ظُلِم والأستاذ صلاح الدين يعرف عنه الكثير، وقد أفرد في مجلة "أهلاً وسهلاً" الكتابة عنه ثم جاء ملحق الأربعاء على يد أديبنا السيد عبد الله الجفري وتنقل طبعاً في رحلة كبيرة من عبد الله الجفري.. الأستاذ علي حسون.. الأستاذ محمد صادق دياب.. الأستاذ عبد الله سلمان، الأستاذ الصديق محمد عبد الستار، للابن الكريم الوفي الأستاذ فهد الشريف، وبعد ذلك للابن الكريم الآن أو الأخ العزيز الدكتور خالد باطرفي، متمنين له ولأسرة المدينة كل خير وكل توفيق، أتذكر.. فقط اسمحوا لي دقيقة هذه الكلمة لأنني في بداية حديثي أهديت هذا التكريم أول ما أهديته للوالدة فلقد ضمنت كتابا هتاف من باب السلام صديقي معالي الدكتور غازي.. وأنا أقول له سيدنا وأفتخر بهذا دائماً، والده صديق والدي وجدي لأمي كان صديق جده عبد الله مدني، فالمودة مورثة.. سأتكلم عن الوالدة ولا أريد البداية تدخل عليه صومعته حيث يقيم فهي تعرف أنه اختار إلى الوحدة سبيلاً ومنهجاً له في هذه الحياة يحس بخطواتها وهي تسعى إليه، يرفع نظرها إليه، وهو لا يزال ذلك الطفل الذي طالما ارتمى في أحضانها باكياً ومنتهباً من قسوة الحياة، وإنه في حاضره لأشد حاجة إلى حنانها فلقد اشتعل الرأس منه بالشيب، ولقد كان من قبل يا بني أخاطب ابني الصغير يحصي الشعيرات البيضاء التي تختفي في حياء بين غابة كثيفة سوداء ويدفعه زهو الحياة وشيء من رعونة الشباب للتباهي والتفاخر بها.
رمت بنفسها - أطال الله في عمرها - فوق ذلك الكرسي الخشبي العتيق، نظر إليها وهي متحجبة وتذكر أنه طيلة ما يقرب من أربعة عقود من الزمن وربما تزيد عن ذلك قليلاً أنه طيلة هذا الزمن الذي قضته في عبادة ربها وخدمة سيد الدار وتربية أبنائها لم يتحرك هذا الحجاب من فوق رأسها، وإنها في أشد الأوقات تعباً لا تتمدد على فراش، ولا تتكئ على وسادة حتى وإن كان الذين يجلسون بين يديها هم ممن حملت وأرضعت وربت وهذا سر من أسرار إعجاب أبيك بالمرأة المثال، تبسم في وجهها وهي غارقة في التأمل طلب منها الدعاء له، نظرت بعينيها إلى الأفق البعيد ثم نطقت بكلمات محدودة (الله يريح خاطرك)، تذكر فجأة والده الذي رحل عن دنياهم، والذي حدثه أن والدته –يعني جدتي من جهة أبي - قبل رحيلها دعت له بمثل هذه الكلمات الصادقة من الدعاء، وعرف أن المرأة المثال في حياته تعرف معاناته التي يحجبها عن الآخرين ويواريها خلف هذا السرور المصطنع والبهجة الكاذبة.
يسود شيء من الصمت الحزين حتى ليبدو المكان الذي يجمعهما أصغر ما في هذا الوجود، وتأتي الكلمات منها لتكسر حدة هذا الصمت، (مين زيك يا ولدي)؟ لهجة مدنية وعبارة متداولة بين أهل الأرض الغزلة والعاشقة، أعادت على مسمعه حكايات الطفولة.. فأرهف السمع لحديثها أصابتك الحصبة أنت وأخوتك كان الوقت غائبا، والدك ناءٍ عن المدينة يبحث عن لقمة العيش الحلال، أسبوعان لا أعرف فيهما الطريق إلى المطبخ، خالتك عباسية وسعيدة من جيران زقاق السيد أحمد يدخلان كل يوم عليَّ بالطعام، جيرة حلوة وَلَّتْ مع زمنها هذا، أكتفي..
أردت أن أوضح كيف كانت الجيرة.. كيف كانت المرأة.. طبعاً أنا لا أقول أن المرأة في هذا العصر تعيش بتلك الصورة التي كانت عليها.. فأنا أعرف الواقع، ولكن على الأقل عندما يكون المثال عاليا تأتي الأخلاق بصورة جيدة، وعندما يكون المثال منخفضا طبعاً تأتي الصورة أسوأ، ولهذا أسميته بالصورة الأدبية.
جزى الله خيراً من تكلموا عني، كنت أرى أن بعض الروائيين الكُتَّاب وأنا لست بروائي وأعترف أمامكم.. نعم.. أنا كاتب سرد أدبي أطلقت على هذا اسم الصورة الأدبية، "حارة الأغوات" "المناخة" "ذكريات الحصوة" "أشجان الشامية"، "هتاف من باب السلام" والآن يصدر بإذن الله من نادي المدينة الأدبي "رحلة الشوق في دروب العنبرية" يكتبه زميلي وصديقي الأستاذ محمد صادق دياب.. يكتب مقدمته.
أردت أن أقول: أن في الحياة نماذج عالية وهذا إجابة لما طرحه أستاذنا فضيلة الشيخ محمد علي الصابوني، أنه يمكن أن يسجلها السرد الأدبي، الحياة فيها صور ناصعة فلماذا فقط نذهب إلى الصور الهابطة في الحياة؟ فنصورها ونجسدها.. اسمحوا لي هل يرضى منكم أحد أن يمسك ابن من أبنائه بكتاب قصة أو رواية فيه من الصور المتهتكة ما فيه أم يريده أن يرتقي؟ الحياة نعم فيها الفضيلة والرديئة، فيها الخطأ والصواب، ولكن جاءت الأديان وجاءت مكارم الأخلاق لترتفع بنا من هذا الدرك، ولهذا فقط أردت أن أقول ذلك، أردت أيضاً الحقيقة أن أقول أنه كان في المدينة رجل اسمه الشيخ جعفر فقيه كان صاحب فضل والد الوزير أسامه فقيه فتح لي مكتبته في المدينة الأستاذ محمد حميدة -مد الله في عمره- هو الذي قال لي في يوم من الأيام: يا عاصم تخصص في شيء عن المدينة، صديقي الذي استمديت كثيراً منه من الصور.. أحمد الزين الذي يبلغ من العمر تسعين عاماً - أطال الله في عمره -، رجال لهم علي من الفضل ما علي.
أشكر الجميع على هذه الكلمات الطيبة، إن نسيت أحداًَ فسامحوني وبرروا لي كما يريد الأخوة أن الذاكرة قد أصابها شيء من الوهن وفي هذا عذر حقيقي لي وليس تهرباً من المسؤولية، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :812  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 197
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثاني - النثر - حصاد الأيام: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج