شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السخر عند المازني (1)
كل إنسان -مهما كان- بمركب نقصه المجبول عليه، ولكني أعتقد أن الساخر من الضعف البشري وأوضاع الحياة وحماقات الناس؛ يحمل في نفسه أكثر من مركَّب نقص واحد، وإن كان هذا الساخر فيلسوفاً عميقاً أو شاعراً مفلقاً أو كاتباً جهبذاً أو خليطاً من هؤلاء!
والمازني -غفر الله له- كان ممنواً بالشيء الكثير من مركبات النقص الظاهرة، فضلاً عن الباطنة؛ فالقزامة في القامة، وانحدار العين عن دمامته، ورجله المهيضة، التي ما يفتأ يشير إليها في مقالات عديدة، وأطوار الإِملاق التي اضطرته إلى بيع مكتبته، وأكلها وشربها -كما يقول- كل هذه مجتمعة وغيرها مما لا نعرفه -وإن كان مستقراً في دخيلة نفسه- سهَّلت له أن يسخر من كل شيء، ثم يُعجب بالساخرين من أعلام الأدب العربي والإفرنجي، ثم يجيد السخر بعد ذلك؛ حتى يصبح أسخر ساخر في الأدب العربي الحديث.
ثم لا بد أن نميز بين سخر وسخر؛ فهناك سخر الحقد والانتقام، وذلك سخر النملة من الذي تلسعه، ثم يفركها بطرف إصبعه فيسحقها.. وهناك سخر العطف والرثاء، وهو يشبه السخر الذي ترمز إليه ذروة الطود عندما تنهمر عليه شآبيب المزن، فتعرف أن هذه الشآبيب مهما أغدقت وأغرقت لا بد أن تنزلق عن صفحتها!
وقد احترت -وقد قرأت للمازني كثيراً من نظمه ونثره وقصصه- أين أضع سخره من هذين السخرين؟
وأحسب أن سخره خليط من هذا وذاك، وإن كنت لا أستطيع أن أرجح لوناً على لون.
وأبلغ ما يذهب بالساخر، أن يسخر من نفسه كما فعل الحطيئة والجاحظ وغيرهما، وقد فعل المازني بأبيات نظمها تحت صورته غير ما كتبت في ذلك من قبل ومن بعد.
ثم أعجب أشد الإِعجاب بكل من قرأ له من الساخرين، فكتب عن بشار بن برد كتاباً ممتعاً. وقد كان بشار يهزأ بالخلفاء والوزراء في حياته، وأشار المازني مراراً إلى دعبل الخزاعي وإلى ابن الرومي، ثم تأثر -بعد إعجاب- بمارك توين فذاب في كأسه وقلده في مذكرات معروفة، ثم ذهب بلبه هنريك هايني فدرسه واستوعبه، فانظر ماذا ترجم عنه:
أيها الزائر قبري
اتل ما خُط أمامك
ههنا فاعلم عظامي
ليتها كانت عظامك (2) !
فيا له من اختيار بارع في السخر الموجع الأليم!
وترجم عن الإنكليزية قصصاً بقلم كان أمهر قلم في الترجمة؛ فما اصطفى قصصه إلاّ من كل كاتب ساخر مستهتر.
وقبل ذلك تناول الدكتور طه حسين بألوان من السخر العنيف رداً على كتابه "في الشعر الجاهلي"، ولا شك أن الدكتور تقبل التحية في غيظ مكظوم، وإن بدر منه أحياناً ما يشبه التهوين من شأن المازني!
ثم انكشف السخر بلا قناع في أسماء كتبه مثل: صندوق الدنيا، قبض الريح، حصاد الهشيم، خيوط العنكبوت؛ وقد كان ينوي أن يصدر كتاباً يسميه "باطل الأباطيل".
وأصبح بعد التأثر والتقليد وحب الساخرين، ساخراً موفور الأداة أصيل الطبع، مكتمل الموهبة، وطفق يسخر عن عرض بمن يستحق السخر، وبمن لا يستحقه إلى قبل سنوات حيث أكدى وبلغ في كتاباته الأخيرة وفي الصحف العديدة مبالغ الإسفاف، حتى لقد تنكر المازني لنفسه قبل أن يتنكر للناس!
وآخر ما قرأت له من البراعات الخالدة في السخر، قصته التي نشرت في سلسلة "اقرأ" عود على بدء، ففيها آخر إشعاعة انبثقت عن المازني الساخر..
وفي شعره شكول ذوات ألوان من السخر نكتفي بهذين البيتين:
أرى رونقَ الحسناءِ في مَيْعة الصبا
فيوضع بي شؤمُ الخيالِ ويعنقُ
ويشهدنيها في التراب مُرمةً
وقد غالها غول الحِمام الموفقُ (3)
فانظر إلى الحسرة الكاوية في هذه السخرية التي تتمثل في إيضاع شؤم الخيال وإعناقه، وتأمل بصورة خاصة كلمة الموفق، لكأن الحمام لا يكون موفقاً أتم التوفيق إلاّ إذا انتهب الجمال في ميعة صباه.
ولست أدري هل اختار المازني هذه الكلمة بالذات أم جاءت على القافية؟ ولكنه على أي حال سخر ممض مرمض.
وأود أن أذكر للمازني بالحمد والثناء، تعريبه لرواية "ابن الطبيعة"؛ فقد جمع فيها بين آيات لا تحصى من الجودة والدقة والاستيفاء والبيان، وقد كانت الرواية غرة لماعة في سلسلة روايات "مسامرات الشعب"، وكان بطل الرواية "سانين" المثال الأوفى لمن تكاملت فيه عناصر السخر والاستهتار والانطلاق إلى أبعد الحدود.
وأنا أقرن هنا السخر بالاستهتار؛ لأن الإنسان لا يسخر إلاّ إذا كان مستهتراً، وإن لم يكن كل مستهتر بساخر في بعض الحالات..
وليس الاستهتار أن تنشر للناس ثيابك القذرة على حبل غسيلك.. إن الكفاية دون ذلك بكثير، فيكفي أن تسخر بوضع من الأوضاع، فإذا الناس يلتفتون إليك كأنك حدأة تعيش وتطير وتتقلب مع أسراب من البزاة، فإذا لم يعجبك هذا الحال ففي وسعك بسهولة على ما أظن أن تحيل كل باز حدأة كما تريد!؟
ومثال واحد فيه الغناء كل الغناء، فلو حلق الناس شعورهم ثم أسبلت أنت شعرك، لأصبحت عندهم عنواناً كاملاً للمستهزئ الساخر العابث بالتقاليد، وعليك بعد ذلك أن تختزل جسمك حتى تكون في مقياس ثوبك الذي قسته على نفسك!
وفي الساخر والمسخور منه يصدق قول الكتاب المبين: إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (4) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :558  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 95 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج