شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المديح عند المتنبي (1)
مقدمة صغيرة
(أكتب هذه الكلمة عن المتنبي كصديق للمتنبي، وقد يكون فيها تحيز، ومن ذا الذي لا يتحيز؟ ولكني قلت ما أعتقده فيه تماماً وعلى أن أدافع عما قلت إذا لزم الأمر).
ما رأيت أغرب ولا أبدع ولا آنق من فن المديح عند أبي الطيب، ولا سيما في مدائحه لسيف الدولة (2) وكافور وابن العميد، فقد كان من البديهي الذي لا ريب فيه أن المديح -حيث كان- وسيلة إلى ابتزاز حطام أو اكتساب جاه أو صيانة كرامة.
وقد نستعرض في الجاهلية مدائح النابغة للنعمان، وزهير لهرم، ومدائح الحطيئة؛ وفي الإِسلام مدائح القطامي وجرير ونُصَيب والفرزدق والأخطل والطرمَّاح وابن أبي حفصة، إلى العهد العباسي من أمثال بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وغيرهم، فسوف تجدن في مدائحهم قوة وبياناً وبراعة أداء، ولكنهم على سواء كأنما يطرقون بمعاول متشابهة من الحديد من حيث الجرس والموسيقى والرنين، بحيث لا تستطيع أن تميز صوتاً من صوت إلاّ بعد لأي شديد، والبواعث كذلك واحدة، أو متقاربة على نمط رتيب، فقلَّ أن تظفر ببيت فرد أو معنى رائع أو فكرة عامة إلاّ في ما ندر عند أفراد معدودين ممن أسلفنا الذكر عنهم، أو لا يأتي هذا النادر إلاّ بعد عناء كثير.
فأما أبو الطيب فيختلف الشأن عنده كل الاختلاف، وكأن المديح كان جثة هامدة ينقر عليها من سبقه من الشعراء، وجاء ينقر بعدهم في أول عهده بالشعر، وما لبث أن نفخ الروح في هذه الجثة الملقاة، وإذا المديح يتحرك مستوياً ويقوم ويأخذ سبيله ككل "ذي روح عات" بفضل ما أدخله عليه من براعة التصوير ودقة الوصف وجلاء الشخصية، ورسمها أمهر رسم وأوفاه.
إن المدح عند المتنبي فن يعشق ويومق، ولقد ولَّد فيه من المعاني الفطرية، وابتكر فيه من الشيات الجديدة، ما جعلنا نعتقد بحق أنه يمدح المديح قبل أن يمدح ممدوحيه بالذات!
ومن غرائب فنه أنه لا يمدح عظام الرجال في عهده فحسب، ولكنه كذلك مدح الليل والخيل وكلاب الصيد، وعن المزايا المحمودة حيث تكون، وكأنما كان موكَّلاً بافتضاض مغاليقها واستجلاء سرائرها؛ وذلك فضلاً عن مدحه لنفسه بما يجوز أن يكون فيه وما لا يجوز، فلسنا بسبيل البحث عن هذا الموضوع بالذات!
ولو تفلسفت في المدح، لقلت: إنه نقص في نفس المادح، قبل أن يكون كمالاً في شخص الممدوح، وقد يصح ذلك في سائر المادحين على سواء، ولكني.. ماذا أقول؟
أقول: إني أنا شخصياً لا أستطيع أن أتصور ذلك النقص الذي أعنيه في نفس أبي الطيب، وإني لأعجب كيف أتيح له أن يشذ عن رفاقه، وأن يختط له تلك الطريقة الفذة؟
حتى ما يرد في مديحه من فلسفة عميقة وسخر عنيف وحكمة رائعة ونظرات صادقة، لا تأتي إلاّ كعناصر ثانوية بالنسبة إلى العنصر الأساسي الذي تتركز فيه قاعدة البناء، وهو المديح.
وأحب أن أصارح القارئ الكريم، فليس لدي مصادر عن هذا البحث، وقد فقدت ديوان المتنبي منذ مدة، ولكن ذاكرتي التي تحفظ الكثير من شعر المتنبي -على سقمها- هي المصدر الوحيد، وقد تتبدل بعض الألفاظ، ولكني أرجو -إن وقع ذلك- ألاّ يخرجها ذلك التبدل إلى غير المعنى المقصود.
ثم أريد أن أقول أيضاً: إني لا أستطيع أن أستشهد بالكثير من بدائع المديح وفرائده عند المتنبي، فإن ذلك يفوق الحصر، فضلاً عن أنه لا يسعه هذا المقام، بيد أني أود أن أكون مثل منار الطرق يكتفي بالإشارة السريعة، والاتجاه الخاطف، وذلك حسبه في ما أظن.
ولكن ما السر في أن الغالب من شعر المتنبي كله في المدائح وما يتصل بها من رثاء واستعطاف واستعتاب، وأنه في ذلك لم يبرز أروع التبريز فقط، ولكنه ولَّد من كرائم المعاني فروعاً تفوقت على الأصول، وأربت عليها في حسن شياتها وملاحة قسماتها؟
إن هذا سؤال يجب أن يوجه إلى قراء الأدب العربي عموماً، وإلى قرّاء المتنبي بصفة خاصة، ولا أرغب أن أجيب عن هذا السؤال الآن، فلنتركه إلى فرصة أخرى.
وأنا أرى أن المتنبي حقيق أن يبوئ نفسه المكانة التي يسمو إليها، وإنه بذلك قمين أي قمين، وقد أكون ضالعاً مع المتنبي، ولكني رغماً عن ذلك لا أستطيع أن أتصور كاتباً يكتب عن شخصية بارزة كتابة تجريدية محضة، وكيف يسعه ألاّ يكون عليه ولا معه، وهو مثله في الجبلة الإنسانية التي تتحكم فيها خوافي الغرائز ودفائن الأهواء وكوامن الميول والنزعات؟
ولن تكتب عن شخص ما إلاّ إذا كنت صديقاً له أو عدواً، أو وسطاً بين ذلك، وبغير هذه البواعث الصحيحة لا يمكنك أن تكتب شيئاً ذا بال!
وقد آن الآن أن نأخذ من شواهد المديح المتنبئية ما يسعه الوقت والمجال.
إن الذين يستشهدون في يوم الروع يستحقون أن يقال فيهم كل محمدة خالدة، ولكني لم أقرأ أبدع من هذا البيت، ولا أهول!..
كل ذِمْر يزيدُ الموت حسناً
كبدورٍ تمامها في المحاق (3)
والذمر -بكسر الذال وسكون الميم- الكمي الأروع.
وماذا يقال في الخيل، وهن من أعجب ما برأ الله للسبق والمخاطر والنجاء؟
وما الخيل إلاّ كالصديق قليلة
وإن كثرتْ في عين من لا يجرِّبُ
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
وأعضائها، فالحسن عنك مغيَّبُ (4)
من أبيات كلها جيد نفيس.
ويتجاهله إنسان على بالغ معرفة، فيكتفي أبو محسد أن يقول من قصيدة:
وربما أُشهدُ الطعامَ معي
من لا يساوي الخبزَ الذي أكَلهْ
ويُظهرُ الجهلَ بي، وأعرفه
والدرّ درٌّ برغم من جهلهْ (5)
وظلام الليل ماذا يمكن أن يقال فيه إلاّ أنه ظلام في ظلام؟ ومع ذلك فقد وسع المتنبي أن يقول في بساطة رائعة:
وكم لظلام الليل عندي من يد
تخبِّرُ أن المانوية تكذبُ (6)
والسيف لا يثنى على فعله إلاّ عند العيال، ولكن أبا الطيب يسبغ عليه المدح في مجال هو أبعد ما يكون عن ذلك المجال:
وقد طرقتُ فتاةَ الحي مرتدياً
بصاحبٍ غير عِزْهاةٍ ولا غزلِ
فبات بين تراقينا ندافعه
وليس يعلمه بالشكوى ولا القبلِ (7)
إلخ..
وهذان البيتان من قصيدة مطلعها:
أجاب دمعي، وما الداعي سوى طللِ
دعا فلبّاه قبل الركبِ والإبلِ (8)
وفيها من عيون المدائح في سيف الدولة ومن فرائد معانيها ما لا يمكن أن يُتمثل بشيء منه دون شيء، فليرجع إليها من شاء!
وقوم مدحهم بمعنى من أغرب المعاني على سبيل وصفهم وصفاً عابراً:
وصحبةَ قوم يذبحون قنيصَهم
بفَضْلةِ ما قد كسَّروا في المفارقِ (9)
إن هؤلاء الناس لهم في كل أرض معركة خالدة، فهم لا يحتاجون في أي مكان اصطادوا فيه إلى سلاح يذبحون به صيدهم؛ لأنهم سيجدون فيه فضلات الحراب والسيوف والرماح.. وهو معنى لا يكاد يخطر على بال، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يوجز في بيت واحد، لولا المقدرة الباهرة التي لا ينقضي منها العجب.
سيف الدولة أمير من أمراء القرن الثالث الهجري كأي أمير آخر من أمراء الإِقطاع؛ وإن يكن مجلياً في نجدته ونبله ومروءته، ولكن لولا قلائد أبي الطيب لغير اسم سيف الدولة كما غيرت أسماء كثير من أقرانه، ويقول سيدنا عمر بن الخطاب لولد هرم بن سنان: "لقد كان زهير يحسن فيكم المدح"، فقال له:
"ولقد كنا أيضاً نحسن له العطاء".! فاستضحك الفاروق العظيم، وقال ما معناه: "كلا يا بني، لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم" (10) .
وستجد كافوراً مع المتنبي أشهر منه مع شعراء مصر وشعراء زمانه في وقته، وستلقى وقفاته العابرة مع أي عظيم في عصره، تغني وتزيد عن المنادمات، والمصاحبات الطويلة بين أي عظيم وشاعره في ذلك الزمن!
وقد تجد أي شاعر ينهب [أرباع] (11) القرون وأنصافها مع أميره الممدوح، فلا يطير بذكره في الخافقين كما يفعل المتنبي في وقفات قصار محدودة.
وما مر على القارئ من أبيات ليست بذات دلالة أكيدة على تبريز المتنبي في المديح، ولكني أُحيل القارئ على قصائده التي سماها الأقدمون [قلائد] (12) وحق لها أن تكون كذاك.
إن المتنبي يمكنه أن يمدح الحجر فيوحي إليه بحسن تأتيه ورصانة مبانيه وطلاوة معانيه أنه أصبح إنساناً سوياً يتحرك وينطق ويشعر ويحس.
والمتنبي يمدح مخلصاً، ويهجو مخلصاً، فقد مدح كافوراً عندما أقبل عليه بهمومه وآماله بالخُرَّد السوائر، ثم هجاه حينما خابت ظنونه فيه -كما كان يعتقد- بالأوابد الشوارد!
وكان في وسعه أن يهجو سيف الدولة بعد أن تركه، ولكنه كان شريف الطوية سليم النية، وقد تُعلَّل بعض الشطرات مما جاء في مديح كافور أن فيها شيئاً من التلبس لسيف الدولة، ولكنها خطرت إن صح زعم الزاعمين فيها فهي لا تنحت الأثلة، ولا تقصد الرمية، ولا تتغلغل في العظمة، وهي أشبه بلاذع العتاب منها بمرذول السباب.
إن شعره في أماديحه لا يُستشهد منها بشيء دون شيء، ولا يستغنى عنها بشميم زهر دون اجتناء ثمر، إنه مدح يكفي أن يقال فيه: إنه لم يأت قبله مثله، ولم يأت بعده مثله!
وهذا يبرهن بلا امتراء (13) أن أبا الطيب كان يتعشق المدح تعشقاً مبرحاً قل أن يكون له نظير، وذلك هو السر في إجادته له وتبريزه فيه.
ولقد كان يتخذ المدح وسيلة إلى غاية بعيدة المرامي عسيرة المنال؛ وعندما استحالت هذه الغاية وتعذر إدراكها، أصبح المدح في نظره هو الوسيلة وهو الغاية أيضاً وهو كل شيء؛ فامتزج بدمه، وديف بلحمه (14) وسرى إلى أقصى مسارب غرائزه، حتى قال آخر ما قال في عضد الدولة وفي حياته:
فلو أني استطعتُ خفضتُ طرفي
فلم أبصرْ به حتى أراكا (15) !
يرحم الله أبا الطيب عداد حسنائه للغة والأدب والبيان.
ولقد كان من الحتم اللازب أن يقوم شاعر -مثل مقامه- فيخلع عليه مثلما خلع على ممدوحيه من سوابغ الثناء وبوالغ الإطراء، وإنه بذلك لحقيق جد حقيق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1529  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 94 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج