شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأدب يحتضر (1)
تتقدم النهضة الأدبية في كل أمة سائر النهضات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية والحربية وغيرها؛ ولعلّ ذلك هو السر في انحلال تلك النهضات بعد زمان يسير فإن الأدب ما يكاد يتقدم قافلة إلاّ تهافتت إلى الثواء، أو انتبذت بالعراء.
وقد كان الأدب أول شيء اتصف به الإنسان الأول؛ ولذلك كان من الحكم اللزام والحق الصراح أن يكون الأدب آخر ما يحتاج إليه الإنسان.
وتفصيل هذه الحركات أن الإنسان الأول عندما أبصر مناظر دنياه لأول مرة كان يصفها لزوجته أو لرفقائه، فكان يقول مثلاً: إن هذا القرص المستدير الذي يزهو في الليل -أي القمر- كان جميلاً جداً، وكان يقول: إن هذه السماء زرقاء إلى حد ممتع، وإن الفضاء الذي يحيط بها ليكسوها جمالاً وجلالاً.
ويقول أحدهم: إني أحب فلاناً أو فلانة حباً جماً، وإني لأبغض فلاناً بغضاً كثيراً.
فالتعبير البدائي عن العواطف الأولية، هو العنصر البكر للأدب الإنساني، فهذا إذن هو الأدب الأول أو الأدب "الطفل" -إن صح هذا التعبير- ومعنى ذلك أن طفولة الأدب متصلة بطفولة الإنسان أوثق اتصال.
ثم ترقى الإِنسان، فطفق يلتفت إلى حاجاته الضرورية، غير حافل بالأدب -أي بتعبيره عن عواطفه- إلاّ في أوقات الترف الروحي، وهي أوقات نادرة لا تأتي غالباً إلاّ بعد التشبع والاكتظاظ اللذين يمليان على الإنسان -في أوج كماله الذهني- أن يصف لأهله أو لرفاقه لذته التي مارسها، أو أمنيته التي يشتهيها بعد أن نال أكثر أمانيه، أو وقع الشيء في قلبه أو نفسه، عندما يكونان متفتحين للبواعث والمؤثرات.
وترقى الإنسان طوراً بعد طور وبدأ يعرف جيداً أنه أحد رجلين لا بد من أحدهما إن كان فيها حظ لمختار، فإما أن يملك جهازاً للإذاعة ولا يحسن وصفه، أو لا يستطيع أن يقتنيه، ولكنه يملك أن يصفه وصفاً بليغاً مبيناً فأيهما ألذ وأوقع وأبعث على النجاح؟
تلك هي المسألة كما يقول شكسبير على لسان هملت! ولكن هناك مسألة قد تكون أعمق وأوعر من هذه المسألة، وهي أن الدنيا يتوزعها طرفان مادي وروحي، وهاتان الصفتان أصبحتا معروفتين عند القراء إلى حد أني لو فسرتهما لكان ذلك عبثاً من العبث!
فإذا أمسيت ثرياً ووجيهاً وأنالتاك هاتان الحسنيان ما تروم، فماذا يعنيك إن كنت تعبأ بالأشياء الروحية أو لا تعبأ؟
وإذا كان الضمير ما يفتأ يدلك على أوخم العواقب بالنسبة إليك، على الأقل، فأي شيء هو الضمير؟
وإذا كان الطمع -وهو شيء خسيس- يتيح لك من كثرة المال وتحسن الحال، ما لا تتيحه له القناعة -وهي شيء ثمين- فما هي القناعة؟
وإذا كان يكفي الإنسان المفاخر أن يكون ذا مال ونفوذ؟ وعنده سيارة أو سيارات، ويتمتع بكل ما يطيب له ويروق متوسلاً بماله أو سلطانه، فأي ضير عليه إن كان يفهم الأدب أو لا يفهمه؟ هذه هي النتيجة الصحيحة بعد مقدمة وافية وبحث مستفيض.
وهذا العصر أصبح عصر سياسة وخداع وتحايل من الأمم على الأمم، فضلاً عن أن يكون من الأفراد وإلى الأفراد، فإذا كانت الجماهير تخدع الجماهير وتسوقها في أمانيها وحقوقها، وإذا كان المسؤولون يلعبون بشعوبهم لعب الصولجان بالإكراه احتفاظاً بمراكزهم وسيطرتهم، فأي شيء يحول بين الفرد وخداعه للفرد أو تحكمه به؟
وأين يذهب -بعد ذلك- غبار الأدب الضئيل بين هذه العواصف الجائحة؟ وما قيمة الأدب إذا كان غذاء للنفوس وقد انصرفت النفوس إلى المادة بعد أن تحولت نهائياً عن كل شيء روحي؟
وقد تسمع صرخات للروح هناك أو هنا، ولكنها صرخات النزع لدى المحتضر.. هذه الصرخات التي تريد أن تعيد الحياة إلى أجساد قد لفظت الحياة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :487  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 92 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.