شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الذوق الأدبي لدينا (1)
أحسب أن الذوق الأدبي لدينا ناضج إلى حد لا بأس به من النضوج.
ويدعوني إلى هذا الحسبان ما ألاحظه بين أدبائنا من الحاسة الفنية المرهفة التي تميز بين الجيد والرديء، والصحيح والزائف من الآثار الفكرية والأدبية والعلمية وغيرها.
وهذه الحاسة الفنية التي نشير إليها، والتي توجد في كل أديب مكتمل ضليع، لا يمكن أن نعرفها أو نحددها إلى مدى واضح؛ لأنها هي نفسها غير واضحة إلاّ بآثارها السلبية التي لا تكشف عنها ولا تدل عليها.
وإلاّ فما هي الغريزة، وما هي البواعث الخفية المنطلقة أو المكبوتة التي نحس بآثارها وتلهبنا سياطها ولا نعرف -مع ذلك- عنها شيئاً نطمئن إليه أو نعتمد عليه؟
والحاسة الفنية بسبيل مما ذكرنا، نلمس أثرها المجرد، فنتذوق الشيء ونستجيده، ونستهجن الشيء الآخر ونسترذله، ومع ذلك فقد ندلل على جودة الجيد ورداءة الرديء -أحياناً- وقد لا نستطيع أن ندلل على شيء من ذلك -في أحيان أخر- لأنا ندرك الجمال والقبح والخير والشر وغير ذلك من مؤتلفات أو مختلفات، ولكنا لو طلب إلينا أن نبرهن على جمال الجميل وقبح الدميم -في كثير من الحالات- لاستبهم علينا الأمر، واستغلق الجواب.
فهذه الحاسة غير الحواس العضوية الأخرى التي أوجدتها وظائفها اللازمة؛ لأن تلك الحاسة لم تتكوّن مع الإنسان إلاّ بعد مرور أحقاب طويلات الأمد، وهي حاسة لا يمكن أن يكون لها عضو يؤدي عملها.. ومن يدري؟
وإذن فيجب أن نفصل هذه الحاسة عما ذكرنا من الحواس العضوية، ونلحقها بالحواس الخفية التي نجهل مكانها ووضعها، ونعلم آثارها المباشرة فينا كحاسة الخوف وحاسة التنبيه إلى شيء طارئ قبل حدوثه، وغير ذلك من الحواس التي لم يكشف العلم عنها -بعد- كل ما عليها من حجب كثيفة.
فالحاسة الفنية هي التي تولد الذوق الأدبي، أو لعلّهما سيان كما يحكى عن الفرخة والبيضة، فلست بعالم من علماء القسطنطينية يوم كان سلطان بني عثمان يهاجمها ويقتحمها وهم مشغولون عنه بالجدل والقتال عن الفرخة والبيضة أيهما الأصل للأخرى؟
فإذا كان هذا هكذا -وأحسبه كذلك- فإن الذوق الأدبي عالٍ إلى درجة يغبط عليها ويعتد بها...
وإنك لتجد فريقاً من الأدباء شداتهم وضلعائهم يتحدثون في ما جد من الأدب والكتب، أو في ما تقادم عهده منهما، فتخال أن لهم آناف الهررة في الشم، حينما يميزون بدقة ورصانة ومنطق فحل بين الساقط والمرذول والرفيع الأشم وما بين هذين من ألوان الأدب وأفاويهه.
ويخوضون في الأدب القديم شعره ونثره فيأتون بنماذجه من امرئ القيس إلى شوقي ومحرم وغيرهما، ومن الإمام علي بن أبي طالب إلى المازني والعقاد وما إليهما، فيتساقط منهم الرائع المعجب من الإِصابة في الحكم والرصانة في الرأي، والسداد في النظر والعمق في الالتفات إلى أسرار المعاني في الألفاظ وأسرارها.
بيتان جميلان من جيد الشعر القديم يذكر فيهما صاحبهما شدة الظلام وشدة البرد، ولا يأتي فيهما -مع ذلك- بشيء من التدجيل والتهويل والبرقشة التي يتكلفها عشاق الفسيفساء من الألفاظ البراقة الجوفاء:
وليلة من جمادى ذات أندية
لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
حتى يلفَّ على خيشومه الذنبا (2)
أجل الكلب على نفاذ بصره في الظلام وشدة جلده على البرد هو الذي يتركه الشاعر يلبس هذه الليلة الحالكة الباردة ويستشعر ما فيها من هول الليل -وهو وحده يكفي فكيف إذا آزر هذا الهول الهائل ظلام داج وبرد قارس؟
يتحدث أدباؤنا في هذين البيتين مثلاً، ويلتفت كل منهم إلى معنى يدق عن فهم الآخر، ويدرك بعضهم من الصور والأطياف التي لا تؤديها الألفاظ، وإنما تكمن وراء حركة ألفاظه واطرادها على نسق مختلف أو رتيب، أو تضمرها الموسيقى في البيتين إضماراً بعيداً خافتاً لاهث النفس؛ أجل يدرك من ذلك ما لا يدركه الكثيرون من الفحول المتمكنين.
والشعر -الشعر خاصة- بأثره في نفس قارئه، وهذا الأثر لا يولده إلاّ الذوق الأدبي المرهف، فقد تقترن هذه الصورة الشعرية عندي بما لا تقترن به عند القارئ الآخر، وقد تلتبس بصورة أخرى لا تمت إليها بصلة -في الظاهر- ولكنها على أوثق أساس معها في أخفى الدقائق الشعرية.
دع الذوق الأدبي في غير الأدب من فضائل العلوم والفنون، فلسنا بسبيل التحدث عن ذلك الآن، ذلك لأن الأديب له ذوق خاص فيما سوى الأدب من العلوم والفنون الأخرى تؤديه إليه مطالعاته الخاصة وثقافته الاجتماعية، وقد لا يؤبه لهذا الذوق، ولكنه -على أي حال- ذوق له حكمه وأساسه، وله ملابساته التي ينفرد بها الأديب عما سواه من الناس.
وليس للحاسة الفنية ولا للذوق الأدبي -إن كانا منفردين أو مجتمعين- أصل يتم الاطراد على أساسه، ولا قاعدة تقوم دعائمه عليها؛ ذلك لأنه متعدد غير موحد مختلف غير مؤتلف، متفرق غير مجتمع، بعدد ما على وجه الأرض من أدباء رفعاء أو وضعاء.
ولا النفس الإنسانية كذلك تقوم على استمرار، أو تسيطر على دوام، فقد تستمرئ اليوم شيئاً وتستهجنه غداً، وتعود إلى استحسانه في يوم آخر، وتسلوه أو تنساه، بعد ذلك، ويغلب على ظني أن السر في ذلك أن نفس الإنسان -كل إنسان- عميقة لا يسبر غورها، بعيدة لا يهتك سترها، وأن للأجواء والبيئات والحالات التي تتناوبها وتختلف عليها أثره الواضح في تقلبها من حال إلى حال، أو استمرارها على طرفي منوال.
وبعد، فالذوق الأدبي عندنا يعد عالياً جداً، ولا سيما إذا قيس بالعوامل التي تؤثر على هذا القطر من جدب أو فقر أو ضآلة في التعليم والتمدين أو قلة أخذ بأسباب العرفان الحديث، وهو عرفان يجب أن نحسب له حسابه، سواء أخذنا به الآن، أم لم نأخذ، فإنا لآخذون به إن شاء الله بعد مدى طويل أو قصير..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :465  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.