شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بقية الأشياخ (1) (1) !
منذ مدة قليلة نعت بعض صحفنا شيخنا وإمامنا وأستاذنا "محمد العربي الجزائري أبا عبد الله"، فعليه سحب وابلة من الرحمات الإلهية.
بين عامي 45 و 1346 كنت يومئذ في أوهاق الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة من العمر غليماً نحيفاً أطلب العلم -وما أزال- بمدرسة الفلاح بالقشاشية بمكة، وكان مديرها حينذاك أستاذنا الجليل "عبد الله حمدوه السناري" رحمه الله الذي كنا نقرأ له مع الشرح كتابه المفيد "مفتاح التجويد للمتعلم المستفيد" بكل ما فيه من إخفاء وإظهار وغنة واستفهام وإدغام.
ومن أساتيذنا الفحول الذين قلّ بأن يوجد لهم نظراء في هذا الزمن الممحل من أمثال: الطيب المراكشي، وعمر حمدان، وزيني كتبي، وسليمان غزاوي أشباه البحور الخضارم التي لا تسبح فيها السفن الضخام إلاّ على غرر.
ومن رصفائي الملازمين من أمثال الإِخوة الكرام: إبراهيم الجفالي، وعلي حناوي، وغيرهم ممن سحبت عليهم الذاكرة "الناسية" ذيلها، وكنت أصغر القوم سناً.
وكنا نؤخذ بالشدة، ونلحظ بالنظر الشزر، و "الفلكة" معلَّقة أمامنا، وبيد كل شيخ أشيب عصي تتأود من الخيزران.
نتدارس الفقه والتفسير والنحو والصرف والخط والتاريخ وغيرها على نفحات من أولئك المشيخة البررة.
وكانت الكتابة بالريش ممنوعة، كنا نكتب بالأقلام البوص يجيدون لنا بريها وإمالتها بعضُ المعلمين مثل: حامد كعكي رحمه الله، ومحمد نوري وسواهما.
كنا نتقيل كتابة "الأمشاك" بخط نجيب هواويني، خطاط الملك فؤاد رحمهما الله، نبتاعها من مكتبة أحمد حلواني تحت المدرسة، فنفتن في خطوط الرقعة والنسخ، والثلث، والفارسي وغيرها، وأمام كل منا محبرة زجاجية نضع فيها خيوطاً من العهن والقطن، ونذيب المداد الأسود بعد تفتيته وتليينه بالماء..
وقدام كل طالب حقيبته من أدم أو قماش يحفظ فيها كل مواده الدراسية؛ ولأن دارنا بأعلى المعابدة، والمدرسة في سرة مكة أمام الحرم الشريف، كان يلزمني التبكير، فإن وراءنا "بنونة" رحمه الله، فمن تأخر عن الوقت المعلوم سقاه عشر أو خمسة عشر كأساً دهاقاً من خيزرانته الثعبانية التي يلتقي طرفاها من فرط لينها على القدمين بعد أن تشدا بعمامة يتجاذب طرفيها تلميذان غليظان!
حتى إذا كان بعيد العصر احتقبت حقيبتي وعدت إلى الدار على الأقدام كما بدأت.
لم أمكث في مدرسة الفلاح طويلاً، فقد هربت قبل أن أكمل العامين.. تركتها في العام الذي تخرج فيه أساتذتنا علوي مالكي، وحسن فقي، وغيرهما ممن أنسيتهم..
في تلك الأيام كنت مشتركاً في مجلة "اللطائف المصورة" لإسكندر مكاريوس ومجلة "البلاغ الأسبوعي" لعبد القادر حمزة، ومجلة "المقتطف" الذائعة الصيت، وفي أيامها نشرت المجلة الأخيرة ملحمة فوزي المعلوف "شاعر في طيارة"!
وفي السنة نفسها زار صاحب مدارس الفلاح معلم الخير الشيخ محمد علي زينل رضا الحجاز في أوبة له من الهند فأقيمت له حفلة بالمدرسة، عطلت فيها الدراسة، وتبارى فيها الخطباء بين يديه، وكنت من بين التلاميذ الذين احتشدوا من كل الصفوف والأقسام، ومن بين الخطباء أستاذنا "أمين كتبي"، ومطلع قصيدته ولا أتذكر بقيتها:
من نورك النّيران الشمس والقمرُ
ومن ندى راحتيك البحرُ والمطرُ
وبعد أيام من مغادرتي لمدرسة الفلاح أخرجت "قيحة" من صدري، وسميتها قصيدة -ومن حسن حظي وحظ القرّاء أني لا أحفظ منها شيئاً- وبعثت بها إلى أستاذنا "علوي مالكي" مد الله في عمره، فأجابني بخريدة من خرائده العصم، حفظت منها هذا البيت فقط:
يا هاجراً [روض] (2) الفلاح وأهله
ما كان هجرك للفلاح صوابا
ما أحلى تلك الأيام.. ألا ما أحلاها..!
رحم الله إمامنا وشيخنا الندب أبا عبد الله محمداً العربي الجزائري، وغفر الله لبقية مشايخنا ممن سبقوه وممن بقوا أجزل المغفرة وأوفرها.
أولئك "أشياخي" فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ (3)
 
طباعة

تعليق

 القراءات :501  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 67 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.