شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جواب فات أوانه (1)
قال لي أحد الأدباء الأصدقاء يوماً: إن فلاناً -وهو رجل كبير- ارتفع عن العداوات والصداقات نهائياً.
وكدت أراع فإني أعرف أن هذا الفلان لم يقم مجده، ولم يمتد نفوذه إلاّ على أسس مكينة من الإكثار من الصداقات، والإقلال من العداوات بقدر ما أمكنه، وبقدر ما وسعه جهده المحدود في بدء أمره، حتى إذا تسنم ذراه السامقة، وبلغ مكانه الرفيع الذي لم يكن يحلم به ولا بما يقاربه في يوم من الأيام، أخذ يحسب أدق ما يمكن حسابه من العداوات حتى مما وراء الأصفار وأجزاء أجزائها، وطفق يسدد ضرباته النافذة إلى من يعنيه أن يقيهم أو يدنيهم، فأما الصداقات فقد قلّت مبالاته بها إلاّ ما يختص بالصداقات المادية المحضة، ولم يعد يستكثر من الصحاب كما كان يفعل -أتباعاً لرأي ابن الرومي المشهور (2) - بل ازداد دلالاً وملالاً، فأنشأ يجدد صداقاته وأصدقائه كل يوم وليلة، فبينا ترى ذاك قريباً إذا هو بعيد، وبينا تجد ذاك مدْبِراً إلاّ وقد أقبل إقبالاً -سريعاً- وهكذا دواليك أو دواليه هو إن جاز هذا التعبير.
ولست أقصد بهذا أنه لا يوجد في بلادنا أناس ارتفعوا عن هذه السفاسف التافهة، ولكن الذين يرتفعون عنها، يرتفعون أيضاً عن بواعثها، أو عن سبل الطماح إليها، فكيف يرتفع رجل لكبر بعد صغر، وصغر بعد انخفاض وما تزال بواعث نفسه مستوفزة فيه، وسبل الطماح ممدودة أمامه؟
وليس التحليق فوق الصداقات والعداوات بالأمر الميسور؛ فإن عدم المبالاة بأمثال هذه الأشياء غير طبيعي في الأمزجة البشرية التي تقاربت أوشاجها، وتعددت أوجه المشابه بينها؛ ولكنه كذلك ليس بالأمر المتعذر أو النادر عند الشعراء الخياليين، والفلاسفة المثاليين، وعند الناس الفارغين أيضاً، فأنا مثلاً -وأنا من النمط الأخير بلا مراء- يسعني جداً وبسهولة أن أسقط الصداقات والعداوات من حسابي لسبب بسيط، وهو أنه ليس عندي ما يشجع على صداقتي، وليس فيّ ما يغري بعداوتي، فعلام أقلقل دماغي وأعني نفسي؟
ويسع فلاناً هذا الذي أشار إليه صديقي الأديب أن يكون كذلك، ولكن لسبب آخر، وهو أنه أصبح بمنزلة بلغت من العلو، بحيث لا يحتاج معها إلى منفعة صديق، ولا يخشى فيها مضرة عدو.
فتأمل.. فإن الغاية واحدة غير أن السببين مختلفان، وكم من غاية واحدة يُسعى إليها بآلاف الطرق التي تختلف سهولة ووعورة وطيباً وخبثاً، وكرامة وهواناً.
فما أعجب أمر هذا التراب، وأعجب منه هذه المخلوقات التي تولدت في حمأته، ثم أخذت تدب فوقه في خيلاء وغرور!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :427  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج