شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الوسام العالي (1)
لكل دولة وسامات عالية لا يحظى بها إلاّ أعاظم الملوك، وأكابر القواد، وقد ينالها من لم يملك بلاداً ولم يقد جيشاً؛ ولكنه امتاز بعمل جليل للعلم أو للفن أو للوطن كدح في سبيله حتى برز به إلى الناس فارتفع به إلى مصاف الأفذاذ الخالدين واكتسب به ثناء أمته وتقدير حكومته، ونال به إلى ذلك علو المكانة وسعة الشهرة. والأعمال الجلائل لا يحصرها حاصر ولا تنتهي إلى مدى محدود؛ وقد يعد عملاً تافهاً ما يعد عملاً جليلاً عند الأمم المتقدمة وبالعكس، فمثال ذلك الفنون الجميلة، ولنفرض أن حجازياً برع في الموسيقى وابتكر الألحان وجدَّد في الأنغام كأسلافه الأولين (معبد، والغريض، وطويس وغيرهم) حتى فاق في هذا الفن مشاهير الموسيقيين العالميين مثل "شوبرت وموزار وبيتهوفن" فماذا يستحق منا؟ وهل يمكننا الأخذ بأوده والتباهي به؟
ولنفرض أيضاً أن حجازياً مهر في النحت أو الرسم، وبلغ من اقتداره أنه يستطيع أن يصور العواطف من غضب ورضا وحزن وفرح وبغض وحب وألم وأمل وغيرها على قطعة من حجر أو في صفحة من الورق، وسحب ذيل التفوق على النوابغ في هذين الفنين أمثال "جيوفاني، وفريدريك وات، ورفائيل" فماذا نعمل أيضاً لأجله؟ وهل في مقدرتنا أن نمهد سبيله أو نؤازره؟ والجواب على هذين السؤالين لا يجهله أحد، فالموسيقى والنحت والرسم كل هذه فنون لا نفهمها حق فهمها إلاّ كما يفهم التلميذ المبتدئ الصغير قصيدة من قصائد "عنترة" حين يحصبون بها وجهه في مدارسنا، ويرغمونه على استظهارها فيحفظها لأول مرة للتغني بها أو لإلقائها وهو لا يفهم معانيها ولا يعرف عن هذا "العنترة" شيئاً ولا يكاد يصدق أنه وجد في العالم قبل 1400 سنة رجل عربي في بلاد العرب؛ يوم كان العرب أذلة متفرقين وكان في شبابه يرعى الجمال ويسوق الظعائن، ثم استطاع بعد ذلك -كما يقول أو كما يقال- أن يهدد كسرى، ويتوعد النعمان، وينازل.
مهدنا بهذه الكلمة التي استطردنا فيها إلى ذكر الفنون الجميلة والمدارس لحديث نريد أن نقوله عن "مشروع القرش" (2) ، وهذا المشروع يطول فيه الكلام ويلذ بقدر ما يطول، ولا يلذ الحديث عنه ويمتع إلاّ عند من يحبذ فكرة هذا المشروع، ويؤمن بنتيجته ويعرف مبلغ خطورته ويقدره حق قدره، وهؤلاء قليلون بلا شك، ففي الحقيقة أن هذا المشروع شغل الناس الآن وسيشغلهم فيما بعد، ولكنهم مختلفون في فهمه وفي الغاية منه، ولا يزعجك مثل هؤلاء العوام والبداة فهم يسمعون به ولا يعلمون عنه شيئاً فتراهم يستفسرون ويلحون في الاستفسار، ولكنهم لا يقتنعون لا بالأسلوب الفطري ولا بمنطق "أرسطو"، وإذا استرسلت في التحدث إليهم وتبسطت في مناقشتهم رجعت منهم بواحدة من اثنتين: إما أن يسيء أحدهم الظن به، أو يصارحك بعدم المبالاة به وضعف الأمل فيه، ومع هذا فسيساهمون في المشروع -على علاتهم- مسلمين لأمر الله -كما يقولون- ونحن لا تعنينا آراؤهم في المشروع إلاّ بعد أن يروا الواقع المشهود أمام أعينهم، وحينذاك يؤمنون بما كانوا يكفرون به من قبل..
إذا رأوا كيف تستغله الجمعية العمومية أحسن استغلال، وتستثمره فيما يعود عليهم بالخير وعلى وطنهم بالتقدم في الصناعة والزراعة، وشاهدوا كيف تشاد المعامل والمصانع للكبريت والصابون والأقمشة على اختلاف أنواعها، وكيف تخلو بلادهم من العاطلين والسائلين، وكيف يستحيل الجديب خصيباً والخراب عمراناً وأحيطت مدنهم بالحدائق والحقول، وعُبّدت الطرق الوعرة، وأجريت العيون الواقفة وحفرت الآبار المطمورة، وأقيمت الشوارع المعوجة وفتحت المدارس للعلوم والفنون، إذا رأى العوام هذه النتائج شيئاً فشيئاً ولمسوها بأيديهم هناك يندفعون لمعاضدة المشروع ويجنّون به جنوناً ويبذلون في سبيله كل ما وسعته جهودهم... فيا أيها الوطنيون ذوو العزمة المباركة في سبيل الوطن العزيز، ذوو الغيرة المتأججة على الوطن العزيز، إن هذا الوطن لا ينهض إلاّ على أكتافكم ولا يتقدم إلاّ على أقدامكم. إن وطنكم المقدس إن لم يأكل من كسب يده، ويلبس من نسيج يده، فغير ممكن أبداً أن يأكل من "مائدة عيسى" أو يلبس من حلل الجنة السندسية!!
إن أثمن وسام يحمله الوطني الحر في يده، أو يضعه على صدره هي تذكرة القرش يأخذها المتبرع في يده، أو شارة التطوع يضعها المتطوع على صدره، هي والله وسام لا كالأوسمة، وسام لم يحمله ولم يحظ بتقلده "الإمبراطور غليوم" في مواقف الفخر، ولا "المارشال هندنبرج" في معارك النصر، هو الوسام الذي يتسامى به رأس وطنك عزاً واعتلاء، هو الصرح الشامخ الذي لا تطاوله الصروح، هو ثروة بلادك التي لن تفتقر بعدها، هو عز شعبك الذي لن يذل بعده.
فلا يستنكفنَّ أحدكم من السعي لمؤازرة هذا المشروع المشترك وجمع القروش له وبث الفكرة بين طبقات هذه الأمة، فلست أرى مبرراً لهذا الاستنكاف، وقد يجوز هذا الاستنكاف لو أن أحدكم يجمع القروش ليقيت بها أهله أو ليضعها في كسبه، ولكن هذا الوطن يتطلب منها جهداً كبيراً وعملاً عظيماً وله في أعناق الجميع دين رهيب تنقصم تحته الكواهل الغلاظ وهي لم تسدده ولم تقم بحقه، فلتعمل كل نفس بما وسعته من طاقة، ولنستمد العون والتوفيق من الرب الكريم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :748  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 5 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.