شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الاستعمار والمذاهب الاستعمارية
دكتور محمَّد عوض محمَّد
هل هي من أسماء الأضداد كلمة "استعمار"؟ أم أنه النفاق السياسي الحديث، أحال هذه الكلمة من معناها الحقيقي إلى معناها الإمبريالي التحكمي في عصرنا الراهن؟
الواقع هو هذا.. دون أي جدل أو أي افتراء! وإلاّ فأين "الاستصلاح" أو أين "التعمير"..؟ ذلك الذي نفهمه بكل وضوح عندما نسمع كلمة استعمار.. لا شيء سوى التسلط.. إذن لا شيء سوى الاستغلال.. هذا الذي أصبحت تؤديه هذه الكلمة في ظل الحضارة الغربية!
من أجل ذلك أصبحت هذه الكلمة بغيضة كل البغض في دنيا اليوم.. بعد أن أحالتها تصرفات السياسيين الاستعماريين من معنى إلى آخر، ومن مدلول إلى مدلول!
وليس من شك في أن الاستعمار اليوم غيره بالأمس القريب، بعد أن تيقظت الشعوب، وبعد أن تتابعت الحركات الاستقلالية هنا وهناك.. إنه الآن يعاني "حشرجة".. إنه في طريقه إلى زوال مهما حاول أن يتماسك.. وهذا ما لا يمكن أن نشك فيه!
ولكن هل هذا ينسينا ماذا كان يخطط، أو ماذا كان يصنع -ويصنع إلى اليوم- في جزء ليس باليسير على أي حال من أجزاء الكرة الأرضية..؟ هل هذا ينسينا أيضاً أننا أمام قضية فلسطين وأمام خطر استعماري جديد أكثر ضراوة ووحشية من سواه، وهو الخطر الاستعماري الصهيوني؟
ذلك الخطر الذي يشير إليه مؤلف هذا الكتاب بتوسع أكثر على أساس أنه موجه إلى قلب البلاد العربية بإصرار عنيد.. فجدير بأبناء البلاد العربية إذن أن يزدادوا وعياً بخطره، وتفهماً لأبعاده وأساليبه وحاضره وماضيه.. وأن يعملوا بالتالي -وهذا هو الأهم!- على دفع هذا الخطر عن بلادهم بكل ما يستطيعونه من قوة..
إن أكثر فصول هذا الكتاب أهمية هو هذا الفصل الذي تناول فيه المؤلف الاستعمار الصهيوني..!
وسنجد ونحن نعرض لهذا الفصل مع بقية فصول الكتاب الأخرى الكثير من أعاجيب الاستعمار بنوعيه: القديم والجديد والغربي والصهيوني..
يمهد المؤلف لفصول كتابه هذا بكلمة يقول فيها: "الهدف المنشود من نشر هذه الفصول هو التعريف بالاستعمار، من حيث هو ظاهرة سياسية تسود العالم، وتخلق علاقات بين الأمم والشعوب، لا تنطوي على المساواة والعدل.. بل على القوة والبغي..!
.. وقد هدى البحث إلى أن للاستعمار مذاهب وطرائق، بعضها ينحو ناحية القهر والغلبة وبعضها يرمي إلى الاستغلال المالي، وبعضها يقال إنه أملته الضرورة العسكرية، لذلك لم يكن بد بعد أن نحاول شرح هذه المذاهب، أن نعرض إلى تلك الأنواع، وأن نضرب أمثلة مستقاة من حوادث التاريخ لكي تكون معالجتنا مبنية على الواقع المشاهد الملموس..
وقد استقينا هذه الأمثلة -يقول المؤلف- من جهات شتى، وأكثرها مما يتعذر على القارئ أن يعثر عليه في كتب التاريخ المتداولة.. كذلك لم نستق أمثلتنا عن الاستعمار من أحداث الشرق الأوسط أو البلاد العربية إلاّ نادراً لأن معظم الأحداث التي تعرضت لها هذه البلاد معروفة للجميع، ولم نستثن من ذلك سوى مشكلة الاستعمار الصهيوني.. لأن أبناء البلاد العربية مع الأسف لا تكاد حتى اليوم تدرك تمام الإدراك خطر هذا الاستعمار مع أنه أشد وأضخم من أي خطر آخر تتعرض له البلاد العربية اليوم.. وذلك لأن الاستعمار الأوروبي يهددنا من الخارج، أما الاستعمار الصهيوني فقابع في قلب البلاد العربية كالداء الوبيل الكامن في الجسم، والدول الاستعمارية تتناول سياستها ومشاريعها أقطار عديدة، ولها خصوم أشداء يناصبونها العداء، أما الصهيونيون فإن مشاريعهم كلها منصبة على البلاد العربية وليس لهم خصم أو عدو سوى الشعوب العربية فكل جهودهم موجهة إلى الوطن العربي، وكل شرورهم مكرسة لإلحاق الأذى البالغ بأبناء ذلك الوطن..
* * *
يشتمل الكتاب على مقدمة وسبعة فصول.. ويخص المقدمة بالحديث عن "عالم نصفه عبد ونصفه حر"، يقول فيه: "في جميع أرجاء الأرض أقطار يصفها الناس بأنها ممتلكات ولن يكون من الصعب عليك أن تتعرف عليها، فهي مصبوغة في الخرائط الجغرافية بمختلف الألوان من حمراء وزرقاء وخضراء: هذه ممتلكات بريطانية، وتلك فرنسية والأخرى بلجيكية، وليست هذه الممتلكات قطعاً صغيرة أو أقطاراً محدودة المساحة بل كثيراً ما تشمل قارة من أكبر القارات وأضخمها، كقارة أفريقيا كلها التي ليس فيها قطر واحد، بل ولا شبر واحد من الأرض لم يرزح هو وسكانه في وقت من الأوقات تحت نير الحكم الأجنبي في مختلف صوره وأشكاله"..
فعالمنا اليوم منقسم إلى قسمين مالك ومملوك، والمالكون فئة صغيرة من سكان هذا الكوكب والمملوكون أقطار واسعة فسيحة وشعوب كبيرة العدد، متنوعة الأجناس والألوان.. هذه هي أعظم الظاهرات السياسية في عصرنا هذا، وأحقها بالدراسة والبحث، ومهما حاولنا أن نلطف من هذه الظاهرة فإننا لن نستطيع أن نصفها إلاّ أنها عبارة عن استعباد سياسي.
ويقول المؤلف في مقدمته هذه: "وليس الاستعمار بالأمر الحديث فقد شهد العالم القديم إنشاء دول ضخمة مثل إمبراطورية بابل وآشور وإيران، ومثل الدولة الرومانية..
لكن هنالك فروقاً واضحة بين الاستعمار القديم والحديث وسنحاول إظهارها، ومنها سيتبين أن الاستعمار الحديث في ظروفه وملابساته التي نشاهدها اليوم، هو إثم من أكبر الآثام وإجرام بشري ليس له نظير في التاريخ كله..
.. ومهما حاول المؤرخون أن يجدوا أسباباً مختلفة للحروب العالمية الأولى والثانية فليس هناك أدنى شك في أن أهم تلك الأسباب التنافس الشديد في الميدان الاستعماري.
وهكذا نرى شهوة الاستعمار تسمم العلاقات الدولية، وتوغر صدور الأمم، وتوقد نيران حروب تلتهم الأخضر واليابس، وتزداد فتكاً وتخريباً على مدى الأجيال..
كذلك نرى الاستعمار قد أفسد الأخلاق السياسية، وانحط بها إلى الدرك الأسفل من الكذب والرياء والتضليل، وإخلاف العهود.. والحنث بالإيمان والمواثيق.. وقد تناولت شهوة الاستعمار الأوروبي بلاد العالم العربي كما تناولت غيره من الأقطار، وبيتت له شر النيات، وأضمرت له خططاً كلها ظلم وإرهاق، مع أن العالم العربي وارث حضارات مجيدة، وطالما رفع لواء العلم والعرفان، واستظل العالم بفضله ظل الأمن والعدل دهراً طويلاً.. فلم تتورع المخالب الاستعمارية من أن تنشب أظفارها في قلبه، وأن تكيد له أمرّ الكيد.. واشتد غيظ الاستعمار حين رأى الشعوب العربية تأبى الضيم، وتحرص أشد الحرص على أن تنعم أوطانها بكامل حريتها واستقلالها، وزاد في غيظه أن رأى أبناء هذه الشعوب لا يقلون عن المستعمرين ذكاء وفهماً، ويستطيعون أن يجاروهم في ميدان التقدم والرقي، فاضطر الاستعمار لأن يسفر عن حقيقته البشعة، فأخذ يرتكب الإثم والمنكر جهاراً، فلا يتورع عن الالتجاء إلى أسلحة التخريب والتدمير، ويصب على الأمم البريئة جام غضبه، لأنها لم تخضع ولم تهن، وحاول أن يغرر بها باتخاذ أسماء جديدة مثل الانتداب والوصاية والحماية، فلم تؤثر فيها الخديعة ولا الرياء بل مضت في جهادها لنيل حقها الشرعي في الحرية والحياة الكاملة..".
ثم يتحدث المؤلف في أول فصول كتابه عن المسرح الجديد للسياسة الدولية، ثم ينتقل منه إلى الفصل الثاني ليتحدث عن الاستعمار قديماً وحديثاً، وفي هذا الفصل يقول:
"ليس في ميدان السياسة العالمية اليوم حقيقة أظهر أو أبرز من ظاهرة الاستعمار التي بات من نتائجها أن قسمت الأرض إلى بلاد مالكة، وبلاد مملوكة، وبلاد مستقلة ليست بمالكة ولا مملوكة.. وربما أضيف إليها نوع رابع ليس بمالك ولا مملوك في حالة وسط.. وهو على الأرجح من الأمثلة القليلة التي يمكن أن يقال فيها "شر الأمور الوسط".
وجدير بنا -ونحن في سبيل دراسة هذه الظاهرة دراسة دقيقة- أن نبدأ بتعريفها وتحديد معناها، ولقد يخطر لأحدنا أن يبدأ دراسته لمعنى الاستعمار بمراجعة المعاجم، أو كتب اللغة، أو دوائر المعارف، ولكن الباحث في هذه الأسفار لن يؤوب حتى بخفي حنين.. فإن في لسان العرب مثلاً عشر صفحات في مادة "عمر" بتشديد الميم.. ولم يرد فيها حتى كلمة الاستعمار.. ودائرة المعارف البريطانية خالية من مادة "إمبريالزم" كمادة مستقلة، ومن أية مادة أخرى في هذا المعنى.. وقد اشتقت الكلمة العربية في شيء من التفاؤل من مادة "العمر" و "العمران" ولم يدر بخلد الواضعين لهذه الكلمة أن سيجر هذا العمران إلى شر أنواع التخريب والتدمير.
وبديهي أن من العبث أن نرجع إلى أسفار اللغة في تعريف معنى الاستعمار، لأن هذا لفظ اصطلاحي بحت.. وإن لم يكن من الألفاظ التي أصبح معناها مقرراً محدداً لدى جميع الكتاب.
ويمضي المؤلف في كلامه إلى أن يقول: "وصفوة القول أننا في حاجة لأن نعرف لفظ الاستعمار تعريفاً سهلاً واضحاً، يتيسر لدراستنا هذه.. فالاستعمار المقصود هنا هو "العمل" أو مجموعة الأعمال التي من شأنها السيطرة، أو بسط النفوذ بواسطة دولة أو جماعة منظمة من الناس على مساحة من الأرض لم تكن تابعة لهم، أو على سكان تلك الأرض، أو على الأرض والسكان في آن واحد، وهذا التعريف كافٍ في ما يخيل لي، لأن يشمل جميع أنواع الاستعمار.. ثم يتحدث المؤلف عن الاستعمار القديم والحديث مقارناً بينهما مشيراً إلى ما يلاحظ من الفروق بينهما وما يصاحب كلاً منهما من الصفات.. ومما يقوله في هذا الصدد:
"من الظاهرات الغريبة في الاستعمار الحديث أنه ليس من الضروري أن تقوم به الدولة نفسها.. بل كثيراً ما تولى الأفراد -في صورة شركة- جميع أعمال الاستعمار..
.. وقد تناول الاستعمار بواسطة الشركات أقطاراً عظيمة الأهمية في القرن السابع عشر منها الهند، وجنوب أفريقيا وجزر الهند الشرقية.. وفي القرن التاسع عشر ألفت شركات عدة لاستعمار القارة الأفريقية..
.. وكان قيام الشركات بهذه المشاريع الاستعمارية بدلاً من أن تضطلع بها الدولة نفسها عملاً ملائماً للحكومات كل الملاءمة؛ فقد استطاعت أن تترك الأفراد يرتكبون ما يشاؤون من الفضائح من أجل الاستيلاء.. ومهما اقترفوا من الإثم والوحشية فهم على كل حال أشخاص غير مسؤولين، وتستطيع الحكومة في النهاية أن تقضي بحل الشركة -بعد تمام الفتح والاستيلاء على المستعمرة- وتتولى إدارتها بنفسها بعد أن تمنح الشركة تعويضاً كريماً في مقابل ما أنفقت من الجهد والمال، وهكذا تجيء الدولة في صورة المنقذ المخلص للشعب الأفريقي من مخالب الشركة التي سمحت بإنشائها، وبذلت لها غير قليل من المعونة والإرشاد..".
* * *
ومن أهم مزايا الاستعمار الحديث أن له كتاباً وفلاسفة يدافعون عنه ويشرحون أغراضه ومراميه..
فهم يقولون مثلاً إن الدولة لن يكون لها شأن له خطر إلاّ بالتوسع والاستعمار..
ويقول آخرون: إن الدولة صاحبة الشأن لها "رسالة عالمية مقدسة" لا بد أن تنشرها وتبثها بين الشعوب.. ألا وهي رسالة المدنية والحضارة.. رسالة تقضي عليها بأن تبذل وتضحي لرفع مستوى الشعوب.. وليس الفتح غاية، بل وسيلة لإعلاء البشرية والسمو بها إلى آفاق العزة والكرامة والحرية!!
وقد وصف أصحاب هذا المذهب تلك الرسالة التي تؤديها الشعوب الأوروبية بأنها "عبء" يحمله الجنس الأبيض.. وهو عبء ثقيل فادح، ولكنه محبب إلى تلك النفوس الاستعمارية التي جعلت هدفها: "رفع شأن بني الإنسان في كل مكان"!!
ونحن الذين نشاهد أعمال الاستعماريين عن كثب قد نسخر من هذه الأقوال، أو نراها ضرباً من الهذيان، أو النفاق..
ويتابع المؤلف إشارته إلى أنواع عديدة من الاستعمار في العصور الحديثة.. إلى أن يقول: "وصفوة القول أن التكالب على الاستعمار والمستعمرات إن لم يكن السبب المباشر في الحربين.. فإنه على الأقل هو السبب في إفساد العلاقات الدولية وفقدان الشعور الإنساني، وبذلك كان على الأقل سبباً غير مباشر في هذه الحروب العالمية وفي النكبات الهائلة التي أنزلتها بجميع الشعوب!".
ثم يتحدث في الفصل الثالث عن الانتداب والوصاية والاستعمار.. وفي الفصل الرابع يحدثنا عن الاستعمار العسكري. كما يخص الفصل الخامس بحديث مستفيض عن حرب الأفيون التي شنها الاستعمار على الصين لسنوات عديدة من أجل أن يرغم سكانها وحكوماتها على قبول الأفيون كسلعة تجارية مشروعة من أجل ما يجنيه تجارها من الأرباح الطائلة وما يحصلونه من الثروات الضخمة من المتاجرة في هذه السموم!
أما الفصل السادس فيخصه المؤلف بالحديث عن "مأساة" وقعت في العصر الحديث، مثل فيها الاستعمار أفظع أدواره العدوانية!
وتلك هي المأساة التي أوقعها الاستعمار في الهند أثناء ثورتها الاستقلالية في عام 1919م واشتهرت بمأساة "أمرتسار"! إحدى المدن الهندية المشهورة. لقد كانت مأساة أمرتسار مثالاً مخزياً للعدوان الاستعماري ذهب ضحيتها الكثير من الهنود الوطنيين في ثورتهم على المستعمر!
ونمضي مع المؤلف في آخر فصول كتابه في حديثه عن الاستعمار الصهيوني.. وفيه يقول:
".. لقد أصبح الاستعمار الصهيوني أكبر خطر يتهدد الدول العربية، لذلك كان جديراً بنا أن نمعن الفكر في أمره، وأن ندرسه ونطيل دراسته..
بدأت الصهيونية أعمالها المنظمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واتجهت في جهودها إلى وجهتين:
الأولى: الجماعة التي كانت تحركها نزعة دينية ثقافية وغرضها أن ترى في فلسطين مركزاً محدوداً تقام فيه الشعائر الدينية اليهودية بكامل الحرية، وتحيى فيه اللغة العبرية وتنشأ فيه مؤسسات ثقافية واجتماعية يهودية مع تمتع اليهود بكافة الحقوق التي لجميع سكان فلسطين دون أن تكون لهم أية نزعة استقلالية..
أما الطائفة الثانية التي لم تلبث أن طغت على الأولى فهي الصهيونية السياسية التي ترمي إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين يحتشد فيها المهاجرون من الأقطار الأوروبية التي يكثر فيها اليهود مثل روسيا وبولندا، وتجمع لها الأموال من سراة اليهود في جميع أنحاء العالم.. هذه الطائفة التي أخذ أمرها يستفحل في نهاية القرن الماضي لم تلبث أن نظمت تنظيماً دقيقاً وأصبح لها هيئات في كثير من الأقطار الأوروبية والأمريكية، ومؤتمر صهيوني عام يعقد مرة في كل عامين، وقد عقد لأول مرة في مدينة "بال" بسويسرا عام 1897م.
في ذلك الوقت كان بعض الأغنياء من اليهود قد ساعد فعلاً على إنشاء عدد صغير من المستعمرات الصهيونية التي تشتغل بالزراعة، لكن مثل هذه المستعمرات لم تكن لتطفئ غليل هذه الصهيونية.. ولذلك تقدم رؤساؤها إلى السلطان عبد الحميد يلتمسون منه أن يسمح بإنشاء "جمهورية" يهودية في فلسطين في مقابل إعانات مالية ضخمة.. فرفض السلطان فأعادوا الكرة، فأعاد الرفض، ولم يكتف بالرفض بل أمر أن يسمح لجماعات صغيرة من اليهود إذا شاءت أن تنزل في أية بقعة من الدولة العثمانية ما عدا فلسطين!
أمام هذا الرفض الحازم حاول الصهيونيون أن يسمح لهم باحتلال قبرص فرفضت الحكومة البريطانية طلبهم، ثم طلبوا أن يسمح لهم باحتلال منطقة العريش من أرض مصر، وهي على كل حال متاخمة لفلسطين، فأذنت لهم السلطات المختصة بأن يرسلوا بعثة صهيونية إلى العريش للبحث والتنقيب، فانتهت تلك البعثة إلى أن الإقليم صالح للاستعمار على شرط أن يسمح لهم بجلب الماء من نهر النيل، فأبى اللورد كرومر الموافقة على هذا المشروع فأهمل.. اكتفى الصهيونيون في السنوات التالية بتقوية المستعمرات التي سبق إنشاؤها في فلسطين وبتوحيد صفوف أتباعهم في مختلف الأقطار، وترقب أول فرصة سانحة لتحقيق أطماعهم.. وقد أتيحت هذه الفرصة أثناء الحرب العالمية الأولى.. ومن الممكن أن نعتبر هذه الحرب بمثابة نهاية المرحلة الأولى من الاستعمار الصهيوني..
.. جاءت الحرب العالمية الأولى فرأت الهيئة الصهيونية العالمية أن تتبع سياسة الحياد الرسمي، ولكن فروعها في ألمانيا من جهة، وفي بريطانيا وأمريكا من جهة أخرى لم تكف عن السعي والجد، فلم تلق توفيقاً يستحق الذكر في الأولى.. ولكنها نجحت نجاحاً عظيماً في بريطانيا وأراد الصهيونيون في بريطانيا أن يحققوا برنامجهم الكامل بإنشاء دولة فلسطين وعارضهم معارضة شديدة يهود إنكلترا فترتب على ذلك تلك السياسة الوسط التي قالت بأن بريطانيا "تنظر بعين الرضى إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين على ألاّ يكون في هذا ما يمس حقوق اليهود في سائر الأقطار، أو حقوق الجماعات غير اليهودية التي تعيش في الأرض المقدسة"..
وقد اندفعت بريطانيا في هذه السياسة لأنها وجدت فيها وسيلة لتثبيت قدمها في أرض تزيد في مقدرتها على الدفاع عن مواصلاتها الإمبراطورية عامة، وعن قناة السويس بوجه خاص، عدا ما تجنيه من المكانة السامية، والمنزلة الرفيعة، إذ تصبح هي الدولة المهيمنة على البلاد المقدسة التي نشأ فيها الدين المسيحي، بعد أن حاول الصليبيون عبثاً انتزاعها من أيدي سكانها.
قبل الصهيونيون -مؤقتاً- تصريح بلفور، وبذلوا مجهوداً جباراً حتى صيغت وثيقة الانتداب على فلسطين صيغة تساعدهم على تحقيق أغراضهم، وتذهب في تفسير ذلك التصريح إلى أبعد مدى يلائمهم، فضمنت لهم أن تتخذ جميع الإجراءات اللازمة لتيسير الهجرة وتشجيعها وتمكين المهاجرين من شراء الأرض واستثمارها واحتلالها بواسطة جماعات متراصة متلاصقة، ومن إقامة المشروعات لاستغلال الموارد الطبيعية في مختلف أنحائها، وفوق هذا كله اعترفت وثيقة الانتداب بحق الهيئات الصهيونية في أن تنشئ وكالة يهودية لكي "تتعاون" مع حكومة فلسطين من أجل تنفيذ جميع شروط الانتداب، فلم تلبث هذه الوكالة أن أضحت حكومة داخل الحكومة!
وبعد أن تم للصهيونيين هذا النصر الباهر في وثيقة الانتداب، أحرزوا نصراً آخر لا يقل خطراً بأن اختارت حكومة الانتداب يهودياً صميماً، وصهيونياً عريقاً وهو السير هربرت صموئيل، لكي يكون الحاكم الأول على فلسطين، فاستطاع الاستعمار الصهيوني في هذه المرحلة الثانية -في الفترة بين الحربين العالميتين- أن يثبت أركانه على قواعد متينة، وأسس ضخمة، وأن يزيد عدد المستعمرين حتى ارتقى من نحو 50,000 في عام 1920م حتى بلغ 660,000 في عام 1940، وازداد العرب في أثناء هذه الفترة زيادة طبيعية حتى صار عددهم يقارب المليون".
ويتابع المؤلف كلامه حول النشاط الصهيوني في هذه المرحلة.. إلى أن يقول: "ورأت بريطانيا -بعد لأي- أن الاستعمار الصهيوني يوشك أن يصبح خطراً عليها.. وبدلاً من أن تكون السياسة الصهيونية وسيلة لتثبيت أقدام بريطانيا في فلسطين، رأت نفسها تتخذ أداة لتنفيذ الأطماع الصهيونية، وأدركت أن الخطر على النفوذ البريطاني لا يقل عن الخطر الذي يهدد "الشعب العربي" ولذلك سنت سياسة جديدة ضمنتها "الكتاب الأبيض" الذي صدر في ربيع عام 1939 والذي تقرر بمقتضاه الحد من الهجرة الصهيونية، ووقف بيع الأراضي لليهود في جزء كبير من فلسطين، واتخاذ بعض الإجراءات نحو إعداد البلاد للحكم الذاتي، وقد نفذت شروط هذا الكتاب في أثناء الحرب، ثم خولفت صراحة بعد انتهائها مباشرة..".
ثم يقول المؤلف: ".. وقد رأى الصهيونيون حتى في أثناء الحرب أن بريطانيا لن تمكنهم من التوسع الاستعماري في فلسطين إلى أبعد من المدى الذي وصلوا إليه لأن ازدياد النفوذ الصهيوني أضعف النفوذ البريطاني، أو بعبارة أخرى: إن الاستعمار الصهيوني لفلسطين أصبح خطراً على الاستعمار البريطاني في هذا الركن الخطير من العالم!
وقد كشفت الحرب العالمية الثانية عن ضعف الإنكليز في الميدان الدولي فأصبحوا دولة من المرتبة الثانية تسير في ركاب الولايات المتحدة الأمريكية وتعتمد عليها كل الاعتماد.. ولعلّ الصهيونيين كانوا يتوقعون ذلك، فأعدوا للأمر عدته.. وفي أمريكا ستة ملايين من اليهود لهم نفوذ واسع وسلطان كبير؛ فصناعة السينما كلها في أيديهم، وكثير من شركات الإذاعة والصحافة خاضعة لهم.. ولذلك كان لهم في أمريكا نفوذ أكبر مما يبدو من نسبتهم العددية لجميع سكان الولايات المتحدة، فكان لديهم من وسائل الإغراء ما أمكنهم من تسخير كثير من رجال الدولة، لقضاء شهواتهم وتحقيق مآربهم..
.. وقد وجد يهود أمريكا في الرئيس الأسبق ترومان أداة طيعة لا يرد لهم طلباً ويشكل سياسته طبقاً لما يمليه دعاتهم..".
"ولسنا هنا -يقول المؤلف- في مقام سرد حوادث الحروب الفلسطينية وحسبنا أن نذكر أن الصهيونيين أمكنهم أن يؤسّسوا دولة سموها "إسرائيل".. وأخذوا يشجعون الهجرة إليها من الأقطار، ويجبون لها المال بجميع الوسائل، ويبدون همة فائقة في توطيد أركانها وتدعيم بنيانها، ويسيرون على خطة محكمة وسياسة واضحة الأهداف. وكذا حقق الاستعمار الصهيوني هدفه الذي رمى إليه وأمكنه أن يبلغ مأربه الذي يتمثل في المرحلة الثالثة وهي إنشاء دولة صهيونية في فلسطين.. فهل يقف الاستعمار الصهيوني عند هذا الحد؟ أم هنالك مرحلة رابعة؟
إن تاريخ الصهيونية كفيل بأن يوضح لكل ذي عقل أنها لن تقف عند حد، فإن التوراة أشارت إلى وطن يمتد من الفرات إلى النيل.. وهيهات أن تقعد الصهيونية عن السعي لتحقيق هذا الهدف!!".
بعد ذلك يختتم المؤلف كتابه بحديث مستفيض عن دعاوى الصهيونية العريضة في أن اليهود في جميع أنحاء العالم من أصل فلسطيني، وأنهم حين يطالبون بفلسطين، فإنما يطالبون ببلادهم التي نشأوا فيها.. ثم أخرجوا منها..
ثم ينتهي بعد مناقشة عميقة للمزاعم الصهيونية المضللة في هذا الصدد مستنداً في ذلك إلى أقوال ثقات علماء الأجناس وفطاحل المؤرخين العالميين إلى إثبات بطلان كل هذه المزاعم.. ويقول في ما يقول: "وهكذا يبدو لنا في وضوح وجلاء أن يهود أوروبا -وهم عماد الصهيونية ودعاتها- هم من أصل أوروبي، كما أن يهود اليمن من أصل يمني، ويهود الحبشة من أصل حبشي، ومن الافتراء على الحقيقة أن يقال إن اليهود شعب لا وطن له.. بل هم أعضاء في شعوب كثيرة، ولهم أوطان عديدة، وإن اختلفوا في الدين عن سائر السكان فيها".
"إن صوت العلم في هذا الموضوع الخطير صريح لا لبس فيه ولا إبهام ولا خفاء فيه ولا غموض، وإن الزعم بأن يهود أوروبا من أصل فلسطيني زعم باطل قد فنده العلم وأثبت بطلانه في صورة لا تدع مجالاً للشك".. ويتساءل المؤلف هنا: "هل خفيت هذه الحقيقة عن الساسة البريطانيين في أثناء الحرب العالمية الأولى، حتى اندفعوا إلى تأييد السياسة الصهيونية بكل ما تملكه الدولة البريطانية من القوة والسلطان وضحوا في سبيل تحقيق هذه السياسة بشرف وعودهم التي ارتبطوا بها ارتباطاً مقدساً بأن يؤيدوا القضية العربية في جميع الأقطار العربية؟
هل كان ساسة بريطانيا يجهلون أنهم بزعمهم هذا يكذبون على العلم والتاريخ، أو كانوا يدركون أنهم يجارون الدعاية الصهيونية وهم يعلمون علم اليقين أنها دعاية باطلة؟
إن العلم يفند الدعوة الصهيونية ويحكم بزيفها وبطلانها، كما يقضي بأن تصريح بلفور وصك الانتداب وثيقتان لا تستندان إلى حق ولا بد للعرب أن يعملوا على نقضهما وإلغائهما..
وليست السياسة الصهيونية سوى سياسة استعمارية عدوانية وهي تشبه في كثير من صفاتها السياسة النازية والجرمانية.. وليس في هذا وجه غرابة، لأن قوامها يهود جرمانيون ولذلك لم تختلف أساليبهم الهتلرية في شيء.. فقد كان النازيون أيضاً يمسخون علم الأجناس، ويصبغونه بالصبغة التي تتفق مع شهواتهم، فابتكروا شيئاً سموه "الجنس الآري" زعموا أنه أفضل الأجناس وأن من الواجب أن تكون له الزعامة على جميع الأجناس.
والعلم ينكر وجود شيء اسمه "الجنس الآري".. بل الآرية ثقافة ولغة تتمثل في تلك اللغات المنتشرة في الهند وإيران وأوروبا، وليس لها أساس في جنس أو سلالة، كذلك اليهود واخترعوا شيئاً سموه "الجنس اليهودي" وحشروا فيه سلالات مختلفة متباينة، مع أن اليهودية دين انتشر بين عدد كبير من الأجناس والسلالات التي لا تمت إلى فلسطين بأدنى صلة..
ولئن كانت الدعاية النازية قد انتهت بالنازيين إلى إشهار حرب عالمية، فإن الدعوة الصهيونية موجهة إلى قلب البلاد العربية.. فجدير بأبناء هذه البلاد أن ينتبهوا إلى ما تقوم عليه الدعوة من زيف وبهتان".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1045  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.