شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نحن والقرآن
الأستاذ محمد عبد الله السَّمان
مشكلة العالم الإسلامي الأساسية، مشكلة تخلفه المشاهد في العصر الحاضر، والذي هو دون شك ثمرة عهود طويلة موغلة في القدم.. هذه المشكلة لن تعدو في حقيقتها أن تكون سوى مشكلة انحراف المسلمين أنفسهم، عن تعاليم الإسلام..
انحرافهم عن تعاليم دين سمح قويم، أراده الله أن يكون خاتمة أديان السماء، وأوفاها جميعاً بمطالب الإنسان في دنياه وأخراه!
والانحراف عن تعاليم الإسلام هو الانحراف عن تعاليم القرآن.. لقد جاءنا هذا القرآن المعجز، جاءنا به من عند الله رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه ليكون لنا نوراً يهدينا سواء السبيل ويكون لنا هدى ورحمة، وتبياناً لكل شيء..
لقد أكرمنا به الله لا من أجل أن نكتفي بتلاوته وحفظه فحسب وإنما من أجل أن نتدبر معانيه، وأن نعمل به، وأن نجعل منه في كل حركاتنا وسكناتنا "دستورنا الدائم" في الحياة!
وواضح أنه منذ أن كان المسلمون الأوائل يطبقون هذا الدستور السماوي الكريم ويعملون به كاملاً غير منقوص، كانوا خير الأمم وكانوا سادة الأمم وكانوا أعظم الناس!
جاءت بعد ذلك عصور، تراجع فيها المسلمون.. جاءت عصور، تخلفوا فيها عن غيرهم، وتواروا عن الأنظار، واستطال بهم حثالات من البشر.. وأحاط بهم غزاة حاقدون، تكالبوا عليهم من كل جانب.. ولم يكن سر كل هذا التبدل، أو هذا الانقلاب الخطير في حياة الشعوب الإسلامية، وما أصابهم -من جرائه- من تخلف مريع، ومن تخاذل وضعف، سوى انحرافهم عن تعاليم إسلامهم وتعاليم قرآنهم...
* * *
كل هذه الخواطر خطرت في ذهني وأنا أطالع كتاباً قيماً في هذا الموضوع: موضوع المسلمين في هذا العصر وموقفهم من القرآن..
ولقد قرأت الكتاب في عناية واهتمام، وفي حسرة وأسف أيضاً.. إذ رأيت الموضوع قد وصل حقاً -كما يشير إلى ذلك الأستاذ السمان مؤلف هذا الكتاب "نحن والقرآن"- إلى درجة من الخطورة لم يعد يجدي فيها صياح.. أو مجرد الكتابة، ومجرد الكلام!
وفي الحق، لقد رأيتها مناسبة -وما أجلها مناسبة- أن أعرض لجوانب رئيسية من هذا الكتاب في هذا الوقت بالذات حيث ينعقد مؤتمرنا الإسلامي الكبير في مهد الإسلام، بعد أن دعت إليه الرابطة الإسلامية ولبى دعوتها إليه علماء كرام ورجال فكر ممتازون من خيرة رجالات الإسلام، لعلّ في عرض هذه الجوانب ما "يبلور" المشكلة.. أو ما قد يلفت الأنظار بصورة أخص إلى أصل المشكلة، وإلى مصدر الداء، وليس في رجالاتنا المجتمعين في هذا المؤتمر من لم يعرف ذلك حق المعرفة من قبل.. فكل منهم له سابقته المشرفة في مجال الدعوة الإسلامية..
إننا نأمل ونرجو.. نأمل ونرجو أن يكون هذا المؤتمر فاتحة طيبة لتحقيق ما يدعو إليه مؤلف هذا الكتاب من إجراءات لا تقف عند مجرد القرارات...
يبدأ المؤلف حديثه فيقول: "الذين يكتفون بتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار.. والذين يكتفون بحفظ القرآن عن ظهر قلب.. والذين يكتفون حين يسمعون القرآن يتلى، يتأوهون ويتحمسون بجلال الخشية..".
هؤلاء جميعاً لم يقدر لهم بعد أن يفقهوا القرآن، ولو قدر لهم أن يفقهوه لأيقنوا أن تلاوة القرآن دون تدبر لا معنى لها، وأن حفظ القرآن دون فقه لا قيمة له.. وأن اقتناء المصاحف الفخمة لمجرد الهواية امتهان لكتاب الله عز وجل، ولأيقنوا بعد ذلك أن التأوه والتمسح بجلال الخشية حين يتلى القرآن ضرب من النفاق والخداع المزريين.
وقد يسأل سائل: متى نفقه القرآن؟ وكيف نفهمه؟
ومثل هذا السؤال لا يحتاج إلى عناء أو مشقة..
فنحن نفقه القرآن حين نحدد مهمته الأصلية أولاً..
ونحن نفقه القرآن إذا نحن تدبرنا آياته..
وتحديد مهمة القرآن أولاً واضح كل الوضوح من آيات القرآن نفسه، وأولى عناصر هذه المهمة تدبر الآيات نفسها، وهذا التدبر بمثابة نافذة إلى أعماق القرآن.
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (ص: 29) تدبر الآيات وحده لا يكفي، بل لا بد من أن يتعظ وينتفع بهذا التدبر ذوو العقول.
وخصت الآية ذوي العقول لأن غيرهم لا يمكنه أن ينتفع، ولا يكون موقفه من تلاوة القرآن إلاّ كموقف البوق الذي يردد ما لا يفقه..
والذين فقدوا حاسة التدبر أثبتوا أن قلوبهم مغلقة، باعتبار القلوب مصادر لإشعاعات الفكر، وإنارة العقل، والقرآن يخاطب الذين فقدوا حاسة التدبر فحرموا نور الهداية بقوله:
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ (محمد: 24).
وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى (فصلت: 44).
* * *
العنصر الثاني من عناصر مهمة القرآن هو الهداية التي هي نتيجة حتمية للتدبر والتذكر، الهداية إلى أقوم حياة في الدنيا، وأكرم حياة في الآخرة..
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.. في الدنيا.
ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً.. في الآخرة..
وهداية القرآن نوعان:
هداية من ظلمات إلى نور، ومن جهالة إلى معرفة.. وهي تختص بالذين ينقلهم القرآن من الشك إلى اليقين، ومن الكفر والشك إلى الإيمان والوحدانية.. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (إبراهيم: 1). شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (البقرة: 185)..
وهداية إلى أسرار القرآن نفسه وهي تختص بالمؤمنين العارفين الذين شرح الله صدورهم للقرآن، وهيأ عقولهم لفقه عظمة التنزيل.. فهداية القرآن لهم تزيدهم إيماناً على إيمانهم ويقيناً على يقينهم: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (البقرة: 2).
تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ، هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (النمل: 1-2).
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل: 89).
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا (الشورى: 52).
* * *
العنصر الثالث من عناصر المهمة القرآنية هو أن يكون القرآن مرجعاً لسلوكنا ومرجعاً لنظمنا أي دستوراً للحياة، يهذب سلوك الفرد والجماعة، وينظم العلاقة بين الناس من جهة، ومن جهة أخرى يهيمن على العلاقة بين الدولة والجماعة، ومن جهة ثالثة يهيمن على العلاقة بين الدولة وغيرها من الدول.
فالقرآن الذي أنزل ليكون تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين لا بد أن يكون صالحاً كأساس للنظم والتشريعات التي ترقى بأمته.
.. والقرآن الذي أنزل على رسوله بالحق لا بد أن تكون له مهمة أصيلة، هي إقرار العدالة في الأرض.. ولن يتمكّن من أداء رسالته إذا لم يكن مرجعاً في الحكم ومصدراً للتشريع وأساساً في التنظيم..
* * *
العنصر الرابع تيسير الحياة على الناس، عن طريق تيسير شريعته ومرونتها..
وعلى الرغم من أن أوامر القرآن ونواهيه قد تبلغ من الشدة منتهاها إلاّ أن الرحمة تجد طريقها خلال هذه الشدة منتهاها، ولا تكاد تعثر على حكم قرآني قطعي دون أن تجد الرحمة منفذاً إليه..
ويكفي أن يعلن القرآن: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (الحج: 78).. فبينما تقرأ قوله تعالى: اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ (آل عمران: 102) تقرأ أيضاً قوله تعالى: فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن: 16).. وبينما نرى التحريم نهائياً للميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به تلمس منفذ رحمة لمن اضطر غير باغٍ ولا عاد..
والمرونة والتسامح في التشريع القرآني كله، في تشريع العبادات والمعاملات على السواء.. وإلاّ لما قارن القرآن في كثير من آياته أنه هدى ورحمة.. وإلاّ لما كان الرسول الذي أنزل عليه القرآن رحمة مهداة!
* * *
الواضح الذي لا لبس فيه أن هناك مجالين للقرآن يجب على المسلمين أن يعملوا فيهما:
المجال الأول: مجال البحث والنظر المبنيين على التدبر في آيات القرآن نفسها للوقوف على سر أسرارها، واستيعاب أوجه الإعجاز فيها، ومواضع العبرة والعظة منها..
والمجال الآخر: هو مجال التطبيق العملي..
ومجال التطبيق ملزم به الأفراد والحكومات للدول المسلمة.. أما الأفراد، فالتطبيق العملي إنما يقع على سلوكهم، ولا أظن أن لمسلم عذراً في ألاّ يطبق القرآن على سلوكه الشخصي ولو كان هذا المسلم أمياً أو نصف مثقف لأن المطلوب من المسلم أن يفقه دينه ولا يتيسر له فقه دينه دون أن يفقه كتاب الله عز وجل.
وأما الحكومات في الدول المسلمة فالتطبيق العملي للقرآن يكون في تنظيمات الدولة الدستورية والقانونية والتوجيهية، ولا عذر لحكومة دولة مسلمة أن تضع القرآن جانباً لتطبق نظماً وافدة من الغرب آناً، ومن الشرق آناً.. ولا أظن حكومة دولة مسلمة تتحرى شيئاً من المنطق أو العدل، إذا زعمت أن في التشريع الإسلامي قصوراً يعجز به عن إيجاد حياة طيبة أو أن هناك عقبات لم تزل على الطريق.. اللَّهم إلاّ إذا كانت هذه الحكومة في دولة تحيا في كنف الاستعمار.. أو هي أداة من أدواته..
ويمكن أن نتساءل -يقول المؤلف الفاضل: أين نحن من القرآن في مجال النظر والتطبيق؟
* * *
ثم يتساءل المؤلف: هل نحن في حاجة إلى تفسير جديد للقرآن؟ ويجيب: لا ريب في أننا في كل زمان ومكان في حاجة إلى تفسير للقرآن، لأن الجدة يجب أن تلازم القرآن في كل عصر. وسيظل القرآن بكراً إلى أن تقوم الساعة.. ولكن التفسير الجديد الذي نريده يجب ألا يكون موسوعة، أو دائرة معارف.. فلدينا من هذا اللون -والحمد لله- الكثير.. ولا أعتقد أن عصر السرعة هذا سيجود في يوم من الأيام من العلماء بأمثال: الطبري، والقرطبي، والفخر الرازي، والألوسي وابن كثير، والزمخشري، ورشيد رضا.. وإنما يجب أن يقدم المعاني القرآنية التي تحدد مقاصد القرآن وتستوعب توجيهاته وتبرز أسرار آياته، دون أن يكون للمفسر مذهب عقيدي أو فكري لأننا يجب أن نضع القرآن -كما أراده الله- فوق مذاهبنا وأهوائنا..
* * *
أما في مجال التطبيق العملي فيقول المؤلف:
إن مجال التطبيق العملي يتجه اتجاهين:
اتجاه نملكه ولا عذر لنا إذا تخلفنا أو تنكبنا طريقه.. هذا الاتجاه يتمثل في سلوكنا نحن، ولا أظن أن أية عقبة يمكن أن تعترض المسلم إذا أراد أن يطبق القرآن على سلوكه الخاص في نفسه، وفي بيته على السواء..
ولا أقصد بالطبع أن نتظاهر بالتمسك بآية أو أكثر من آيات القرآن في مجال التربية والتوجيه، بل أقصد أن يكون القرآن كله منهاج حياة المسلم في كل شأن من شؤونه باعتباره لبنة في بناء المجتمع، وإذا استقام الفرد استقام المجموع..! وحدود القرآن لا تقف عند آيات الحدود المعروفة من السرقة والزنا وغيرها، لأن كل آية من كتاب الله أخلاقية كانت أم تشريعية هي حدود من حدود الله سبحانه، وكل آية فيها أمر أو نهي هي حد أيضاً من حدود الله عز وجل.
هذا هو الاتجاه الأول الذي نملكه، وهو الذي يتصل بسلوكنا.. أما الاتجاه الآخر الذي نملكه في التطبيق العملي بسلوكنا فهو التشريع القرآني، لأن ولاة أمور المسلمين هم الذين يتوقف عليهم تنظيم الدولة المسلمة على أساس من التشريع القرآني في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية..
ومجرد الكتابة عن حكم القرآن يثير الأعصاب، والمشكلة لا تتعدى واحداً من ثلاثة:
إما أن يكون تشريع القرآن غير صالح لتنظيم الدولة، ولذلك لا تثريب علينا إذا نحن استوردنا تشريعات الشرق والغرب وتشريعات مضى عليها عشرات القرون!
وإما أن يكون تشريع القرآن صالحاً لتنظيم الدولة ولكنه لم يجد العلماء الذين لهم القدرة على تهيئة أذهان ولاة الأمور للأخذ به في تنظيم الدولة، وعندئذ يكون بعض العذر لولاة الأمور أن يستوردوا من التشريعات ما شاؤوا لدولهم.
وإما أن يكون ولاة الأمور في بلاد المسلمين يضيقون ذرعاً بالتشريع القرآني، إذ يجدون أنفسهم مرتبطين بنصوص دستور ومواد قانون لا تقبل المناقشة.. ولم تجرؤ حكومة دولة إسلامية بعد على القول بعدم صلاحية التشريع القرآني لتنظيم الدولة.. ولم يوجد بعد كذلك علماء الدين الذين فكروا جدياً في أن يهيئوا أذهان ولاة الأمور في بلادهم بضرورة اعتبار تشريع القرآن مصدراً أساسياً لتشريع الدولة الدستوري والقانوني.
بقي الأمر الثالث وهو أن معظم ولاة الأمور في الدول الإسلامية يضيقون بتشريع القرآن حقيقة واضحة، وإن كانوا لا يجهرون بذلك مراعاة لعواطف الشعوب المسلمة.. وليس خوفاً من شعوبهم بالذات ولذلك فهم يتمسكون بالتشريعات المستوردة..
ويتابع المؤلف كلامه في هذه الناحية.. ثم يضيف قائلاً: .. ومن المؤلم حقاً أن لدينا كتّاباً إسلاميين، وعلماء دينيين لم يزالوا يخطبون ويحاضرون ويكتبون ليؤكدوا أن تشريع القرآن من أجلّ التشريعات القديمة والحديثة معاً.. وأنه كفيل بإسعاد الفرد والمجتمع والدولة.
وكأن الذي ينقصنا فقط هو الإقناع بصلاحية التشريع القرآني.. أما الخطوات الإيجابية نحو تحقيق غاية القرآن -وهو تطبيق تشريعه على حياة المسلمين- فهذا شيء لا يطرأ على ذهن بل هناك أمر أيسر من ذلك؛ فإبعاد التشريع القرآني عن حياة المسلمين مضى عليه عشرات السنين.. فهل فكر العلماء والمفكرون الإسلاميون في عمل إيجابي لا تعقيد فيه؟
هل فكروا في أن يعقدوا مؤتمراً إسلامياً ليطالبوا على أساسه ولاة الأمور بالأخذ به؟
عشرات المحاضرات ألقيت لمناقشة صلاحية القرآن كأساس لتشريع يحقق للشعوب المسلمة حياة أفضل..
وعشرات الألوف من الصفحات كتبت في هذا المجال بأقلام كبار علماء الدين وفقهاء القوانين الوضعية المتدينين.
وألوف البحوث المقارنة سجلت أيضاً من التشريع والتشريعات الوضعية منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا، وأثبتت تميز التشريع السماوي على غيره من التشريعات غير السماوية..
كل هذا جميل.. ولكن أين صيغة الدستور القرآني الذي يطلبون به؟
لماذا لا يتفق علماء المسلمين جميعاً في سائر البلاد الإسلامية على وضع صيغة لدستور قرآني، ويقومون بالدعوة إليه؟
* * *
.. لسنا هنا بصدد الحديث عن صلاحية التشريع القرآني لحياة المسلمين، لأننا منذ أن أبعد هذا التشريع عن حياتنا، ونحن لم نتوقف عن هذا الحديث، ولم يدل علماء الشريعة وحدهم بدلوهم في هذا المجال، بل أسهم معهم كبار رجالات القانون الوضعي، وفقهاء غير متعصبين من علماء الغرب، وما من مؤتمر دولي قانوني انعقد في الشرق أو في الغرب دون أن يشيد بصلاحية التشريع القرآني.. ولكننا هنا بصدد الحديث عما هو أهم.. عن هذه الحقائق المرة التي لا جدال فيها:
الحقيقة الأولى: أن التشريع القرآني في معزل عن حياة الشعوب المسلمة اللَّهم إلاّ في حيز ضيق يتناول بعض الحدود في بعض البلاد الإسلامية، ويتناول الأحوال الشخصية في معظمها.. وحتى الأحوال الشخصية لم يرض لها أن تكون في مأمن من تهريج بعض العقليات المنخرطة في تلك التبعية الاستعمارية شرقيها وغربيها يعينها شذاذ العلماء الدينيين بدافع من حب الظهور، والاستهتار بالتحرر..
الحقيقة الثانية: أن لمعظم علماء الدين في بلاد المسلمين موقفاً سلبياً تجاه هذه النكسة، ويظهر أن حل المشكلة عندهم هو أن يؤلفوا في سمو التشريع القرآني وتفوقه على سائر التشريعات الوضعية قديمها وحديثها.. أما ضرورة اعتراف الدولة بهذا التشريع، والسماح له بأن يأخذ في مجال التطبيق العملي فشيء آخر تماماً..
الحقيقة الثالثة: أن الشعوب المسلمة أصبحت عريقة في السلبية ولا يكاد يطرأ على أذهانها هذه النكسة التي أصابت العالم الإسلامي منذ أوائل هذا القرن، وذلك لأن قطاعاً من هذه الشعوب المسلمة يتوهم أن الإسلام هو أن يؤدي المسلم ما عليه من فرائض مكتوبة وحسبه أن يكون بذلك مسلماً.. أما القطاع الآخر فلا يكترث بدينه مطلقاً، ولا يشغل باله إلاّ أن يعيش.. ولو في عالم اللامبالاة بدينه وعقيدته..
فأين الطريق إذن؟
الطريق واضح لا يحتاج إلى مشاعل تسلط الأضواء عليه بشرط أن تصدق نياتنا، وتخلص عزائمنا..
إن أول معالم هذا الطريق -إلى تشريع قرآني- هو بروز هذه الفكرة إلى الحياة من جديد، ولا أظن أنه يكفي لهذه المهمة أن تذاع الفكرة من فوق المنابر في أيام الجمع، أو أن تنشر في الصحف الدينية المحدودة، أو تثار في المحاضرات التي يحضرها العشرات من الناس، بل لا بد أن تكون الدعوة إليها قوية، بحيث تتسلل إلى أمهات الصحف اليومية والإذاعة وأروقة المجالس النيابية والشعبية.
ثانياً: يجب أن ينعقد مؤتمر على مستوى العالم الإسلامي لمناقشة هذه الفكرة وألا يقصر هذا المؤتمر على علماء الدين وحدهم، بل يجب أن يتألف من علماء الدين والمفكرين ورجالات القانون والمشتغلين بالحركات الإسلامية.. ولن تكون مهمة المؤتمر قاصرة على إصدار القرارات والتوصيات، ثم ينصرف الأعضاء إلى العام القادم، بل لا بد أن تكون هناك لجان لمتابعة سير العمل.. الخ.. الخ..
هذا هو الطريق.. أما أن نظل نخطب، ونحاضر ونكتب كأفراد، لنبين للناس أن التشريع القرآني هو خير تشريع وأن المسلمين لو أخذوا به لسعدوا في الدنيا والآخرة، فإننا لن نكون إلاّ كمن يصرخ في واد، وينفخ في قربة مقطوعة -كما يقولون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :576  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج