شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رجال من التاريخ
الشيخ علي الطنطاوي
لمؤلف هذا الكتاب، الشيخ علي الطنطاوي الكاتب الإسلامي المعروف، أكثر من عشرين كتاباً قيماً في الأدب والتاريخ والاجتماع، وفي غيرها من الموضوعات.
وليس الشيخ الطنطاوي في حاجة إلى أي تعريف أو إشارة، فشهرته في العالم العربي كله، تغنيه عن ذلك.. فلنمض معه في كتابه هذا الماتع: "رجال من التاريخ".
إنه كتاب يضم بين دفتيه أكثر من ثلاثين حديثاً إذاعياً، أذاع الكاتب الفاضل قسماً منها من إذاعتنا، والقسم الآخر من الإذاعة السورية.
يتحدث الشيخ الطنطاوي في كتابه هذا، عن رجال من التاريخ أفذاذ بحق، يسمو ويعتز بهم تاريخ الإنسانية.. رجال من التاريخ.. كان كل واحد منهم مثلاً أعلى للرجولة، ولمكارم الأخلاق.
رجال من التاريخ، يكفي أن سيد الرجال جميعاً "محمد" يكون في طليعتهم وعلى رأسهم صلوات الله عليه.
ثم يكفي -بعد ذلك- أن يكون منهم خالد بن الوليد أعظم قائد عرفه التاريخ، وأن يكون منهم سعد بن أبي وقاص قاهر كسرى، وأن يكون منهم قتيبة: فاتح المشرق، وأن يكون منهم عمر بن عبد العزيز، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي.. ولا أنسى أن أشير كذلك إلى حديث الكاتب الممتع عن "معلمة الرجال" أم المؤمنين عائشة.. وحديثه الآخر عن أختها أسماء ذات النطاقين.
ولنستمع -أولاً- إليه في حديثه عن محمد صلوات الله عليه في يوم الهجرة، إذ يقول:
"حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نمر بخبر الحادث المدهش فلا نكاد من ألفتنا إياه، وتكرار سماعه، نفكر فيه أو ندهش منه، ولو سمعنا الآن أن رجلاً أمياً، لم يدخل مدرسة، ولم يحضر حلقة علم، ولم يتعلم القراءة ولا الكتابة وقام مع ذلك كله في قرية منعزلة، في صحراء واسعة، ليصلح وحده الدنيا كلها، ويمنع الحروب منها، وينزع سلاح الدول القوية العاتية، ويكلفها بأن تترك دنياها وعتوها، وأن تتبعه.. لبلغت بنا الدهشة أبعد الغايات فكيف إن سمعنا بعده، بأن هذا الرجل تبعه نفر قليل من الضعفاء والمساكين، وأنه حمل هو وهؤلاء النفر أشد أنواع الأذى الجسمي والنفسي، فثبت وثبتوا على ذلك كله ثباتاً ليس له نظير في تاريخ البشر.. وكيف لو سمعنا بأن هذا الرجل قد نجح، وأنه لم تمض على دعوته ثلاثون سنة حتى خضعت له أكبر دولتين في الدنيا اليوم: روسيا وأمريكا مثلاً، واتبعتا ما جاء به، وقبل به وتحمس له شعباهما: حتى سبقا في ذلك أتباعه الأولين؟
وأن هذا الرجل الأمي الذي لم يتعلم، قد جاء بكتاب هو دستور، وهو قانون مدني، وهو قانون للأحوال الشخصية وهو قانون جزائي، وهو قانون دولي، وهو مذهب أخلاقي، وفيه تاريخ، وفيه لفتات علمية عجيبة وفيه رفع للنفس البشرية إلى أعلى أجواء الطهر والعبقرية، وهو بعد ذلك مكتوب بأسلوب لا يمكن أن يحاربه إنسان، أو يجيء بمثله لأنه جاوز أرفع طبقات البلاغة البشرية.. وأن هذه الدعوة لم يكن نجاحها فورة سريعة، ولا كانت وثبة كنار القش تشب في لحظة، وتخمد في لحظة، بل كانت شيئاً أخلد من الخلود وأبقى من الدهر وأنها بعد ما مر عليها أربعة عشر قرناً من الزمان وبعدما بلغت آفاق الدنيا، لا تزال في نفوس أتباعها على القوة التي كانت عليها في ابتدائها، ولا تزال على صفائها وطهرها، كلما علقت بها أوضار الزمان، انتفضت انتفاضة فعادت كما كانت.
كم يكون عجبكم من هذا الرجل، لو ظهر مثله من جديد، هذا هو الذي صنعه محمد.. هذا هو بالضبط".
وعلى هذا النحو يمضي في حديثه عن رسولنا الكريم.
* * *
وفي حديثه عن "معلمة الرجال" يبدأ الحديث بقوله: "هذا الحديث عن السيدة التي أثبتت للدنيا منذ أربعة عشر قرناً أن المرأة يمكن أن تكون أعلم من الرجال حتى يتعلموا منها".
ثم يقول: "لم تتخرج في الجامعة، ولم تكن في أيامها الجامعات ولكنها كانت، ولا تزال كما كانت، تدرس آثارها في كلية الآداب، كما تدرس أبلغ النصوص الأدبية، وتقرأ فتاواها في كليات الدين، كما تقرأ الأحاديث النبوية، ويبحث أعمالها كل مدرس لتاريخ العرب والإسلام!
امرأة ملأت الدنيا، وشغلت الناس، على مر الدهور: ذلك لأنه أتيح له ما لم يتح لأحد؛ فلقد تولاها في طفولتها شيخ المسلمين وأفضلهم أبوها الصديق، ورعاها في شبابها خاتم الرسل، وأكرم البشر زوجها رسول الله فجمعت من العلم والفضل والبيان، ما لم تجمع مثله امرأة أخرى.
كانت امرأة كاملة الأنوثة، تؤنس الزوج، وترضي العشير. وكانت عالمة، واسعة العلم، تعلم العلماء، وتفتي المفتين.. وكانت بليغة بارعة البيان، تبذ الخطباء، وتزري باللسن المقاويل. وكانت لقوة شخصيتها زعيمة في كل شيء، في العلم وفي المجتمع، وفي السياسة وفي الحرب.
ثم يقول الكاتب الفاضل: أما علمها فقد بلغت فيه الغاية حتى قال أبو موسى الأشعري: كنا أصحاب رسول الله إذا أشكل علينا أمر سألنا عائشة.
* * *
وفي حديث عن أختها أسماء ذات النطاقين، يقول: "سيدة ذات مبدأ.. وفت له، وثبتت عليه، سيدة شاركت في أجلّ الأحداث، في السلم وفي الحرب.. سيدة كانت ربة بيت صبرت على مره، ولم تبطر بحلوه.. سيدة كان لها من نبل القلب، وكبر العقل، وثبات الأعصاب ما لم يكن مثله إلاّ للقليل من عظماء الرجال.
وفي قصتها بعد عبرة للنساء وأمل لمن ابتليت بالفقر من الزوجات، وإثبات لمن يحتقر النساء أن المرأة قد تكون أعقل وأنبل من الرجال.. هي أسماء ذات النطاقين.. أسماء العظيمة.. العجوز التي وقفت يوم مقتل ابنها موقفاً لا تقوى عليه صناديد الرجال.
وعلى هذا النحو، وفي تحليل رائع سديد، يواصل الأستاذ الكاتب أحاديثه النابضة عن كل من سيف الله خالد وعن سعد بن أبي وقاص، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز وقتيبة بن مسلم، ثم الإمام الأعظم أبي حنيفة وغيرهم وغيرهم من العظماء والأبطال.
ونقف الآن أمام واحد منهم.. واحد من هؤلاء الرجال.. إنه رجل له تاريخ ضخم، ناصع مشرق، رجل تأخر به الزمن ولكنه مع ذلك يقف جنباً إلى جنب مع رجالنا الأوائل من القادة والفاتحين.. إنه المجاهد البطل "نور الدين زنكي"، الرجل الذي مهد الطريق لصلاح الدين، ووضع له الأساس، وشرع له المنهج، وكان إمامه وقدرته في كل نصير! "أحد الرجال الذين لم يعرف تاريخ البشرية كلها أطهر منهم نفوساً، ولا أقوم سيرة ولا أعظم أثراً".
"أخذ البلاد وهي دول وإمارات: كل بلد دولة، وكل قرية حكومة، وتركها وهي دولة واحدة، تشمل الشام ومصر وأعالي الفرات، وما ظلم أحداً، ولا قتل مسلماً، ولا أراق الدم الحرام".
"حقر الدنيا، وزهد في أبهة الحكم وبريق السلطان ونذر نفسه لله.. للغايتين اللتين سعى إليهما: وحدة المسلمين، وقهر الإفرنج.. وما حاد قط عن طريقهما.
وكان قائداً منقطع النظير، له قلب ملؤه الإيمان، فلا يعرف الجزع الطريق إليه، وكان يقول: لو كان معي ألف فارس لا أبالي بعدو.. ووالله لا أستظل بظل جدار أبداً.
اعترضه مرة نهر الفرات فابتغى مخاضة دله عليها دليل تركماني، فخاضه والجيش كله من ورائه فانهزم الأعداء من الدهشة والرعب، قبل أن يهزمهم وقع الحسام.
وكان يأسف على أنه لم يرزق الشهادة، ويقول: "تعرضت لها غير مرة فلم تتفق لي.. ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقت الشهادة".. ترك الأذان بـ "حي على خير العمل" وهي بدعة الفاطميين وعاد إلى الأذان الشرعي.
وكان يتبع السنة، ويقف عند حدود الشرع؛ منع الخمر في بلاده، وأزال المنكرات ورفع الضرائب والمغارم، وكان في عدله آية الآيات، وقف مع خصمه أمام القاضي الشهرزوري، وأنشأ في دمشق دار العدل، وأقام البيمارستان النوري وكان مستشفى كأرقى مستشفيات الحضارة اليوم، وملأ البلاد بالمدارس، ودور الحديث ومعاهد الخير. ولبناء المستشفى قصة طريفة: أسر مرة ملكاً من ملوك الإفرنج، فسأل أن يفتدي نفسه، فقبل منه الفداء، وأخذ منه ثلاثمائة ألف دينار خصها للمستشفى ولدار الحديث النورية".
ثم يتحدث عن صلاح الدين -صلاح الدين الأيوبي- فاتح القدس، وبطل حطين!
هذا الذي أخذ الدنيا بسيف الظفر، ثم جاد بها بيد الكرم.. هذا الذي ردع أوروبا مرتين: مرة حين قهر جيوشها بسيفه، ومرة حين شد نفوسها بنبله.. هذا الذي كان النموذج الأتم للقائد المنصور، وكان المثل الأعلى للحاكم المسلم، وكان الصورة الكاملة للفارس النبيل والمسلم الصادق، وكان المحرر الأعظم؛ حرر الشام وفلسطين من استعمار الأوروبيين بعدما استمر نحواً من مئة سنة!
هذا الذي انتزع من أصدقائه ومن أعدائه أعظم الإعجاب وأصدق الحب، وترك في تواريخ الشرق والغرب أكبر الأمجاد وأعظم السجايا، وكان اسمه من أضخم الأسماء التي رنت في سمع الزمان، ودوت في أرجاء التاريخ وخلدت على وجه الدهر: "صلاح الدين الأيوبي"!
سقطت على أقدامه الدول، ودانت له الرقاب، وانقادت إليه الخزائن، ومات ولم يخلف إلاّ سبعة وأربعين درهماً وديناراً ذهبياً واحداً، ولم يترك داراً ولا عقاراً، فجهز، وأخرجت جنازته -كما يقسم القاضي ابن شداد- بالدين!
ثم يقول الأستاذ علي الطنطاوي: "لقد قرأت سيرة صلاح الدين مراراً ولكني عدت أنظر فيها قبل أن أكتب هذا الفصل فقرأت في سيرته وحروبه أكثر من ألف مرة ألف صفحة، فكان من أعجب ما وجدت أن ينبغ هذا الرجل العظيم "جداً" وفي ذلك الزمان الفاسد "جداً" وأن يتغلب على العدد القوي "جداً"".
* * *
كان المسلمون قبل نور الدين وصلاح الدين، على شر حال من الانقسام.. على حال لا يمكن أن يصل إلى توهمها وهم واحد مهما بالغ في تصور الشر، كان في هذه البقعة الضيقة من الوطن الإسلامي من الدول بمقدار ما كان فيها من البلدان!
وكانت قد داهمت الشام قبل صلاح الدين حملتان صليبيتان، جاءتا كموج البحر، لهما أول وليس لهما آخر، ساقهما الطامعون في هذه البلاد باسم الغيرة على النصرانية وإنقاذ أرض المسيح من أيدي الوحوش الضواري، ذوات الأنياب والمخالب: "المسلمين"!! وكانت لهم دول، دول لا دولة واحدة.. فلهم في القدس مملكة، وفي أنطاكية إمارة، وفي طرابلس وفي الرها حكومة، ولهم في يافا "كونتية".. دول وإمارات طالت جذورها، وبسقت فروعها، وعششت بومها، وباضت وفرخت.. وحسب أهلها، وحسب المسلمون أنها امتلكت الشام إلى الأبد!
فكيف استطاع صلاح الدين أن يصنع من ضعف المسلمين قوة.. حتى واجه بهم أوروبا كلها، وأزال -ما أمكن- من بقايا الحملتين الماضيتين، ورد الحملة الثالثة الهائلة التي رمته بها أوروبا؟
أتدرون كيف..؟
إنه مارد العدو بعدد المسلمين ولا بعددهم، ولكن بالسلاح الوحيد الذي لا ينفع في هذا المقام غيره.. "بالإيمان"!
غير ما كان بنفسه من الفساد فغير الله على يديه ما كان في قومه من الضعف والتخاذل.. كان يلهو ويعطي نفسه هواها، فتاب وأناب!
استمد أخلاقه وسيرته من إرث محمد صلى الله عليه وسلم في التقوى والصلاح فأعطاه الله إرث محمد في الغلبة والظفر.
تمسك بالدين، وأقام دولته على أساس من الإسلام متين فاستطاع بهذه الدول المتفرقة الجاهلة الهزيلة، أن يحارب أوروبا كلها، أوروبا الحانقة المتعصبة، التي اجتمع ملوكها جميعاً على حرب فلسطين! إلى أن يقول: استرد القدس بعدما ملكها الإفرنج إحدى وتسعين سنة، أفتشكون في استردادها اليوم.. استردها وحولها يحامي عنها دول أوروبا كلها وملوكها، أفلا نستردها اليوم وحولها حفنة من شذاذ الآفاق؟
لقد كانت للصليبيين دول استمرت أكثر من مائة سنة، فأين تلك الدول؟ ولم نكن على مثل انتباهنا اليوم؟
إن الأمة التي أخرجت صلاح الدين، وهي أسوأ من حالنا اليوم، وأشد انقساماً وأكثر عيوباً، لا تعجز عن أن تخرج اليوم مثل صلاح الدين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :652  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج