شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تاريخ مدينة جدَّة
في تاريخنا القديم أعني تاريخ شبه الجزيرة العربية بالذات ومنها بلاد الحرمين يلاحظ الباحثون -دواماً- فراغاً هائلاً من حيث قلّة المؤلفات عن هذا التاريخ في أي مجال خلافاً لبعض الأقطار الأخرى إذ حظيت بعشرات الكتب تصور ماضيها في إسهاب يعطي القارئ صورة، إن لم تكن كاملة كما ينبغي لما يتخلل معظمها من مغالاة.. أو من نقص في بعض المواطن.. أو عدم شمول في مواطن أخرى، فهي على الأقل تزود القارئ بالكثير من المعلومات، وخاصة عن الأحداث السياسية، وهي بلا شك الناحية الرئيسية في تاريخ الشعوب.
والحق أننا فيما يختص بالحرمين الشريفين نجد بعض المؤرخين من رجالهما وبعض الرحالة من الخارج قد عنوا عناية ملحوظة بتدوين تاريخهما فوضعوا عنهما أشتاتاً من الكتب.. ومنهم من اكتفوا بوصف جانب من جوانب الحياة في كل منهما كأصحاب الرحلات القديمة والحديثة، وكبعض الأوروبيين.. لكنا مع ذلك نفتقد في هذه الكتب العرض الشامل الدقيق لتاريخ الحرمين.
فإذا ما التفتنا إلى باقي أنحاء جزيرتنا العربية، نجد أمامنا هذا الفراغ في صورته المجسمة.. نعم إن هنالك بعض الكتب المؤلفة عن قلب الجزيرة وعن شمالها وجنوبها، ولكنها مع ذلك لا تشفي الغليل!
وحديثنا هنا خاص بمدينة جدة بمناسبة صدور هذا الكتاب عن تاريخها للأستاذ عبد القدوس الأنصاري. فإذا ما أردنا أن نبحث عن الكتب القديمة أو الحديثة المؤلفة عنها لا نجد أمامنا عنها سوى كتيب صغير -ولعلّه الوحيد- ونعني به كتاب (السلاح والعدة في فضل ثغر جدة) ومع ذلك فهو قاصر على إيراد المأثور من فضائلها كما نفهم ذلك من عنوان الكتاب.. وطبيعي أن هذا النوع من الكتب لا يمكن أن يندرج في عداد الكتب التاريخية!
من أجل ذلك ظلت الحاجة ماسة جداً إلى ظهور كتاب شامل مستوف عن تاريخ مدينة جدة يتناول بالشرح المستوعب ماضيها العريق.
والواقع أن هذا ما قام به مؤلف (تاريخ مدينة جدة) بل قام بأكثر من ذلك وهو أن كتابه هذا الضخم لم يقتصر على التاريخ الماضي، وإنما أضاف إليه بالنسبة لهذه المدينة لمحات من تاريخها الحديث.
ولست أشك في أننا إذا نظرنا إلى ضخامة هذا الكتاب وإلى موضوعاته الكثيرة المنوعة.. ثم نظرنا إلى انعدام المصادر الخاصة بمدينة جدة بالذات، وإلى ضآلة ما ذكره عنها المؤرخون والرحالة في كتبهم العامة، وفي رحلاتهم، إذا نظرنا إلى كل ذلك، أدركنا أي جهد شاق، وأي إرهاق تحملهما مؤلف الكتاب.
ثم إن نظرة عابرة إلى قائمة المصادر الواردة في آخر الكتاب، وقد تجاوزت مائة كتاب.. عدا ما احتاج المؤلف إلى مراجعته من وثائق ومن تقارير رسمية، ومن صحف ومجلات، ومن كتب باللغات الأخرى، إلى جانب من استفاد من معلوماتهم من رجال موثوقين أورد لنا أسماءهم في كتابه -هذه النظرة تزيدنا يقيناً بأن الكتاب بذل فيه مؤلفه من العناء ما يمكن أن يتوزع في عدد من الباحثين ويبقى بعد ذلك هذا العناء ظاهراً وملموساً..
ونحن حينما نطالع هذا الكتاب في صفحاته السبعمائة.. مستعرضين فصوله فصلاً فصلاً، تلفت نظرنا لأول وهلة هذه الطريقة الفاحصة والناقدة في كل فصل من هذه الفصول، ولو أراد المؤلف أن يريح نفسه بعض الشيء لاكتفى بمجرد السرد للأحداث والوقائع برواياتها المتعددة، ونصوصها المتباينة. وحسب الكتاب بعد هذا ميزة وأهمية، أنه الكتاب البكر في موضوعه الذي جال فيه وله في ذلك أسوة وأية أسوة بالكثيرين من المؤرخين.
غير أنه في حرصه على أن يلتزم المنهج التاريخي الحديث مضى في كتابه يبحث ويستقصي ويوازن ويستنتج ويفحص ويرجح.. وهو حين يرجح رواية من الروايات لا يكتفي بمجرد الترجيح وإنما يبدي لك ترجيحه ومعه الدليل.
شيء آخر أراه قد حرص عليه مؤلف كتاب "تاريخ مدينة جدة" أيضاً مما زاد كتابه طرافة وجدة وشمولاً، وهو أنه لم يقصر تاريخه على أحداث السياسة وأخبار الوقائع والحروب والفتن وما إليها، وما يستتبع ذلك من الاقتصار على تواريخ الحكام. كما هو العهد في أغلب كتب التاريخ، وخاصة القديمة منها.. وإنما حرص المؤلف كل الحرص عن أن يؤرخ لنا -إلى جانب التاريخ السياسي لمدينة جدة- تاريخها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعمراني، هذا عدا ما أفاض فيه حديثه عن عادات المدينة وتقاليدها وعن الآثار والفنون فيها، وعن تشكيلاتها الحكومية الحاضرة، وغير ذلك مما تزخر به فصول الكتاب.
ولعلّ من أطرف بحوث الكتاب: بحثه عن الأسماك، وما ذكره من أنواعها، وأثبته من صورها.. مما لم يسبق أن ضمه كتاب آخر من كتب العلم أو كتب التاريخ؛ فيما نعلم..
وفي أول فصول الكتاب يبدأ المؤلف بالبحث عن الوضع الجغرافي لمدينة جدة.. في أربع عشرة صفحة؛ وفي عرض شائق ومستوعب، بعيداً عن أي جفاف يصحب عادةً أمثال هذه الموضوعات. ثم يتبعه فصل عن التطور العمراني لمدينة جدة منذ أول نشأتها حتى اليوم، ففصل عن أصل تسمية مدينة جدة يورد لنا فيه الأقوال المختلفة عن هذه التسمية لبعض القدماء المعاصرين.
وفي فصل يعقده عن دلائل قدم جدة، يستخلص من أقوال المؤرخين أنها من أقدم المدن، فهي من بناء الفرس وكانت معروفة ومأهولة منذ القرن الثاني قبل الميلاد.
كما يستنتج مما وجد فيها من أصنام وتماثيل، أنها -أي جدة- شهدت منذ القدم ازدهاراً عمرانياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً أصابه ما أصاب سواه من الاندثار، لعوامل قد يكون من بينها الجفاف العام الذي سيطر على بلاد العرب في سالف الحقب أو اجتياح الغزاة الطامعين في تراثها، أو إحدى الآفات السماوية التي يسلطها الله عزّ وجلّ على من طغى وبغى من عباده من الأمم السالفة والخالفة. وبذلك أصبحت جدة القديمة ذات المدنية الزاهرة أثراً بعد عين. ولكن صيتها بقي عالقاً في الأذهان إلى عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم ينتقل بنا المؤلف إلى فصل آخر عنوانه: "في مرآة التاريخ" يستعرض لنا فيه ما صور به المؤرخون والجغرافيون "جدة" كل من زاويته منذ القرن الهجري الثالث حتى اليوم..
وفي فصل بعنوان: "بين عوامل الحرب والسياسة" يذكر لنا كيف أن جدة خاضت معارك الحرب والسياسة في الحجاز كلما دعاها داعٍ.. وكيف أنها كانت بالنسبة للأحداث والتقلبات في الحرمين الشريفين خاصة؛ والحجاز عامة، مثل "الترمومتر" الذي يتأثر بتقلبات الجو بين انخفاض وارتفاع.. ويعقب على ذلك بقوله: كيف لا تكون -أي جدة- كذلك وهي رباط الحجاز وثغره الأول؟
وفي فصله عن السكان يذكر أن أول من سكنها في أيام الجاهلية فرس وعرب جاءوا من نواحٍ مختلفة.. وربما كان معهم فيها أناس من الصومال، والحبشة واليونان، والرومان، وغيرهم..
ونحن مع المؤلف الفاضل في هذا الذي أشار إليه عن الفرس والعرب، وكذلك عمن ورد إلى جدة من الصومال والحبشة، لقربهما.. ولكن بالنسبة لليونان والرومان لم يذكر لنا ما استند إليه في ذلك، وفقاً لما تمشى عليه في سائر فصول الكتاب..
* * *
وليس من شك في أن من أمتع فصول الكتاب -مما لم يسبق أن ضمه كتاب آخر- الفصل الذي خصصه الحديث عن قصة الماء في جدة.
وقصة الماء في مدينة جدة قصة أسطورية -إن جاز لنا هذا الوصف- ولذلك فهي خليقة بعناية المؤرخين والكاتبين.. إن هذه القصة تطلعنا إلى أي حد بعيد كان إيصال الماء إلى مدينة جدة من وادي فاطمة المشهور فاتحة عهد مزدهر لهذه المدينة العريقة لم تشهد له في أي عهد من عهود ازدهارها مثيلاً، وإلى أي حد كان ما أسداه إلى هذه المدينة جلالة الملك الراحل عبد العزيز، رحمه الله عملاً ضخماً ورائعاً وجليلاً.
وفي الفصل الذي عقده للمجتمع في جدة نقرأ كيف كان هذا المجتمع يتأثر صعوداً وهبوطاً بالظروف السياسية المحيطة بها من قريب ومن بعيد.. شأنه شأن أي مجتمع آخر لا بد له من أن يتأثر بما يجري حوله من الأحداث!
وفي هذا الفصل يتحدث إلينا عن أبرز السمات والصفات التي تصاحب المجتمع في جدة. فيذكر فيما يذكر، أنه مجتمع تغلب عليه النزعة التجارية، هي على الرغم من ندرة الماء العذب فيها قبلاً.. ووقوعها على شاطئ بحر ملح أجاج، لم يئن أهلها ذلك عن طلب الثراء بالكدح والسعي الحثيث عن طريق تعاطي التجارة المحلية، والتجارة الخارجية، وتوزيع سلع هذه التجارة إلى الداخل والخارج، مما يذكرنا -كما يقول المؤلف- بالفينيقيين أيام ازدهار تجارتهم ونشاطهم في مختلف أنحاء العالم القديم.
وهو هنا يصف المجتمع التجاري في جدة بأنه مُتَحلٍّ بكل الصفات التي يتحلى بها كل مجتمع تجاري من تفكير هادئ، وصبر وحذر وتكتم.. إلى آخره.. ومن رأيه أن المجتمع التجاري من هذه الناحية، قريب من المجتمع الزراعي. ومن هنا تتشابه أوضاع أبناء المدينة المنورة وأبناء جدة، وتتقارب سماتهم وطباعهم.
ولنا تعليق على هذا الذي يراه الأستاذ المؤلف.. وتعليقنا هو أنه ليس كل أبناء جدة يمارسون التجارة كما هو معروف بل يوجد بينهم من يمارس مختلف الأعمال الأخرى من حكومية وأهلية، ومن أعمال صناعية، ومن قيام بخدمة الحجاج. وما يقال عن جدة من هذه الناحية يقال عن المدينة المنورة أيضاً... ويقال مثله كذلك عن مكة المكرمة.. إذن فهذا التشابه الذي ارتآه الأستاذ لا أظنه يخص جدة والمدينة المنورة فقط. بل لا مشاحة في أنه يسري أيضاً إلى مكة، نظراً لتشابه المدن الثلاث في احتوائها على كل هذه الأصناف من الأعمال مع اختلافها وتباينها.
* * *
وبعد هذا فسيطول بنا الحديث جداً إذا ما أردنا أن نشير إلى البقية من فصول هذا الكتاب، وأخص بالذكر من هذه الفصول الفصل الممتع عن "العادات والتقاليد" وكذلك الفصل الخاص بالكيان الاقتصادي ولا أنسى أيضاً الفصل الخاص بالكيان الاقتصادي ولا أنسى أيضاً الفصل القيم عن الحكّام؛ وغيرها من فصول، كل منها ممتع، وكل منها مفيد.
نعم سيطول بنا الحديث ويطول، ولا أظن الحيز المحدد لهذا المقال، أو الذي يجب أن يكون محدداً له في "قافلة الزيت" الغرّاء، يسمح لنا بأي مزيد.
تعقيب من مؤلف "تاريخ مدينة جدة"
مع تقديرنا الجمّ لما كتبه الأستاذ محمد سعيد العامودي عن كتاب تاريخ مدينة جدة رأينا أن نأتي بالتعليقين التاليين على ملاحظتيه، شاكرين له ومقدرين كل التقدير.. ما صاغه من قلائد التحليل لكتاب "تاريخ مدينة جدة" ببيانه الناصع وأسلوبه الرائع.. فنقول:
أولاً- عن تساؤله في مستندنا عن سكنى جاليات أو أفراد من اليونان والرومان بجدة.. في جاهليتها العريقة.. فنلفت النظر أولاً إلى أننا لم نجزم بحدوث سكناهم بها.. وإنما قلنا باحتمال حدوث ذلك فقط إذ قلنا: (وربما كان معهم فيها أناس من الصومال والحبشة واليونان والرومان وغيرهم).. فصيغة (ربما) تورد لإمكان حدوث لشيء لا للجزم بحدوثه.. كما هو معروف في علم اللغة والقواعد ومع أن إمكان حدوث الشيء أعلى درجات الشك في حدوثه.. فهي أي (ربما) تحمل عدم استبعاد الحدوث فقط، وإن من القرائن التاريخية ما يؤيد حدوث هذا الاحتمال فكما كان بمصر إذ ذاك من أبناء اليونان والرومان لا يستبعد أن يوجد مثلهم ومنهم في جدة المزدهرة وقد رأينا بعض أفرادهم وجواليهم تقيم فيها وتتاجر.. منذ عصر مضى من عصور الإسلام حتى الآن.. ومن القرائن التاريخية ما ذكره كتاب السيرة والتاريخ من قدوم سفينة محملة بالتجارة في بحر القلزم وانكسارها بالشعيبة وحمل النجار (الرومي) الذي كان بها مع من بها من الرومان. ومعلوم أن الشعيبة اتخذت ميناء لمكة بعد اتخاذ جدة.. أولاً، وقبل اتخاذها أخيراً.. وما صح على المثل يصح على المماثل.. والأصنام التي نبش عنها عمرو بن لحى بجدة "ربما" يكون ناحتوها هم الرومانيين أبناء روما القدماء.. والرومان هم أقدر الناس على النحت ولا يزال الإيطاليون تقيم منهم جالية بجدة حتى الآن.. كمهندسين وكهربائيين..
هذا من ناحية الرومانيين، أما اليونانيون فالحديث الذي رواه لنا كتاب "الأخبار الطوال" من قطع الإسكندر المقدوني للبحر صوب بلاد المغرب من جدة، تجعلنا لا نستبعد أن بعض اليونانيين كانوا بها يوم قدمها وبقوا بها بعده.. وقد يكون بعضهم هو الذي أغراه بالقدوم إليها واجتياز البحر الأحمر منها.. وقد رأينا المستشرق "بوركهارت" بالقرن الثالث عشر الهجري يتحدث لنا عن الجالية اليونانية المقيمة بجدة في زمنه ولا يزال بعضهم بها حتى اليوم.
وقصة (بعد الشقة) التي أشار إليها الأستاذ محمد سعيد العامودي لا تقف عائقاً ولا حاجزاً عن الإقامة بأي بلد.. فالفينيقيون واليونان والعرب أقاموا بأماكن نائية بعيدة الشقة بالنسبة لمواطنهم الأصلية..
ثانياً- ويقول الأستاذ: (إنه ليس كل أبناء جدة يمارسون التجارة بل يوجد بينهم من يمارس مختلف الأعمال الأخرى من حكومية وأهلية ومن أعمال صناعية ومن قيام بخدمة الحجاج، وما يقال عن جدة من هذه الناحية يقال عن المدينة المنورة أيضاً ويقال مثله عن مكة المكرمة.. إذن فالتشابه الذي أثاره الأستاذ (أي مؤلف الكتاب) لا أظنه يخص جدة والمدينة المنورة فقط، بل لا مشاحة في أنه يسري أيضاً إلى مكة نظراً لتشابه المدن الثلاث، في احتوائها على كل هذه الأصناف من الأعمال مع اختلافها وتباينها).
ونقول: أما إنه (ليس كل أبناء جدة يمارسون التجارة) فقد احتواه الكتاب ونص عليه.. ففي الصفحة (181) منه ما نصه: "ومن أهل جدة من ربط معيشته بعالم الوظائف الحكومية المختلفة، فكان منهم محتسبون ورؤساء بلديات، وموظفون عموميون في العهود الخالية، وفي كتاب "حجاز ولايتي سالنامه سي" التركي لسنة 1306هـ. أسماء كثير من أهل جدة الموظفين بالحكومة في مختلف الأعمال، وقد أثبتنا أسماءهم في "فصل الحكّام".. "ومن أهل جدة من اتخذوا المهن والحرف التقليدية طريقة لمعيشتهم" وذلك كصناعة صيد السمك، أو صناعة بناء السفن الشراعية ما بين كبيرة وصغيرة، وعصر الزيوت، وصنع الملابس، والتنجيد والخياطة وطهو الأطعمة وصنع الحلوى.. "ومنهم من امتهن صنع العربات واتخاذ مراكب الحمير وغير ذلك مما كان يعتبر وسيلة المواصلات الوحيدة إذ ذاك".. "ومنهم من اتخذ وكالة مطوفي مكة، مهمة لهم، يتعيش من دخلها.. وهذه الطائفة هم المعروفون بالوكلاء، ولهم نظامهم وتقاليدهم.. وفي كتاب (المكالمة) لمحمد الطيب المكي المطبوع بالهند في أواخر القرن الهجري الماضي كثير من التعريف بأوضاعهم وتقاليدهم وأحوالهم.. "وهناك عمال البحر ومرشدوه وحماله.. وهم طائفة أو طوائف". ووجود كل أولئك بجدة لا يعني نفي "غلبة النزعة التجارية على جدة عبر التاريخ" حسب ما ورد في الكتاب أيضاً..
فمثلاً: المدينة المنورة فيها مثل أولئك وغيرهم ولكن النزعة الغالبة عليها عبر التاريخ هي الزراعة ولم نقل ذلك من عندياتنا.. فقد أشار إليه أحمد بن سهل أبو زيد البلخي المتوفى عام 322هـ. في كتابه المخطوط الأثري: (ذكر المسافات والأقاليم) وأشار إليه البشاري بعده، وناصر خسرو علي، في كتابه (سفرنامه) المترجم إلى العربية حديثاً وأشار إليه ابن المجاور في كتابه المطبوع بأوروبا.. والحميري في (الروض المعطار).. ثم حدثنا المرحوم محمد صالح بن علي باعشن في مذكراته الخطية عن شيء من ذلك في القرن الثالث عشر الهجري نقلاً عن والده وأيده هو.. وحدثنا البتانوني بعظم التجارة في جدة حتى أن من تجارها من هو "مليونير" لا في الريالات ولا الدولارات ولكن في الجنيهات الذهبية البراقة..
وكيف لا تغلب النزعة التجارية على أهل جدة وهي باب الحرمين.. وكل ما يرد على مكة بحراً يردها من طريقها، فتجار جدة بالنظر لهذا هم أساس تجارة مكة ومصدرها الأكبر منذ صدر الإسلام، وهم منهم بمثابة "الأصل" من (الفرع) و (الفرع) من (الأصل) وفي فتاوى الشيخين عبد الحفيظ العجيمي ومحمد طاهر سنبل ما يدل أيضاً على هذا.
ومعنى غلبة النزعة التجارية هي ميل ذوي الطموح والثراء إلى استثمار طموحهم وثرائهم في شؤون التجارة الاستيرادية الميسورة لهم من شتى بلاد العالم لاتصالها بحرياً بهم.. ولغلبة هذه النزعة التجارية على محيطهم رأينا بعض علمائها تجاراً مرموقين.. مثل الشيخ إبراهيم عبد الفتاح في القرن الهجري الثالث عشر.
ومثل الشيخ عبد الرحمن أبو حجر المالكي في هذا القرن..
وكانت النزعة التجارية تغلب على مكة المكرمة في عصر الجاهلة.. وفي الإسلام رأينا المهاجرين بالمدينة المنورة البلد الزراعي العريق، رأيناهم يمتهنون التجارة التي تغلب عليهم في جاهليتهم فينجحون ويربحون ويثرون.. واستمر ذلك بمكة حتى عهد الأتراك فغلبت عليهم نزعة أغراهم بها القائمون بالأمر إذ ذاك كما أغروا بها أهل المدينة المنورة بسبب أو آخر.. وهي الاعتماد على الوظائف والمعاليم والصرر والتطويف والدلالة والمبرات. ولكن جدة خرجت من هذا النطاق.. فتمسكت في أغلبية الطامحين بها بحبل التجارة في إيراد أو في تصدير.. وبنت في ضباب القرون الخالية أساطيل السفن الشراعية لتجوب البحار حاملة لأهلها ولمواطنيهم، وحاملة عن أهلها وعن مواطنيهم تجاراتهم.. عبر البحار.. ولا يزال زمام التجارة في مكة والمدينة بيد تجار أهل جدة حتى اليوم.. وقد نافستها في بعض السنين الغابرة ينبع البحر نوعاً ما، ثم تأخرت عنها. وليس معنى غلبة التجار على أهل جدة، نفيها عن أهل مكة والمدينة.. ففي هاتين المدينتين قديماً وحديثاً تجار كبار.. ومكة أعرق بلاد الحجاز في التجارة خاصة في أيام الجاهلية القريبة من الإسلام.. وللمكيين رحلتان تجاريتان معروفتان إلى شام ويمن.. وأخيراً نكرر التقدير والشكر للأستاذ إزاء ما أبدى وإزاء ما لاحظ والحقيقة دائماً بنت البحث الصافي منبعاً ومصباً (1) ..
"عبد القدوس الأنصاري"
 
طباعة

تعليق

 القراءات :604  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.