شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المثَلُ الأعلى للحضارة العربية
هذا كتاب يستحق -بالرغم مما يوحيه عنوانه من مفهوم محدد- أن نقف عنده طويلاً، وأن نتأمل محتواه..
إنه كتاب يتحدث فيه المؤلف -بأسلوب جديد- عن الحضارة العربية.
إنَّ حديث المؤلف هنا حضارة العرب، أو عن أخلاقية حضارة العرب.. ليس هو لمجرد الإشادة، أو مجرد المديح..
إنما الذي يريده من وراء هذه الدراسة وهي دراسة عميقة لا شك -هو توكيد مثالية هذه الحضارة، وبالتالي صلاحيتها للإعطاء في هذا العصر: عصر الذرة والصواريخ.
ليس هذا الكتاب -إذن- مجرد ترديد للحديث عن الحضارة العربية.
فهو لو كان كذلك، لما زاد في أهميته عن عشرات الكتب، أو مئاتها مما ألفه شرقيون وغربيون في هذا الموضوع..
ونسأل أولاً:
ما هي هذه الحضارة العربية؟ ما هي في حقيقتها؟ وما هي في مدلولها؟
في الواقع، ليست حضارة العرب هذه -وقد ملأ حديثها الدنيا وشغل الناس- سوى حضارة الإسلام.
ليست هذه الحضارة في حقيقتها سوى حضارة أوجدها الإسلام، وما نحسب من يصفونها بأنها "عربية" يجهلون ذلك، بل -من المؤكد- أنهم يدركونه كل الإدراك.
قد يكون إطلاقهم لها هذا الوصف لسبب أو أكثر، غير أن هذا لا يعني فيما يبدو لنا أنهم ليسوا معنا في أنها إسلامية في الصميم.
لست أعني هنا أصحاب الهوى من الكتّاب الغربيين؟ أو الباحثين المستشرقين، أو المشايعين لهم من بعض الشرقيين.
إنما أعني هؤلاء الذين يتصدون لهذا الموضوع من الكتّاب الإسلاميين، ومنهم فيما أعتقد الكاتب لباحث مؤلف هذا الكتاب.
إن المؤلف السيد محمد يحيى الهاشمي، دكتور في الفلسفة والعلوم، شغل منصب الأستاذية من قبل في جامعة برلين والجامعة السورية.
ولقد قلت إن كتابه ليس مجرد حديث معادٍ بقصد منه مؤلفه أن يشيد مجرد إشادة بالحضارة العربية.
وإنما لكتابه هذا هدف واضح.. هو التأكيد، أو لمزيد من التأكيد، على صلاحية الأسس التي قامت عليها هذه الحضارة -لعصرنا الذي نعيش فيه.
ذلك لأن الأسس التي قامت عليها حضارتنا العربية -أو الإسلامية بالتعبير الأصح- كانت أقوى أسس يمكن أن تقوم عليها حضارة.
لقد قامت هذه الحضارة على الأخلاق.. ويكفي أن يكون المصدر الرئيسي لهذه الأخلاق هو الإسلام.
بل يكفي أن يشير إلى هذه الأخلاق، وإلى مصدرها هذا الرئيسي كاتب عربي مسيحي مرموق هو الدكتور قسطنطين زريق الذي يستشهد المؤلف بكلام له في هذا الصدد في مقال له عن العناصر الخالدة في المدنية العربية.
يقول هذا الكاتب: "إن أول هذه العناصر -في نظري- هو الإيمان الروحي الذي يشع من هذه المدنية، فالمدنية العربية ككل، مدنية كبرى مستمدة من عقيدة راسخة، ونظرة إلى الحياة شاملة، والعقيدة الراسخة التي بنيت عليها هذه المدنية هي تلك التي احتواها وعبر عنها الدين الإسلامي الحنيف.
... إنه ذلك الإيمان الروحي الذي أثاره في قلوب كثير من أبناء هذه المدنية، فجعلهم يتطلعون إلى عالم أسمى من عالمهم.. فالحاكم المتربع على عرشه، والقائد الجائل في ميدانه، والعالم العاكف على كتبه، والتاجر الضارب في الأرض سعياً وراء مغنمه وفي مقدمتهم جميعاً العامة.. هؤلاء كلهم كانوا يصدرون في حياتهم عن إيمان روحي.. إيمان بالقوة الإلهية التي تسيِّر هذا العالم".
يقول الدكتور قسطنطين زريق هذا، ثم يضيف مؤلف الكتاب فيقول: "ولا يزال هذا الإيمان يجيش في أبناء المدنية العربية يثير عمقه وقوته الإعجاب والإجلال عند كل من يتأمله بتجرد وإخلاص.. ومن يتابع أبحاث المستشرقين المنزهين عن الهوى، المترفعين عن الغايات الدنيا، يلاحظ أنهم يقفون متأثرين حيال هذا الإيمان القوي ويقدرونه حق قدره، ولا عجب في هذا، فإن الإيمان الذي يتسلط على النفس ويوجهها إلى المثل العليا مظهر من مظاهر الروح الإنسانية في أعلى مراتبها".
وفي موطن آخر يقول المؤلف: "كثير منا يجهل ما تحويه كتبنا العربية، فإذا كان أحد كبار رجال الهند يقصد طاغور شاعر الهند -يرى لحل الأزمة الهندية أن من الواجب المحتم على الهندوس أنفسهم أن يدرسوا الكتب العربية لفهم الروح الإسلامية بطموحها وتساميها فهماً حسناً، أحرى بنا أن نقوم بمثل هذه الدراسات لأننا أحق الناس بهذا التراث من باقي الأمم".
وفي مقدمة الكتاب يقول المؤلف:
"هناك خصائص وراثية أتتنا عن طريق السلف، خصائص يجب فحصها لنعلم ما يصلح وما لا يصلح لنسير نحو الصالح. ونتجنب الطالح.. ولا أظن هذا التجنب يكون إلا بعد جهود جدية قد تستمر أجيالاً عديدة، أما هدم كل ما يمت إلى السلف فذلك عمل أخرق.. لأننا قد نقضي على بذور طيبة إن رعيناها أتت بثمار تنفعنا في نهضتنا، وفضلاً عن ذلك فإننا بغنى عن مجهود إن صرفناه في ناحية أخرى أفدنا منه".
* * *
وقد تناول المؤلف أكثر من ناحية من نواحي حضارة العرب، وأكثر من موضوع.
ومن هذه الموضوعات: الأخلاق والتربية، والأدب والفن وما سماه العلوم الإيجابية، ويعني بها العلوم العملية كما نسميها اليوم، وهو في هذه العلوم يقول:
تتجلى لنا في العلوم الإيجابية العربية ناحيتان:
الناحية الأولى: هي المثل والاعتبار، وإن إضافة الاعتبار إلى المشاهدات الحسية ليربط الحوادث الكونية الظاهرة بالروح الباطنية، وهذه الطريقة على ما يظهر مستمدة من الكتاب الكريم الذي يتخذ المرئيات كمثل واضح لإيقاظ النفس البشرية من نومها العميق ولتذكيرها بفكرة الخلود الأبدية: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (سورة يس 78-79) وأنك لا تجد عالماً عربياً في العصور السالفة مهما كان في نزعته وتتبعاته إلاّ واتخذ الاعتبار في مشاهدة آيات الكون.
أما الناحية الثانية وإن تكن معترفاً بها في الغرب. فإن لها حق الوجود هناك اسماً، وهي بعيدة عنه كل البعد فعلاً.. وإلاّ لما شاهدنا أعمال الفتك بالإنسان وعلى صورة تقشعر لها الأبدان.. إن هذا المنحى من المناحي الإنسانية، وأعني بذلك أن على العلم أن يخدم الجنس البشري، لا أن يكون سبباً في شقائه ومحنته.. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (سورة فاطر 28) وإننا نجد هذه الخشية في كل عالم عربي في أوجه الحضارة، فالعلم مهما اختلفت شعابه هو في نظر العرب الأقدمين -كما تواتر عن الغزالي- عبادة -ولا تكون العبادة في سحق الإنسان ومحوه.. ولا نعرف عالماً عربياً كانت له مكانة مرموقة في التاريخ استهدف أموراً تودي بحياة البشر.
ومن أجل ما بيناه ينبغي علينا إعادة النظر في ما خلفه أجدادنا من التراث الثقافي في العلوم الإيجابية، لنتخذ منه حافزاً جديداً للبحث والتنقيب مشيرين إلى المغزى الأدبي الذي كان يتوخاه العرب في تحرياتهم العلمية لا لنقف عند المستوى الذي كانوا عليه.. بل لنماشي رقي العصر المادي واضعين روحاً جديداً لفهم الإنسان.
وعلى هذا النحو مضى المؤلف في حديثه عن الفن والأدب، وعن التربية والأخلاق في الحضارة العربية.
* * *
ونمضي إلى فصل آخر من فصول الكتاب، عنوانه: "أمة وسطى" يقول المؤلف فيه:
"الأمة العربية هي في الحقيقة "أمة وسط" في المكان والزمان، ففي موقعها الجغرافي هي واقعة بين قارات ثلاث: أوروبا، وآسيا، وإفريقيا، وفي الزمان قد توسطت مدنيات، وأبدعت من تلقاء ذاتها أيضاً.. إن وجودها في منتصف الطريق يحتم عليها الاتصال المباشر مع العالم.. وإن أية أزمة تحدث في أرضها وخاصة في الزمن الحاضر لتزعزع العالم".. ثم يقول:
"إنها وسطى في مذاهبها السياسية وأفكارها الاقتصادية فلا هي رأسمالية محضة تطأ العامل والفلاح، ولا هي اشتراكية خالصة تنكر الرأسمال نكراناً تاماً.. وليست هي حضارة مادية تنكر الروح والقيم المعنوية الخالدة. ولا هي حضارة روحية تنكر المادة والأساس المادي لكل نهضة من نهضات العالم، وفي موقفها من العالم تجند السلام وتسعى إليه، ولكنها لا تقبل الذل والاستكانة وقبول التسليم بأي ثمن كان ولو كان في ذلك قهرها واستعبادها".
* * *
وفي فصول أخرى يتحدث فيها عن الوضع الحاضر للعرب، يقول فيها: "لم يحدث شيء غير طبيعي، في المدنية العربية، وقد جرت على سنة الحياة، التي تبدأ من بذرة فتكبر كائناً كاملاً، وتنتهي بالموت الذي يترك بذرة أيضاً.. فهذه البذرة إن عرفنا قدرها ازدهرت وأثمرت وإلاّ تلاشت وعدمت، وكما أننا ننظر بشوق عظيم لأولئك الذين كونوا النواة الأولى في الأجيال السالفة، فيجب أن نبذل ما عندنا من جهد لتكوينها مرة ثانية، فالتاريخ يعيد نفسه، والحياة دوماً بتجدد دائم.
واليوم تضطرب في جوانب العالم العربي عوامل اليقظة والنهوض فكثير من الشباب قد ولّوا وجوههم شطر الغرب للثقافة والعلم، وكما يرى كثير من مستنيري العرب نزعات خطرة قد يجنح إليها الشاب العربي أثناء دراسته في أوروبا.
1- فهو إما أن ينخدع بمظاهر المدنية الأوروبية من أزياء وعمارات وحركة ناشطة فلا ينظر إلى المحيط الذي جاء منه إلاّ بشيء من اليأس والاشمئزاز والازدراء أحياناً.
2- أو أن تؤثر في نفسه نواقص الحياة الأوروبية وعيوبها، التي تقع عليها العين هناك، فتملأ نفسه نفوراً وثورة على ما في أوروبا من قبائح وشرور، ولقد يسد عليه هذا الشعور طريق الانتفاع والاقتباس مما في أوروبا من أشياء صالحة مفيدة.
.. إن الطريقة المثلى في نظر أهل الحجا أن نؤلف بين ذاتيتنا ونهضة الغرب الحاضرة، لأن اتباع منهج لا يمت إلى روحيتنا بصلة سوف يخنق قابليتنا الشخصية، ولا يعوض عما أتلف بشيء ذي حياة، فالتأثير الخارجي غير المدعم بقابلية باطنية لا فائدة منه، بل على العكس يكون ضرره أعظم من نفعه، ويحدث ما يسمى في علم المستعدنات بالشكل الممسوخ.
حاولنا البرهان في هذا البحث المقتضب -يقول المؤلف الكريم- على وجود مثل أعلى في حضارتنا هو فرق الأنانية، وبزعمنا أن سمو هذا المثل وشموله للإنسانية جمعاء هو الذي جعل عمر حضارة العرب من أطول الأعمار، ولدى البحث نجد جذوة هذا المثل لن تنطفئ بل كانت عبر العصور والدهور كامنة في النفوس كمون النار في الرماد.
لقد انقدح هذا الشرر اليوم ويلزم أن نحافظ عليه كيلا ينطفئ ليزداد ويصبح في القريب العاجل ناراً مشتعلة تهدي بنورها السائر في صحراء الحياة.
ومهما كنا روحانيين في هدفنا فلا بد لنا من أساس مادي نرتكز عليه في استثمار كنوزنا وتنظيم أمورنا الاجتماعية، وتسهيل مواقفنا الحياتية وغير ذلك، وعلى قدر إدراكنا قيمة هذه الأمور يكون حظنا في الحياة، على أن نفتح الطريق للنبوغ ليتبوأ صاحبه المكان الذي يستحقه بقطع النظر عن أصله وثورته، إذا أهملنا الأساس المادي تغور الأرض من تحت أقدامنا، وفي كل أعمالنا يقتضي ألاّ نتطلب الثمرة دفعة واحدة بل تدريجياً.
وإذا شعرنا برسالتنا الكبرى، رافقتنا لذة معنوية رغم كل الآلام المادية التي تعترينا، ولنا بالأنبياء والحكماء أسوة حسنة، فما أجمل ذلك المثل الذي ضربه لنا صاحب الشريعة الإسلامية: عندما ضربوه فأخذ الدم يسيل منه.. وقف يسأل الله أن يهدي قومه لأنهم لا يعلمون.. وتظهر لنا هذه الجملة التي قالها صلوات الله وسلامه عليه -لعمه أبي طالب، تظهر لنا هذه الجملة ثباته العظيم: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته.
يمضي المؤلف إلى الفصل الأخير من كتابه وفيه يقول:
إننا اليوم على أبواب فحص قاس ألا وهو؛ هل نحن صالحون للحياة بما يتطلبه هذا العصر من التعبير عن الوجود بالكرامة اللائقة، وبالرسالة المطلوبة، وبمجاراة الأمم الناهضة في علوم واختراعاتها واكتشافاتها؟ إذ لا يكفي أن نكون أحياء فقط.. بل نريد أن نعيش عيشة يشعر بأهميتها جميع العالم.. من أجل هذه الحياة الحرة الكريمة علينا أن نقوم فعلاً برسالة إنسانية شاملة، نكون بها جديرين بتقدير العالم المتمدن واحترامه..
... ولأجل أن نكون بنائين علينا أن ننتقل من الحياة الفردية التي تضمن لنا المصلحة الخاصة ونعيش مثل الحياة الاجتماعية التي تهتم بالمصلحة الخاصة ونعيش مثل الحياة الاجتماعية التي تهتم بالمصلحة العامة كل الاهتمام، وإن كنا لا نريد في هذا الصدد تضحية الفرد في كل مناسبة تافهة، بل لا نسمح بمثل هذه التضحية إلاّ في سبيل هدف سام، ومثل أعلى نبيل، لأنه هيهات أن تشكل أمة تعتز بكرامتها، وتسمو بكيانها، وتزهو بوجودها، إذا كانت حالها فوضى، وقوامها أفراد يحتقر بعضهم بعضاً، أو يسترخص كل منهم حياته، ويعدها حقيرة تافهة ذليلة، وإنما العكس بالعكس، وعلى كل فرد أن يكون مواطناً عزيز الجانب، واثقاً من نفسه وقومه، راسخة في نفسه الكرامة.. كذات في أمة.. وفرد في مجموع.. وهيئة في شعب.. بحيث تغيب الأثرة بالإيثار في لقاء فاضل على صعيد الفردية.. وفي مستوى الجماعة.. شعوراً بالمسؤولية واضطلاعاً بها، ولا يحصل الشعور بمثل هذه المسؤولية العظيمة، والرسالة الخالدة الشاملة، إلاّ بمعرفة مثلنا الأعلى بكل وضوح وجلاء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :783  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.