شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المدنيّة الملوثة
قال صاحبي: ألا تدهشك هذه الحضارة الحديثة التي كما خاصمت الدين خاصمت الأخلاق؟ فهي رغم ما أحرزته من نجاح استطاعت أن تملك به طاقة البخار والكهرباء ونواة الذرة، وأن تطير به في أعلى أجواء الفضاء وتسبح به في أعمق أعماق البحار، وأن تحتل به مركزها في القمر برغم كل هذا عجزت أن تعالج في نفوس أبنائها عناصر الفساد الذي بات ينخر في عظامها بصورة بدت فيه بوادر الانحلال المدمر.
قلت: ليس في الأمر جديد. فالمدنية لا تعطي إلاّ بقدر ما تأخذ. وربما أعطتك من بهرج الحياة وزخرفها وفتنتها بقدر ما تأخذ من دينك وشهامتك ومن مروءتك مما فطرت عليه أفضل المزايا.
ولهذا يوصي علماء الأخلاق بالحذر من إغرائها وفتنتها، وألا تأخذ منها لمتعتك إلاّ بقدر يحفظ عليك ما فطرت عليه من شمائل.
لقد لاحظ محمد إقبال شاعر الهند جوانب الضعف الأساسية في حضارة الغرب، وأنت لا تجهل محمد إقبال فهو من أنبغ العقول التي أنتجتها الثقافة الجديدة، ومن أعمق مفكري الشرق الذين احتكوا بحضارة الغرب في أرقى بلادها.
يقول هذا المفكر في صدد ما لاحظ على الحضارة الغربية لقد عجنت هذه الحضارة بطينة الفساد لاتجاهها المادي وثورة أصحابها على الديانات والقيم الأخلاقية والروحية فهي اليوم ملوثة غير عفيفة وقد جردها تلوث الروح عن الضمير الطاهر والفكر السامي والذوق السليم، وتسلط عليها القلق برغم المدنية الباذخة والغنى الفاحش، فهي وإن أظلم جوها بدخان المصانع ولكن بيئتها على كثرة أنوارها غير متهيئة لفتح روحي جديد يشرق به عليها عالم الغيب.
أقول ونحن نرى مصداق ما يقوله محمد إقبال ناطقاً في تفكك الأسر وشيوع الفساد واستهتارهم بسائر القيم روحية كانت أو أخلاقية.
ربما أغراك بهم لون من الصدق التجاري والاستقامة فيما يعاملون، فبضائعهم قلّ أن يشوبها غش، وأسعارهم قلّ أن يستمرئوا فيها المساومة ولكن هذا وأمثاله ليس إلاّ ضرباً من التجارة نفسها. إنهم قوم خلقوا للكسب والكسب المادي وحده، وأثبتت تجاربهم في معاملاتهم أن في الاستقامة أو في ربح يصيبهم وأن صدقهم في التعامل يضمنك لهم كعميل ويحقق لهم فيك كسباً يفقدونه بالغش، فثابروا على هذا اللون من الاستقامة واتخذوا فيه الصدق ديدنهم.
إننا بهذا لا نعني أمة وحدها ولا شعباً خاصاً بقدر ما نعني المدنية التي يتعين علينا ألا تنسينا مزايانا الفطرية والتي لا يجب أن نخالطها إلاّ بحذر لنأخذ منها ما يستقيم وقيمنا الدينية وشمائلنا الأخلاقية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :294  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 128 من 156
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي

[الجزء الخامس - التقطيع العروضي الحرفي للمعلقات العشر: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج