الاثنينية ::المكتبة

مكتبة الاثنينية

> > > > > > جهُودُ العاملين من أسلافنا

جهُودُ العاملين من أسلافنا

قال صاحبي: ألا ترى أن متتبعي تراجم رجال الحديث وسيرهم بذلوا الكثير في سبيل تحقيق ما ترجموا؟

قلت: لقد كانوا مضطرين لبذل ما عانوا؛ لأن السبيل أمامهم لم يكن سهلاً ميسوراً. فقد انطوى جيل النبوة عن مئات الألوف ممن عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وصحبوه وحفظوا عنه ثم تلاهم مئات ألوف أخرى كانوا معنيين بالنقل عمن سبقهم ليبلغوه إلى من خلفهم طبقة بعد طبقة وجيلاً بعد جيل.

فلما ندب أصحاب التراجم أنفسهم فيما بعد لتحري حقيقة الحافظين والناقلين كان عليهم أن يدرسوا أحوال هؤلاء فيضبطوا أنسابهم وتواريخ ميلادهم وأن يعنوا بأحوال كل شخص على حدة عناية تقرر حقائقه العلمية والأخلاقية والعقلية وتعين درجته من الجرح والتعديل ليستوي حكمهم على حقيقة ما نقل أو روي فاقتضاهم ذلك بذل الجهود التي ترى أنها قليلة النظير.

كان بعضهم يسهر الليالي الطويلة بين التنقيب والبحث، وتكلّف بعضهم الأسفار الشاقة بين الأقاليم النائية، والبوادي البعيدة سعياً وراء الكشف عن حقيقة رجل، وأخذاً من رواة الحديث، وتعقيباً على خلة سمعوها عنه له قيمتها في تجريحه أو تعديله.

تلك مشاق نستطيع أن نؤكد أنه لم يسبق إلى مثلها في تاريخ الأمم استطاع المجدون من هذا النوع بما بذلوا من راحتهم وأوقاتهم أن يغربلوا ما تناقل إليهم من ألوان الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غربلة تفرز درجاتها وتعطيها قيمتها من الصحة.. فابتكروا لها من الألقاب والكنى ما يعين حقيقتها فمن حديث صحيح، إلى حسن إلى مرسل، إلى غير ذلك من ألقاب تواضعوا عليها ليتفقوا على درجتها من الكمال.

وتصدى بعضهم لأكثر من هذا فتعقبوا الأحاديث التي اختلفت نصوصها، وتفننوا في دراسة وجوه الخلاف فيها، وبذلوا الكثير في استقصاء رواتها، واستقراء مَواطن الضعف في من عرف منهم بضعف وكانوا يعلنون ذلك في صراحة ووضوح أفادت المشتغلين بعلم الحديث وساعدتهم على تصنيف الجيد والرديء.

وجاء المجدون من رجال اللغة العربية يتعقبون آثار رجال الحديث ويقلدونهم في استقصاء رواة مفردات اللغة ويغربلون رواتها، ويبحثون عن رجال السند المتصل في الرواية الواحدة سعياً وراء الكشف عن حقيقة الناقل وتعيين درجته من الجرح والتعديل!!

رحل أكثر المعنيين بهذا إلى الأطراف البعيدة في البادية ليناقشوا الأعراب في كلمة مفردة أو لفظ مركب.

كل هذه جهود لو توافرنا اليوم على بعضها فيما يهمنا تحقيقه من مقدراتنا لكان لنا غير هذا الشأن الذي نعيشه.