شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حيٌّ في شيخوخته
قال صاحبي: يطربني هذا الاستجمام الذي ينعم به كبار شيوخنا بعد حياة قضوها مليئة بالكد والجهد.
قلت: أمّا إذا كنت تعني أمثالي فإننا لم نبذل من الكد والجهد في مستقبل حياتنا ما يصح أن يسمى كداً أو ينعت بالجهد. وما هذا الخلود إلى الاستجمام إلاّ امتداد لما عايشناه من ألوان الفتور.
إنك تعرف أجداداً لنا عاشوا حياتهم منتجين بشكل بالغ السعة، وأدركتهم الشيخوخة فلم يعترفوا بها، بل ظل إنتاجهم يثير الدهشة ويبعث على الاستغراب وأنت ترى اليوم مثالهم حياً في أكثر البلاد الراقية التي تقدر قيمة العمل وتعرف أثره الفعّال في حيوية الشخص.
أذكر بهذه المناسبة أني قرأت فصلاً عن حياة "نولدكه" العالم الألماني المعروف هز مشاعري وأثار في نفسي من معاني الإعجاب ما لا مزيد عليه.
تعشَّق هذا العالم الكبير في شبابه دراسة اللغات السامية، فعكف عليها كما درس اللغة الفارسية والسريانية والعربية، وقضى حياته في استقصاء نوادر المخطوطات والآثار المحفورة باللغات التي أتقنها. وعندما أدركته الشيخوخة تقاعد في بيت ابنه في منطقة الألزاس عاش فيها نحو إحدى عشرة سنة قضاها في الدراسة والنشاط الذهني التام حتى فاضت روحه وهو جالس إلى مكتبه يواصل عمله في كتابة البحوث التي توافر على دراستها.
وضع (نولدكه) أهم مؤلفاته بعد بلوغه سن التقاعد، وبفضله أصبحت المدينة التي يعيش فيها من منطقة الألزاس مركزاً للدراسات الشرقية لا في منطقة الألزاس ولا في ألمانيا وحدها بل وبالنسبة لجميع المهتمين بالدراسات الشرقية في كثير من أنحاء العالم.
وشاعت شهرته بين علماء الدراسات الشرقية، فكان موئلاً لكل ما يستعصي عليهم من بحوث.. وكان بريده اليومي على وفرته لا يحمل إليه إلاّ الرسائل العلمية التي تستطلع رأيه في البحوث المستعصية في كافة الدراسات الشرقية، واضطر في سني حياته المتأخرة أن يدرس اللغة التركية ليتابع بحوثه في آثار الشرق بمختلف نواحيه.
وتتلمذ على يديه في سنيه الأخيرة عدد من الشباب المهتمين بالدراسات الشرقية، فكان يخوض بهم في مختلف ميادين اللغات السامية.. كان يطالبهم بالعمل المتصل وبذل الجهد الشاق فيتعلمون منه كيف يهتمون بدقائق الأمور، وكيف يمحصون الجزئيات دون أن تزيغ أبصارهم عن الكليات وكيف يعتمدون على الأسس الصحيحة في البحث العلمي ويتجنبون النظريات التي لا ضمان لصحتها.
وعنّ له في شيخوخته هذه أن يساعد تلامذته في اللغات السامية فوضع للغة السريانية قواعد نحوية، وألف كتاباً ضخماً أوضح فيه المقارنة بين اللغات السامية وآخر في فن الأساطير الشرقية والفارسية وغيره في شرح خمس من المعلقات العربية.
بمثل هذا النشاط الذهني يجب أن يطالب شيوخنا فضعف الجسم وتهالكه لا يعني تهالك الذهن أو ضعفه أو عجزه عن الإنتاج الخالد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :308  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 156
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج