شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به سعادة الدكتور بدوي أحمد طبانة ))
ثم أعطيت الكلمة لضيف الاثنينية سعادة الأستاذ بدوي أحمد طبانة، فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم.
- اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ويسر لنا صالح القول والعمل؛ وبعد:
- أيها الأحباء: أحمد الله إليكم حمداً كثيراً، وأصلي وأسلم على من اختاره الله - سبحانه وتعالى - رحمة للعالمين وسراجاً منيراً؛ ولعلي لم أتهيب الكلام في موقف كما أتهيبه في هذه الساعة، ذلك لأن المعاني تزدحم ويحاول كل معنى أن يجد طريقه إلى آذان السامعين وقلوبهم، وما أكثر هذه المعاني.
- منذ يومين كنت في زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنذ يوم كنت في زيارة البيت الحرام، هالني ما رأيت من هذه العظمة التي قام بها أبناء هذه البلاد وسادتها وحكامها، في توسيع هذين الحرمين الشريفين، ليس توسيعاً في المكان، وإنما هو توسيع في مكانة الإسلام وعز الإسلام؛ رأيت هنالك في الحرم النبوي شيئاً عجيباً في سنوات معدودة، ورأيت كذلك في البيت الحرام ما شدني وما زاد حبي لهؤلاء الناس، الَّذين أسأل الله أن يبارك في حياتهم وأن يبارك في أرزاقهم، لأن هذه الحياة حياة دائبة عاملة، ولأن هذه الأرزاق تنفق في سبيل الله، تنفق في سبيل الإسلام الَّذي بعث الحياة في هذه البلاد؛ ماذا كانت هذه البلاد من قبل؟ كانت مسافي ريح، ومنابت شيح، وأطلالاً فوق أطلال؛ ثم جاء الإسلام.. ثم أشرقت شمس الإسلام على هذه الربوع القاحلة التي قتلها العدوان، والاعتداء، والفقر والهوان، فأصبحت هذه البلاد جنة من جنان الأرض استجابة لدعوة أبينا إبراهيم - عليه السلام - رب إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات.
- وقد رزقهم الله من الثمرات.. جاء الإسلام فأحيا هذه النفوس، بل وجلَّى هذه النفوس وصقلها، بعد أن أصابها الصدأ الَّذي غشى على معالمها الأولى، المعالم الطاهرة.. معالم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - جاء الإسلام فأحيا هذه النفوس، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها.
- نحن الآن في جدة، في اليوم الثاني عشر من شهر شوال، سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف؛ في أربعة عشر قرناً انتقلت هذه البلاد من حال إلى حال، وصارت إلى ما هي فيه.. مما يسر قلب كل مسلم، ومما يبعث الأمل في قلب كل مسلم؛ ولقد زرت هذه المدينة قبل سنوات في أول حجة لي سنة ثماني وستين الميلادية، كيف جدة اليوم وكيف كانت جدة سنة ثماني وستين؟ فرق هائل جداً. كل ذلك ببركة الإسلام وعظمة الإسلام، وبأفاضل أهل هذه البلاد من حكامها الصالحين، ومن أمثال هذا الرجل الكريم، الَّذي نتفيأ ظلاله في هذه الدقائق أو في هذه الساعات، الشيخ عبد المقصود خوجه حفظه الله.
- أيها الإخوة: الَّذي يراد مني حديث، والحديث عن النفس أو عن العمل، وما أكثر الأحاديث وما أكثر الذكريات التي تتزاحم على الذهن في هذه المناسبة؛ أي هذه أختار لست أدري؟.
- أقول أولاً: إن الشيخ عبد المقصود خوجه ظاهرة من الظواهر الفذة الجديدة في عالمنا العربي الإسلامي اليوم؛ لقد جاء بي من مصر وكان حسبه هذا، ورأيت في هؤلاء الضيوف المدعوين، كنت أتوقع أن يكونوا من أبناء هذه المملكة، فإذا هم جماعات من أفاضل العلماء لا من أبناء هذا البلد وحده، ولكن من أبناء العروبة والإسلام في كل مكان؛ لقد طربت لذلك طرباً كثيراً؛ ظاهرة جديدة من عبد المقصود خوجه، لأنه استطاع أن يجمع هذه القلوب، والنفوس اجتمعت حوله يكرمها بفضله، بفهمه، وبعلمه، وبما آتاه الله من الحكمة؛ رأيت هنا إخوة لنا من المسلمين في كل مكان من فضلاء إخوتنا في العروبة والإسلام، تذكرت قول أبي تمام وهو يتكلم إلى محمد بن عبد الملك الزيات، يقول له:
أبا جعفر إنَّ الجهالة أمُّها
ولود وأم العلم حذاء حائل
أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم
شعوب تلاقت دوننا وقبائل
- أهل الفكر وأهل البيان مختلفون متفرقون، لا أدري إن كان ذلك حسداً منهم لأنفسهم، أم كان تنافساً؟ والمعاصرة كما يقولون حجاب.
أرى الحشو والدهماء أضحوا كأنهم
شعوب تلاقت دوننا وقبائل
 
- ولكن عبد المقصود خوجه استطاع أن يجمع أهل الفكر، وأهل العلم، وأهل المعرفة، وأهل النور، وأهل الأدب في هذا المكان في داره المباركة، التي أسأل الله لها بقاءاً ودواماً، وأسأل الله أن يحذو حذوه من يملك شيئاً من فهمه وحكمته وما آتاه الله من نعمة.
- أيها الإخوة: إنني أشكر هؤلاء الإخوة الَّذين تحدثوا، وأولهم شيخُنا وأستاذنا، ورئيسُنا، الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، على ما حباني به من كلمات طيبات تفضل بها.. خلع علي صفات، أسأل الله أن أكون أهلاً لها؛ أشكره من أعماقي، وأشكر أخي الأستاذ أحمد سالم الشاعر المبدع، والإنسان الكامل، والصديق الحبيب، الَّذي لا أنساه وما نسيته قبل؛ وصديقي الدكتور القحطاني، هذا الرجل الَّذي شرفني وقرأت في كلمته أنه رجل لا يقنع بالقشور دون أن يغوص إلى اللباب، وتحدث عن شيء مما قلته أو مما كتبته؛ أشكره شكراً جزيلاً على أن قرأ هذا الكلام، ولا أخفي عليكم أن كلامنا ثقيل وعلمنا ثقيل، ليس علماً يكتب للتسلية أو يطلب للتسلية، ولكنه علم ثقيل صعب المراس؛ وهو من الَّذين كابدوا الشوق حتى عرفوه وقرؤوه، وأشار إلى قضية من القضايا، وما أريد أن أتنقل إلى قضية علمية في هذا المجتمع.. وكلكم أهل علم؛ فقد أشار إلى قضية اللفظ والمعنى وإلى ما حبوتها من عناية لي في شيء من كتبي.
- قضية اللفظ والمعنى جوهران، أو في الحقيقة هما شيء واحد لا ينفصل واحد منهما عن الآخر؛ إذا كان الجاحظ زعيم لمدرسة هي مدرسة اللفظ، كما ذهب بعض النقاد - أو مؤرخي الأدب - إلى ذلك، وكان عبد القاهر الجرجاني زعيماً لمدرسة المعنى كما يذهبون إلى ذلك، فأنا أستطيع أن أقول أخيراً: إنَّ الجاحظ لم يغمط شأن المعنى وإن عبد القاهر لم يغمط شأن اللفظ، وإن بدا هناك شيء يستدعي الوهم في هذه القضية؛ ماذا يقول الجاحظ؟ يقول: إنه كان بالمسجد الجامع يوم الجمعة، فسمع منشداً ينشد هذين البيتين:
لا تحسبنَّ الموت موت البلى
وإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا
أفظع من ذاك لذل السؤال
 
- يقول الجاحظ: وكان أبو عمر الشيباني حاضراً، فلم يلبث أن أمر من يحضر له قلماً وقرطاساً، حتى كتب هذين البيتين؛ أما الجاحظ فيقول: وأنا أقسم أن قائل هذين البيتين لا يعرف لا هو ولا أبوه الشعر؛ وإن كان أبو عمر قد استحسنهما لما يشتملان عليه من المعنى، فالمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في تخير اللفظ، وحسن الرصف، وجودة السبك..، لأن الشعر ضرب من الصبغ وجنس من التصوير؛ هذا ما قال الجاحظ بهذه الكلمة: المعاني مطروحة في الطريق؛ ليس معنى ذلك أن الجاحظ العالم المفكر أبو المعاني يتنكر للمعاني، وإنما يقول: إن هذه المعاني ليست وقفاً على الأدباء، المعاني تتأتى للأديب ولغير الأديب، وتتأتى للعامي كما تتأتى للمتعلم.. واسمحوا لي فإنه تغلب عليّ طبيعتي العلمية.. فهذا عملي طول الحياة، وأرجو ألاَّ يملكم هذا الحديث وأنا مستعد أن أدعه إلى غيره.
- وأما عبد القاهر فيقول: يؤمن بنظرية تسمى نظرية النظم، وليس للنظم عنده معنى سوى تعلق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها سبب من بعض، فالاسم يتعلق بالاسم وبالفعل، والفعل يتعلق بالاسم، والحرف يتعلق بهما، ولا يتعلق فعل واسم بحرف، يعني يشير إلى الإسناد، ويقول: ولا يكون كلام إلاَّ من مسند ومسند إليه، ولا يكون كلاماً مفهماً إلاَّ بهذا الإسناد، حتى لو قلت: يا عبد الله، يبدو أنه ليس هنا إسناد، ولكن يا معناها أدعو أو أنادي حتى يجعل فيها إسناد، إلخ..
- ويقول في معرض آخر: إن اللفظة لا تحسن من حيث هي لفظة، ولا تقبح من حيث هي أصوات تتوالى في المنطق، وإنما تحسن اللفظة لا لحسن معناها، وإنما لملاءمة معناها لمعاني جاراتها، متعلق بالمعنى أيضاً؛ ويقول: والحقيقة إنك لا تتطلب اللفظ بحال إذا كان المعنى حاضراً، فاللفظ طوع يمينك وبين يديك.
- هذه نقطة الخلاف.. نقطة الخلاف بينهما، أن عبد القاهر يرى أن التفوق لأديب على أديب ينشأ من التعبير.. كيف يعبر عن المعاني؛ وعند عبد القاهر إذا ظفرت بالمعنى فاللفظ بين يديك، المعنى هو الَّذي يستدعي اللفظ المعبر عنه؛ هذه هي الفكرة باختصار، ولا يمكن أن يتصور أنَّ الجاحظ يتنكر للمعاني أو أنَّ عبد القاهر يتنكر للصياغة.
- أيها الإخوة الكرام: أثارني الدكتور القحطاني إلى هذه الوقفة، وقلت: لعلها خير؛ وطبيعي جداً أنَّ الكلام لغة المتكلم وتلك طبيعتي فمعذرة، وأشار إلى قضية السرقات جزاه الله خيراً فيما ذكر؛ ثم أستحي أن أقول تلميذنا الأستاذ بابصيل، هذا الشاعر الوفي الَّذي رأيته بعد سنوات طوال، منذ كان يجلس مني مجلس الطالب من الأستاذ ثم حرمته فجأة لسنوات طويلة، حتى أسعدني الله وأسعدني الشيخ عبد المقصود بلقائه في هذه الليلة الكريمة، وإني لأتقبل كلماته التي شرحت صدري، وأرى فيها آية من آيات الوفاء، ثم يأتي بعد ذلك حديث المكرم عن نفسه، وما أثقل الحديث عن النفس إلى النفس؛ هذه كلمة أقولها: ثقيل جداً أن أمدح نفسي أو أثني على نفسي، وأتذكر أبياتاً من الشعر لصديقي الشيخ محمد الرضا الشبيبي العراقي - رحمه الله - لعلكم تعرفونه:
فتنة الناس وُقِينَا الفتنا
باطل الحمد ومكذوب الثنا
رب جهم حولوه قمراً
وقبيح صيروه حسنا
حكم الناس على الناس بما
سمعوا عنهم وغضوا الأعينا
فانطلقنا وأنا من بعضهم
أذني عيناً وعيني أذنا
أيها السائل عن أحوالنا
أيها السائل الداء هنا
كلنا يطلب ما ليس لـه
كلنا يطلب ذا حتى أنا
 
- فالحديث عن النفس مر وثقيل على هذا الضعيف الَّذي يجلس أمامكم؛ أما مراحل الحياة.. فما أظن فيها جديداً يذكر، لست نابغة من النابغين، ولا عبقرياً من العباقرة، ولا فذاً من الأفذاذ..، وإنما أنا عبد من عباد الله.. أنا طالب للمعرفة؛ وسمعت من واحد من أساتذتي - يرحمهم الله جميعاً - يقول: إن العلم ثلاثة أشبار، من قطع الشبر الأول اعتقد أنه أعلم أهل السموات والأرض، ومن قطع الشبر الثاني كان في منزلة بين الشك واليقين، أهو يعرف أم لا يعرف؟ فإذا وصل إلى الشبر الثالث اعتقد أنه أجهل الجاهلين.. وأنا أرجو ألاَّ أكون من علماء الشبر الأول ولا الشبر الثاني، وإنما من الشبر الثالث الَّذين يعرفون أقدارهم.
- نشأت في قرية في المنوفية، كما ذكر أستاذنا عبد الفتاح أبو مدين، سنة أربع عشرة بعد ألف وتسعمئة ميلادية، وهذا يعني أن سني الآن يزيد على الثمانين ونصف شهر.
إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
 
- أحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ونشأت في القرية، كما ينشأ أبناء القرية، نتردد على الكتاب، نحفظ القرآن، ونتعلم مبادئ العلوم البسيطة، القراءة، والكتابة؛ وإنما الَّذي كان يروعني ويأخذ بيدي ويسبح بأحلامي - وأنا طفل غرير - عمي عليه رحمة الله كان رجلاً من رجال العلم الَّذين أسدوا إلى النهضة العلمية في مصر يداً كبيرة، وهو الأستاذ بهي الدين طبانة رحمه الله، وأتصور هذه الصورة وأنا حدث صغير، وأرى هذه العربات التي تجرها الخيول تتزاحم حول بيتنا، أرى أعيان المنوفية يتهافتون ويأتون فرساناً على خيولهم ليشرفوا بمجلس هذا الرجل، وأتذكر تلك الفوانيس الكبيرة المضاءة في الحديقة أمام الدار، أتذكر هذه الصورة وأنا طفل صغيرة، يسعون إذا قدم عمي إلى بلده، يسعون إليه؛ كم تمنيت أو تمنت أحلامي أن أبلغ هذا المستوى، وأعتقد أنني مهما بلغت لن أصل إلى هذا المستوى الَّذي كنت أراه في طفولتي، والَّذي كنتُ أحلم بتحقيقه في يوم من الأيام.
- ودرست دراستي الأولى في القرية، وذهبت إلى القاهرة.. فدرست دراستي الثانوية ودراستي العالية، ليس فيها شيء جديد وليس فيها وقفات، وإنما أذكر أنني كنت أذهب كل يوم بعد أن أديت امتحان الشهادة الثانوية إلى محطة السكة الحديد - التي تبعد عن بلدنا سبع كيلو مترات - أنا وسبعة من أقراني، نذهب لننتظِرَ وصول القطار إلى هذا البلد يحمل نتيجة الشهادة الثانوية، وطول الأسبوع ونحن نتوقع ونذهب، ونعود ونذهب، ونعود..، إلى أن فوجئنا بوصول النتيجة في جريدة مسائية، وكانت الجرائد بأرقام الجلوس، وكان الثمانية معاً، وكان العبد لله هو الناجح الوحيد بينهم - عليهم رحمة الله جميعاً -.
- في الجامعة لا أذكر شيئاً من الأحداث، وإنما أذكر ليلة مناقشتي في رسالة الدكتوراة، أذكر هذه الليلة التي يذكرها الباقون في قيد الحياة ممن شهدوها، ويذكرونني بها لأنني كنت فيها صاحب موقف؛ في ذلك العهد كانت لجان المناقشة تتكون من خمسة أعضاء، وكانت لجنة الماجستير تتكون من ثلاثة والدكتوراة خمسة؛ وقبل المناقشة العلنية تُشَكَّلُ لجنة من ثلاثة أعضاء تفحص الرسالة، وتقرر إن كانت صالحة للمناقشة أو لا؛ وكانت المناقشة في دار الحكمة في القاهرة، واكتظ المشاهدون على غير عادة حتى قيل: إن عددهم بلغ ثلاثة آلاف ولا أدري لذلك سبباً؟ ولكن معركة نشبت بيني وبين أحد الأساتذة الممتحنين، حيث قال لي: أنت عدو للوزن والقافية في الشعر؛ قلت له: أتريد جواباً؟ قال لي: نعم؛ قلت له: أنا صديق للقافية والوزن في الشعر، فقال لي: أظهر صفحة كذا؟ فأبرزتها وقرأت ما كتبته، وهو: "إن الأصمعي قال لبشار: أنت في كلامك أشعر منك في أبياتك بعد أن سمع أبياته في المشورة"، ومنها:
إذا بلغ الرجل المشورة فاستعن
بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة
فريش الخوافي قوة للقوادم
- إلخ..
- وبعد أن سمع نثره عنها حيث قال: "إن المشاور بين الحسنيين إما أن يظفر بالشورى فيأخذ بها، وإما أن يجد من الناس عاذراً" فقال له: "أنت في كلامك أشعر منك في أبياتك" فقال لي: معنى ذلك أنك لا تعتد بهذا الشعر.
- هذه نقطة وقفت معه فيها؛ والنقطة الثانية قال لي: أنت تعرضت للكلاسيكية؛ فقلت له: نعم تعرضت.. فقال: كان يجب أن تستشهد بآراء علماء الغرب فقلت له: أنا متقدم للدكتوراة ولا يتقدم لها إلا من هو أهل لها وللعلم؛ وبهذا الصوت المرتفع وسط هذه الحشود الكثيرة، قلت له: لماذا تطلب مني الاستعانة بفلان وفلان؟. أنا لا أستعين بمرجع إلاَّ إذا كنت بحاجة إليه، وإنما أنا مفكر ولولا ذلك لما كنت أصلح للدكتوراة، وستجد في آخر الرسالة ثبتاً فيه عشرون كتاباً باللغة الإنكليزية، وأصدقك القول: إنني لم أحتج إلى مصدر من هذه المصادر، وإنما كتبت ذلك لكي أخزي العين، حتى تعرف أنني أحسن اللغة الإنكليزية؛ وثار الجدل واحتدم.. وبعد ذلك قال رئيس اللجنة: إن المناقشة خرجت عن حدودها، ترفع الجلسة وتؤجل المناقشة إلى أجل يحدد فيما بعد.. هذه نقطة لا تنسى.
- وبعد مضي بعض الوقت، عدنا للمناقشة وتمت، وبحمد الله حصلت على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرف الأولى.
 
- بعد تخرجي عينت معلماً في وزارة المعارف المصرية في المدارس الابتدائية والمدارس الثانوية والجامعة، كل المراحل مررت بها؛ ثم ذهبت إلى العراق، وبعد ذلك اجتمعنا في مجلس القسم.. وكان رئيسه الأستاذ طه الراوي، كان عالماً فاضلاً من علماء العراق؛ فاجتمعنا فقال: إن درس البلاغة عندنا معطل، وكيف يتخرج طالب لا يعرف البلاغة وهو سيدرس البلاغة؟ فبقيت ساكتاً فأنا غريب وأنا ضيف ما زلت جديداً؛ فرد أحد الحاضرين وقال: والله أنا أضج من هذه البلاغة.. هذه بلاغة الأعاجم - بهذا اللفظ - وأنا ساكت؛ وقال الثاني: والله أنا لا أعرف البلاغة؛ والثالث قال مثل ذلك، فقال لي: ما رأيك أن تقوم بتدريس البلاغة للصف الثالث والرابع؟ فقلت له: حاضر؛ وعرفت المقرر: "كتاب الطراز للعلوي" ولم أكن رأيته في مصر قبل أن أذهب ولا سمعت عنه، لأننا كنا ندرس بلاغة السكاكي، وبلاغة الخطيب، والسعد؛ وكل مصر لا تعرف إلاَّ هذا. طلبت نسخة من الكتاب المقرر فجاءتني النسخة مطبوعة في مصر سنة 1913م، أي قبل مولدي بسنة، وما تزال كما هي لم تفك صفحاتها، سأتولى تدريس هذا المقرر لطلبة السنة الثالثة والرابعة في الجامعة! إنه شيء مخيف بالنسبة لي، وأنا شاب طري العظم؛ قرأت الكتاب من أوله إلى آخره، ولهذا الكتاب ميزة من المزايا.. إنه يذكر مصادره في كل مكان، ويذكر الآراء المختلفة للعلماء الَّذين سبقوه؛ وكنت أرجع إلى هذه المراجع الأصلية التي آخذ منها وأحققها وأحقق ما نقل، وتكونت عندي الملكة والحمد لله. عندما كنت في مصر أسمع عن الرصافي وشعر الرصافي، قصيدة كنا نحفظها ونحن في المدرسة الابتدائية، في وصف القطار.
وقاطرة ترمي الفضا بدخانها
وتسحب ذيل الأرض فـي جـريها سحبا
تمشت بنا ليلاً تجر وراءها
قطاراً كصـف الـدوح تسحبـه سحبـا
فطوراً رخاء كالنسيم.. إلخ..
 
- قصيدة نحفظها ونحن صغار، وكنت أتصور أننا لا نقرأ إلاَّ للقدماء، وكنت أتصور الرصافي واحداً من الجاهليين أو من قدامى الإسلاميين، إلى أن عرفت أنه ابن العراق وابن بغداد، وأن له ديواناً، وأنه شاعر أثير عند شعب العراق؛ فقرأت ديوانه وكتبت ما كتبت عنه؛ بعد ذلك.. بعد أن انتهيت من الكتابة ونويت أن أعود إلى مصر وأطبع الكتاب، أحببت أن آخذ سنداً عراقياً، لأنني أعرف الجو الَّذي عاش فيه الرصافي، الرصافي عاش بغيضاً إلى الحكام والحاكمين في بغداد، إلى أن مات، إلى درجة أنهم منعوا تشييع جنازته؛ كتبت عنه وجمعت شعره الَّذي لم ينشر، وللشعر مسيرة هناك، ينشد الشعر في بغداد وثاني يوم تلقاه ملء البصرة، وتجد أهل الموصل يحفظونه وخصوصاً الشعر المثير من أمثال شعر الرصافي؛ الرصافي كان عضو مجلس المبعوثين في تركيا فقال قصيدة مثيرة، جاء فيها:
لنا ملك تأبى عصابة رأسه لها
غير سيف التيمسيين عاصبا
تبوأ عرش الملك لا عن سيادة
ولا كـان فـي يـوم لـه الشعـب ناخبا
وليس لـه من شأننا غير أنه
يعدد أياماً فيقبض راتبا
 
- ويقول في الوصي عبد الله الوصي على الملك الصغير فيصل الثاني:
علي بن الحسين مضى وأبقى
وضيعاً غير ذي شرف علي
 
(وهو عبد الإله الوصي، خريج كلية فكتوريا في مصر، إنكليزي).
ضعيف النفس هر غير حر
ذليل النفس ما هو بالأبي
أقاموه على جهل وصياً
على ملك لهم حدث صبي
فقلت وصيكم يا قوم فيما
يصون العرض أحوج للوصي
إذا ما الإنكليز رضوا عليه
فليس الدين والدنيا بشي
 
- هذا شعر الرصافي؛ ويقول عن نوري السعيد مثلاً:
إن نوري السعيد قد كان قبلا
آدمياً فرد بالمسخ قردا
قد أبى أن يعيش حراً مع العرب
فأمسى للتيمسيين عبدا
مثل إبليس ما أطاق سجوداً
وأطاق الهوان لعناً وطردا
 
- هذا الرصافي.. وألفت الكتاب ورحت قلت لأستاذنا طه الراوي، رئيس القسم الَّذي أنا عضو فيه: أنت من أصدقاء الرصافي، الرصافي مات سنة 1945م والكلام الَّذي أتحدث عنه سنة 1946م، وقد كتبت مقالتين عنوان كل منهما: "صديق الرصافي" أنا أرجوك أن تتفضل بكتابة مقدمة لهذه الدراسة، كي تكون جواز المرور، وأنا عملت كتاباً لكي يقرأ ويباع وليس يصادر؛ بقي الكتاب عنده ستة أشهر ورده إليّ معتذراً، وقال لي: والله أنا كنت متعباً ومشغولاً.. فسامحني خذ كتابك.
 
- وكان لي صديق اسمه: رشاد الشبيبي، قلت له: يا رشاد الشيخ رضا أخوك لم يكتب مقدمة الكتاب، فهل تستطيع أن تقنع أخاك أن يكتب لي المقدمة؟ قال لي: سأقول له ذلك؛ ودعاني الرجل إلى بيته وقرأ الكتاب، وكانت له ملاحظات على بعض ما كتبت، وقلت له: أنا أرحب بهذه الملاحظات، وسأسجلها، ولكنني لن أدخلها في كلامي، وإنما سأجعل موضوعها الحاشية، أقول: يرى فلان كذا كذا.. ويبقى كلامي ورأيي كما هو واضحاً، أيعجبك هذا؟ قال لي عظيم جداً، وكتب المقدمة من 32 صفحة للكتاب، لذلك قلت لكم - في الأول -: صديقي رضا الشبيبي، وكان لي دخل في أشياء كثيرة مع هذا الصديق - يرحمه الله - كان رجلاً فاضلاً.
- وبعد كتابة مقدمة الكتاب عزمت على طباعته في إجازة نصف السنة، فإذا بصديق أديب من كُتَّاب القصة في العراق، اسمه: عبد المجيد لطفي؛ موظف في وزارة المالية يهاتفني ويقول لي: أريد مقابلتك، فقلت له: أهلاً وسهلاً؛ قال ليس في بيتي ولا بيتك؛ قلت: كما تريد؛ واتفقنا على قهوة التقينا فيها، فقال لي: أنت ألفت كتاباً عن الرصافي؟ قلت له من أنبأك؟ قال لي هذا سر؟ إن الظروف ليس مواتية، أرجوك أن تؤجل طباعة هذا الكتاب حتى تعود إلى مصر؛ قلت له: هذا جهد أنا بذلته، قال لي: أنت تعرف الناس هنا؛ قلت له: ماذا سيعملون؟ أنا مصري يا أخي هل يستغنون عن خدماتي؟ قبل أن يستغنوا.. سأقدم الاستقالة وأسحب البساط من تحت أرجلهم؛ قال لي: قد تكون أكبر من ذلك؛ قلت: هل سيسخرون من يقتلني؟ قال لي أنت تعرف الناس هنا؛ قلت: ما أظن أنهم يقتلون رجلاً لأنه كتب كتاباً عن رجل يكرهونه، ما أظن أن تصل المسألة إلى هذه الدرجة؛ وفعلاً جئت مصر وطبعت الكتاب، وفي المطبعة كنت - تقريباً - أنام فيها وأدفع فلوساً للعمال ولرئيس العمال، حتى انتهت طباعة الكتاب في خمسة عشر يوماً وجلدته، وأخذت منه خمسين نسخة، وحملتها معي إلى العراق، وزعتها وقدمت للعميد رسالة، أعلمته فيها برغبتي في إنهاء خدماتي بانتهاء هذه السنة؛ وكأن العميد كان ينتظر ذلك، لأنه كان يحبني جداً، وقال لي: يعز علينا فراقك ومتأسف؛ فقد كانت لديه أوامر بأن يستغنى عني وكأنه يقول:
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
 
- هذا البيت للمتنبي، وأجمل من هذا البيت قوله:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألاَّ تفارقهم فالراحلون همُ
 
- وبعد ماذا بقي؟ بقيت قصة عودتي إلى مصر، وقصة دخولي مجمع اللغة العربية، بعد ما ذهبت من هنا.. لا شك أن نفسي تتطلع إلى مجمع اللغة العربية، فمنذ أكثر من عشرين سنة كلمني أستاذي الأستاذ زكي المهندس - وكان وكيلاً للمجمع، وكان رئيسه أحمد لطفي السيد باشا - قال لي: يا فلان - وهو أستاذي - قال لي: نريدك في مجمع اللغة العربية؛ قلت له أرجوك يا أستاذي اعفني من هذا الكرم العظيم، كل إنسان يتمنى هذا، وقلت له: أنا رجل أخذت على النجاح وأنتم عندكم سقوط، فلان الفلاني سقط اثنتي عشرة سنة، ودق الأبواب واستعان بالأسباب، أنا لا أستطيع أن أسقط 12 سنة يا أستاذي، وفلان سقط تسع سنوات وكان مديراً لجامعة، وفلان سقط عشر سنوات، أنا لا أطيق مثل ذلك؛ قال لي هذا شيء طبيعي، قلت له إذن دعني؛ وفي ذات يوم وأنا جالس مع أحد أساتذتي - وهو عضو المجمع وعضو ثان من أعضاء المجمع - قال لهم أستاذي: إن إلمجلس محروم من خدمات الدكتور بدوي طبانة؛ فقال له الآخر همتك.
- وشاء الله أن أرشح، وحصلت على ستة عشر صوتاً، لكن أحد الأعضاء كتب في ورقته اسمين أحدهما اسمي، فقررت اللجنة إعادة الانتخاب، وكنت أتوقع أن أحصل على تسعة عشر صوتاً، على أمل أن يشترك الأعضاء الثلاثة الَّذين كانوا ثمانين، ولكن النتيجة جاءت مخيبة، فحصلت على ثلاثة عشر صوتاً، فتذكرت قول ابن الرومي:
فيا له من عمل صالح
يرفعه الله إلى أسفل
 
- وتلى ذلك أن انتقل إلى رحمة الله في سنة واحدة سبعة من أعضاء المجمع، وكلهم من الناس الَّذين كان بيني وبينهم شيء من التعاطف، فيئست من المجمع يأساً نهائياً، ثم فوجئت بالهاتف يرن فجأة بعد اليأس، فإذا بالمتحدث يعلن اختياري عضواً وانضمامي إلى مجمع اللغة العربية الَّذي يسمونه مجمع الخالدين، وأرجو أن أكون أهلاً لذلك.
 
- أيها الإخوة.. أيها الأحباب: هذه جوانب من المسيرة، فلعلكم وجدتم فيها شيئاً عرفتموني به؟ وأكرر شكري وثنائي إلى أستاذنا الجليل الأستاذ عبد المقصود خوجه على كرمه الحاتمي، وعلى أن تتاح لي فرصة مطالعة وجوهكم الكريمة.
 
- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :726  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 104 من 171
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج