شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ـ34 ـ (1)
كانت الست الكبيرة ـ وهذا هو لقبها اليوم ـ تسكن في ماضي أيامها بمحلة المظلوم بمدينة جدة القديمة.. تعيش عيشة أهل الحي المتواضعة.. وتشرف على خدمة أخواتها وأخوانها الصغار معينة والدتها في ذلك وفي خدمات البيت من كنس وطبخ وغسيل.. عادة درجت عليها طبقتها لا ترى فيها غضاضة أو عيباً ولا تملك لها دفعاً، فحتى لو اشتهت شيئاً غير هذا لما تحقق لها مشتهاها.. فدخل الوالد السبحي محدود.. وتكاليف معيشة العائلة بنسبة الدخل.. باهظة ومتنوعة..
وكانت لها جارة في مستواها الطبقي وفي سنها تقريباً وقد اقتضى الجوار والوحدة وبعض الفراغ أن تصبحا رفيقتي جلسة يومية أو أسبوعية خاصة تتبادلان فيها شتى الأحاديث والأمنيات المكبوتة، ولهذا أصبح جل ما تتركّز عليه الأحاديث بينهما أخبار زواج فلانة وسعدها وعدم زواج الأخريات ممن هن أولى منها.. وهما يعنيان نفسيهما ضمناً في مضمون الأحاديث ومغزاها..
وأخيراً.. تزوجت أولاهما زواجاً موفقاً انتهت بعد سنوات طويلة من توالي الثراء والرغد أن حازت لقب الست الكبيرة بحكم سيادتها على كل أهل البيت والأولاد والخلف المتواتر.. والعيش الرغيد..
أما جارتها فبالرغم من أنها تزوجت بعدها مباشرة إلا أن حظها كان سيئاً فلم تهبها أمواج الحياة المتقلبة بين العسر والشدة حياة الرفاهية والاستقرار مع زوجها الذي توفي وترك لها بنتاً وحيدة أصبحت لديها أعز ما وهبته لها الحياة الضنينة فباتت الابنة مصدر عزائها.. ومدار وجودها.. واضطرت لاحتراف مهنة الدلالة من أجلها تحمل بقجاتها للطواف على البيوت محترفة تجارة الملابس واللوازم النسوية بكافة أشكالها كمعرض متنقل وذلك قبل انتشار أو وجود المعارض الحديثة.. قانعة بربحها الضئيل يقيم أودها وأود ابنتها الصغيرة والوحيدة..
ودارت عجلة الأيام فالشهور فالأعوام وكبرت البنت.. وكانت جميلة مشتهاة.. وجاءها عريس من أبناء الحي من الجيران، وتحددت ليلة الزفاف، وكالعادة الموشكة على الانقراض التام كان لا بد لها من استئجار المصاغ العث في هذه المناسبة.. واضطرها رقم المهر المحدود ومدخرها الضئيل أن تفكر في استعارة المصاغ لابنتها بدلاً من استئجاره.. للتجمل به في ليلة الزفاف..
وهنا تذكرت جارتها القديمة والتي أصبحت الست الكبيرة.. فذهبت إليها.. ولم تخيب الست رجاءها.. فقدمت إليها مطلوبها بعد أن جعلتها تبصم على بيان بمفرداته.. وكررت عليها ضرورة المحافظة على كل قطعة منه.. مع سرعة إعادته بعد انتهاء الغرض منه.. واستلمته أم العروس.. وتم الزواج.. وأعادته بالوفاء.. وبالتمام مقدرة لجارتها القديمة صنيعها الكبير.
ولكنها أصبحت بعد ذلك.. دائمة الحزن.. مكتئبة.. ثائرة الأعصاب.. ناقمة على جارتها القديمة الست الكبيرة ما تقوم به.. فقد باتت لا تدخل بيتاً لمزاولة مهنتها كدلالة متجولة إلا وتسمع حكاية المصاغ.. وإعارتها إياه من الست الكبيرة مضافاً إلى الحكاية ذيول.. وفروع.. منها أنها جاءتها باكية متضرعة في سبيل الاستعارة.. وأنها يوم أن أعطتها المصاغ أضافت إليه مبلغاً محترماً كصدقة.. يسمونها رفداً.. والأنكى من كل ذلك أن المصاغ أعيد للست الكبيرة ناقصاً خاتماً صغيراً إلا أنه يساوي مبلغاً محترماً من المال..
وفي كل مرة كانت تسمع الدلالة هذه الرواية.. كانت تقسم بأغلظ الأيمان وتلك هي الحقيقة.. بأنها لم تبك ولم تتضرع.. وبأنها لم تستلم أي مبلغ باسم الصدقة أو الرفد.. وأنها أعادت المصاغ كاملاً لم ينقص منه خاتم.. أو زقره!
وفر الزمان ـ وأصبحت الدلالة عجوزاً شمطاء تطارد فلوله في ركن من أركان غرفة حقيرة في بيت يسمونه ـ وقف آل فلان ـ وشاءت المصادفة أن أقابلها من أيام لتروي لي روايتها مختتمة إياها بقولها.. ومع ذلك فإنني لا أزال أقول جزى الله الست الكبيرة عني خير الجزاء على كل حال.. ولكن ليتها لم تلوث صنيعها بما فعلت مِنْ مَنٍّ وافتراء.. وتردد عن الست الكبيرة.. في إيجاز وإعجاز.. هذه الأبيات:
ولا عيب فيها.. غير أن لسانها
طويل.. وإن الصدق فيه قليل
مبيح لأسرار الأنام.. مدلدل
يلسوع كالكرباج.. بل هو تيل
تلتُّ كما تهوى.. وتعجن ما اشتهت
فسلوتُها قال.. يطول.. وقيل
إذا استبلشت في الناس شخصاً فإنه
سيمسي حديث الناس.. حيث يميل
فيا ليت.. يا ربي.. تبطِّل طبعها
فليس لها.. بين النساء.. مثيل!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :788  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 87 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.