شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حديث الذكريات (1)
أحمد قنديل الكاتب والأديب والشاعر.. الذي امتازت كتاباته بالسخرية وبالنقد وأطلق عليه البعض ((الكاتب الشعبي)) الذي نقل الصورة الشعبية إلى أذهان القرّاء بأسلوب فكاهي ساخر.. كما يمتاز شعره الفصيح برقة ونقاوة صافية تلتهمه النفس دون عناء.. عندما تجالسه لا تمل مجلسه ينقلك إلى مراتع الصبا اللاهي حيث الذكريات الخوالي ويبعث في نفسك الطمأنينة بحديثه.. فيجول بخاطرك من مرتع إلى مرتع ومن موقع لآخر جعبته مليئة بالذكريات.
وهو ابن حارة أصيل، يهوى ويحن دائماً إلى منازله القديمة، خدم بلاده كرئيس تحرير لجريدة الحجاز عام 1350هـ وبشغله عدة مناصب بوزارة المالية ثم أخيراً مديراً عاماً للحج لثلاث عشرة سنة وذلك بعد أن تخرج من مدرسة الفلاح حيث درس وقام بالتدريس، فتخرج على يديه بعض أبناء بلدته جدة، والذين أصبح منهم الوزير والرئيس والمدير العام والرياضي الكبير والاقتصادي الناجح.
سوف ينقلك عزيزي القارئ أستاذنا في هذه الحلقة الأولى من حديث ذكرياته إلى أماكن صباه وجو تحبه وتهواه. لا أطيل، فالجعبة مليئة بأشياء وأشياء، فإليك عزيزي القارئ الأستاذ أحمد قنديل.
نشأت.. وسط الناس:
ـ ولدتَ ونشأتَ وتربيتَ بين بيوت جدة القديمة.. بين أزقتها وشوارعها وحاراتها.. فأحببتها كوجود ومن ثم ألفتها كموجود فهل لنا بذكرياتك عن تلك الحقبة من الزمن؟
ـ إن ذكريات المرء جزء لا يتجزأ من حياته بل هي أساس كبير أو هي سنن الحياة إذا أردت بتعبير حديث.. لقد كانت ولادتي بمدينة جدة في حي العلوي. هذا الحي يقع بين محلتي اليمن والمظلوم.. والنشأة الشعبية دائماً تقوم على الانطلاق والاختلاط والتفاعل مع الحوادث واليوميات سواء في المدرسة أو مع الزقاق أو في الحارة، هذه ميزات لا بد وأن نقف عندها قليلاً لكي نرسم للحاضر صورة عن تلك الفترة. الآن أولادنا محرومون مما كنا نحن نتمتع به من انطلاق ومن احتكاك ومن تجارب وإن كانت تجارب طفولية لكنها تعمل رصيداً للحياة.. نعود لما نحن فيه، لقد كانت نشأتي كأي من أبناء الطبقة الشعبية.. نشأة شعبية متواضعة في منزل وسط وكان ترددي بين المدرسة والزقاق والمنزل والسوق والبرحة وهذه الأماكن تمثل مختلف الحياة.. لقد كانت مدينة جدة عبارة عن عائلة كبيرة يجمعها مكان واحد يحيط بها سور واحد، فالعائلة هذه، وأعني بها أبناء جدة، كانوا جميعهم معروفين لبعضهم البعض سواء منهم الناشئة أو كبار السن أو العوائل. كان الجميع متعارفين ويشكلّون أسرة واحدة يجمعهم الحب والوفاء والإخلاص والتضحية وإنكار الذات.. وكما تعلم إن النشأة الشعبية تقوم على الاحتكاك والالتصاق بالتراب وبالزقاق وبالشارع.. بالبرحة وغيرها، لا شك أن لها مقومات تظهر في مستقبل حياة الشخص وأنا وأمثالي نشأنا هذه النشأة، ومن هنا كان الالتصاق الأكثر الذي ولد منه الحب الأعمق للأماكن وعلى قول ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهمو
مآرب قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أيامهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلك
فهذا بالتأكيد هو الأساس
الاستغماية.. وألعاب أخرى!
ـ إذاً كيف كنتم تقضون أوقاتكم في الأماكن التي ذكرتموها؟
- في المنزل ننام ونأكل ونجتمع مع العائلة، وفي المدرسة نقوم بالواجبات المدرسية تحصيلاً وفيما بعد مذاكرة في المنزل.. أما في الأزقة وفي الشوارع والبرحات فكنا نمارس الألعاب الشعبية وهي كثيرة على أيامنا وإن كانت بدائية بالنسبة للألعاب الحديثة الحاضرة والمستوردة.. فهناك لعبة تسمى الكيت والبرجوه والمدوان والاستغماية ويا أبونا جانا الديب.. إلخ هذه الألعاب المعروفة في تلك الحقبة من الزمن. ولا بد أن أكرر دائماً في حديثي معك بكلمة أيضاً لأربط بين الماضي والحاضر.. طالما طلبت في كتاباتي السابقة النثرية أو الهزلية أن يتصدى شباب اليوم والدارسون منهم على الأخص لتكوين لجنة أو جماعة لترجع أو تعود إلى ألعابنا الشعبية بمختلف أنواعها وتسجلها أولاً ثم تطورها بمقتضيات العصر الحديث.. ولا أكتمك أن بعض ألعابنا القديمة تماثل الألعاب العصرية مثلاً أعطيك فكرة عن لعبة ((القتال)) وكان يلعبها الشباب وهي تساوي الآن لعبة ((الجولف)).. ((الاستغماية)) لعبة تكاد تكون عالمية.. لعبة ((اليدس)) وهي لا شك لعبة ظريفة وطريفة.. ألعاب كثيرة متعددة لا بد من حصرها في قائمة أولاً تحت عنوان الألعاب الشعبية ومن ثم يبحث في أمر تهذيبها أو تطويرها في الوقت الحاضر فنمارس ألعاباً تتصل في حاضرنا بماضينا وقد تنقل عنا لأن في بعض ألعابنا طرافة وحلاوة وجمالاً.. وبطبيعة الحال كنت في منزلي أقوم بالمذاكرة لدروسي اليومية، وليحمد الله جيلُ اليوم، لقد كنا في الماضي نجلس على الأرض لمذاكرة دروسنا أو على حصيرة قديمة أو حنبل هندي أو مفرشة عتيقة وكنا ننسدح على بطوننا أو نجلس ولم تكن هناك كهرباء لنتحكم في الإضاءة بل كنا نستخدم الفوانيس أو لمبة نمرة 2 أو لمبة نمرة 4.. هذه الحالات بما فيها من كد لا شك أنها تربي.. تربي الرجال وتنمي الملكة والإحساس.. أنا لا أدعو إلى العودة إليها بل بالعكس فإن إنجازات الحضارة الآن من كهرباء ومكيفات ومن ومن.. الخ ينبغي أن نستفيد منها استفادة كبرى فهي معين أكبر.. لأننا في الماضي كنا نعاني على حساب أجسادنا ونظرنا وأعصابنا.. أما في المدرسة فكانت الحياة الاجتماعية الحلوة الإنسان فيها يتلاقى مع أنداده ومع أترابه من الصغار وتنشأ علاقات. وبهذه المناسبة أذكر أن لي صداقات من أيام الدراسة إلى يومنا هذا استمرت مع بعضهم حتى قضى الله أجل البعض منهم وودعوا دنياهم، ومن أصدقاء مدرسة الفلاح المرحوم محمد سعيد العتيبي، الأخ سراج زهران، الشيخ عمر عبد ربه، الأستاذ عبد الحميد مطر، ومحمد علي مغربي. ولا تزال صداقتنا قائمة حتى اليوم ـ ولا أحب حصر الأسماء حتى لا يفوتني أسماء بعضهم ولكن أحببت أن أذكرك أن الصداقة التي نشأت بيننا ونحن أطفال أو زملاء دراسة لا تزال حتى اليوم لم تتبدل ولم تتغير ولم ينقطع بعضنا عن بعض؛ هذه ميزة أوصي بها شباب اليوم، إذ ليس هناك أحلى ولا أمتع من الصداقة القائمة على الحب والاحترام والوفاء والإخلاص والتضحية ونكران الذات. فالصداقة مرادفة للحب بل هي أعمق وابقى منه لأن الحب قد تخمد جذوته أما الصداقة فهي شعلة دائمة.
جيلنا هو الأفضل:
ـ قلت: لي معك حديث طويل عن الألعاب الشعبية وتاريخ مدرسة الفلاح.. لكن هل تعتقدون أن جيلكم قد حظي بكثير من الاهتمام من الوالدين مما هو عليه جيل اليوم، وهل هناك فوارق مما كان ومما هي عليه التربية اليوم؟
ـ الرابطة العائلية أو الأسرية في ذلك الوقت كانت أقوى بكثير مما هي عليه اليوم، والسبب في هذا ليس امتيازاً وإنما بحكم الضرورة وبحكم الظرف، فالوقت طويل وممتد، فالأب أو الأم أو الأخ أو الأخت يكونون عائلة واحدة دائمة الرؤية لبعض وليس هناك انفصام أو انفصال بل بالعكس تنشأ علاقة ووشائج مستديمة بعكس ما يحدث في هذه الأيام.. الحياة الآن حارة وسريعة جداً ومتعددة الأشكال ومتناثرة ومتباعدة، وهذا بحكم التطور العصري، ونحن لا نعيب هذا وإنما نقارن بين ما كانت عليه حالة الأسرة في ذلك الوقت وما أصبحت عليه الآن.
الحضارة.. جنت علينا!
الحياة المادية التي طغت على نفوس البعض يعلّلها بعض علماء الاجتماع بأنها المعول الذي هدم بعض التقاليد والعادات التي كانت سائدة في تلك الفترة من تاريخنا.
ـ الحقيقة إذا أردت أن تفلسف أو تدرس الأمر فالمسألة مردها إلى مشابه عامة، مثلاً، الإنسان مع الطبيعة في القرية غيره في المدينة الصغيرة وغيره في المدينة الكبيرة أو العاصمة حيث الاستقلال الذاتي و التباعد وغيره فيما وصلت إليه الحضارة في المدن أو في الحكومات الكبيرة.. أنا أذكر أنني قرأت ذات مرة لكاتب فرنسي وطبعاً كانت الكتابة مترجمة للعربية.. يقول إن الأبنية المتشابهة لناطحات السحاب كتمت على صدورنا وحرمتنا من الهواء الطلق ومن المناظر اللطيفة..! وطبعاً أنت تعلم أن هناك شعراء كباراً وكتّاباً وفلاسفة دعوا إلى العودة إلى الطبيعة، وهذا حلم أو أمنية مثل اليوديبيا.. لكن يدلك على مقدار الضيق بالأشياء المادية لأنها تكرب العصب والسعي وراء المادة أمر وجد له الإنسان لكن التغالي في هذا إلى الحد الذي ينسى فيه نفسه هذا لا شك أنه العيب ذاته.
جدة.. حبيبتي الأولى!
ـ ذكرت أن مدينة جدة أثَّرت في حياتك.. بل هي كل حياتك، فيها ذكريات الصبا والشباب.. الصبا اللاعب اللاهي.. والشباب الضاحك الحالم.. تلك الذكريات التي كلما ضاقت حلقات الحياة لجأت إليها فامتزج الماضي بالحاضر كجزء لا يتجزأ. فمن أنت فيها بعد هذا العمر ومن أنت بين ذلك الماضي وهذا الحاضر!؟
ـ لقد كتبت كثيراً ونظمت كثيراً وتحدثت كثيراً عن جدة.. ليس افتعالاً إنما هو شيء نابع من القلب لأنها بلدتي كان ارتباطي بها وما زال سواء بالذكريات أو بالحوادث سواء بالحنين إليها كلما غبت عنها أتحسس وجودي بوجودها.. أنت تعلم الاستغراق في الحب، وأنا بالنسبة لجدة في حالة حب دائم لأنه بطبيعة الإنسان الشاعر عندما يستهويه شيء ويستغرق فيه قد يبالغ ولكن هذه المبالغة هي أصل من أصول المحبة، ولا تنفرد جدة في حبها في نفسي، بل هناك مدن كثيرة بالمملكة أعشقها وأحبها لكن كما يقولون ما الحب إلا للحبيب الأول..
ولهذا سألني كثيرون لماذا تقصر في القناديل الشعرية وأحاديثك وكتاباتك عن مدينة جدة ولا تتعرض لكثير من المدن الأخرى؟ فقلت لهم: عندما أتحدث عن مدينة أبها وأنا لم أقم بزيارتها أو لم أمكث فيها لأيام أو شهور أو أحتك بها، بعاداتها وتقاليدها أو حتى لمدن أخرى من مدن المملكة.. عندما أكتب عن ذلك أكون كاذباً لأنني لم أنقل الحقيقة عنها لأنه بقدر ما يكون الاستغراق وبقدر ما يكون الإحساس والعلم بكل صغيرة وكبيرة عما تتحدث عنه وعن الواقع فيه بدون تكلّف وبدون عناء بقدر ما يكون الإخلاص لهذا الشيء.. لكنني لا أستطيع أن أستعيد شعور شخص آخر من أبها أو جيزان أو من الشمال أو من المنطقة الشرقية فأتحدث عن تلك المدن. لا شك أن الحديث سيصبح حديثاً جغرافياً حديثاً جافاً لا معنى له.. فمدينة جدة رافقتني ولا تزال تقر في نفسي منذ أن كنت طفلاً وصبياً وفتى ويافعاً وشاباً ورجلاً وكهلاً وشيخاً الآن فجدة رافقتني في جميع أطوار حياتي وأنا مرتبط بها وبطبيعة الحال ما ذكرته عنها سواء بالفصيح مثال:
لك يا جدة الحبيبة في القلب
مكان محبب مألوف
طار فيه صدى الجديدين بالأمس
وما زالت الحياة تطوف
كما قلت لها بالبلدي يوماً وأيضاً لا زلت أقول:
أنا ابن جدة أياً كان موقفها
من الحياة وأياً صار معناها
لا لن أفرط يوماً في محبتها
لن يخرج الضفر من لحم به تاها
أو بالتعبير القناديلي دائماً بلا انقطاع.. ولهذا كنت حريصاً دائماً على أن أتلمّس النقص في مدينة جدة وأحاول أن أجذب المسؤولين إليه بطريق العرض أو بطريق النقد الذي يخدش ولا يدمي للتنبيه وللإثارة. فهناك حالات كثيرة رافقتني وكنت من سنوات طويلة ((أزن)) كما يقولون بالبلدي مثل المطالبة بتسمية الشوارع بعد هذا الاتساع مثل ترقيم المنازل والدكاكين، ولقد عرضت هذا الأمر مراراً سواء في الصحف فيما أنشره أو أكتبه أو مع المسؤولين من رؤساء البلديات السابقين أو مع رئيس بلدية جدة حالياً أو حينما كان صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز مسؤولاً عن هذا، وأخيراً كذلك مع صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز باعتباره وزير الشؤون البلدية والقروية. لقد قابلت سموه آنذاك وشرحت له الأشياء الهامة التي هي دائماً محل تركيز من قبلنا ومن زمان مثل تقسيم البلدية إلى بلديات وكل بلدية تعطى اختصاصها بل أن يتكوّن من كل حارتين أو محلة أعضاء لمجلس بلدي للحارة نفسها.. وكذلك بالنسبة للترقيم ولتسمية الشوارع وعن المراكز الصحية وتوسيعها وتنويعها، الحمد لله الآن تم بعض من كل. وكشاعر وكاتب أترصد هذه الأشياء ومن ثم أكررها وأكررها. وكما تعلم، عندما يكون الإنسان محباً لشيء، لمدينة ما أو لشخص ما، دائماً يسعى للتنويه وللتركيز على ما فيه الصالح له. وعلى كل حال فنحمد الله أنه قد تحققت لمدينة جدة أشياء كثيرة غير منتظرة وغير متوقعة وأخذت النسبة بنسبة المملكة.. لقد طفرت بلادنا طفرات وتطورت تطوراً كبيراً جداً في مدة قصيرة خيالية وهي مستمرة في هذا الطريق، فمثلاً في مدينة جدة تحققت بعض الأشياء أو الأحلام أو التمنيات التي كنت أدعو لها أن تتحقق ولا شك أن الباقي آتٍ:
ولم أر في عيوب الناس نقصاً
كعجز القادرين عن التمام
والحمد لله لدينا استطاعة مادية ولدينا كفاءات بشرية، والاستعداد موجود، وماذا يمنعنا أن نستكمل كل شيء كما يجب أن يكون..
فجدة وحبي لها كما ذكرت لك هذا شيء طبيعي وبإرادتي المطلقة، وأنا شخصياً أعتبره واجباً عليَّ لأن كل إنسان له وطن كبير كالمملكة، وله وطن صغير كبلده، وله وطنه الأصغر وهو منزله، ويحب زقاقه وشارعه ثم يحب حارته وبلدته، ثم يحب وطنه الذي يحوي كل ما ذكرت.
ومدينة جدة من هذا الوطن الغالي والحبيب في قلوبنا أنها قطعة منه.
البحر.. جزء من حياتي!
ـ جدة رافقتك ولم تزل ترافقك.. فبماذا خرجت من حصيلة هذه الصحبة الطويلة؟..
ـ خرجت من حصيلة هذه الصحبة أنني ما أزال معها وسأظل معها، لأنك تعلم أن الحب الذي لا يتعلق أو لا يرتبط بالمادة حب سرمدي ودائم.. يستغرب كثيرون مما يعتبرونه إفراطاً أو كما سموني مجنون جدة.. أعطيك مثالاً فرعياً: البحر.. بحر مدينة جدة.. عندما أسافر خارج المملكة وأحضر لجدة أول شيء أتحسسه أن أذهب إلى البحر فأجلس أمامه الساعات والساعات لأن البحر جزء من حياتي سواء من أيام صباي أو شبابي أو كهولتي علماً بأنني لا أحسن العوم وأخاف جداً من الماء على طريقة ابن لرومي:
وأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مرّ المجانب
لكن رؤية البحر وسماع هدير الأمواج والتمتع به حب ذاتي ولي في بحر جدة بالذات قصائد كثيرة منها الفصيح أو بالشعر الدارج ((قناديل)).. وهنا أذكر لك بعضاً من نزهاتنا القديمة أيام سور جدة الذي كان يشتمل على عدة أبواب منها الباب الشمالي (باب جديد) وهذا الباب كان أهالي جدة يخرجون منه قبل المغرب يعني الساعة 11 بالتوقيت الغروبي أو العربي، ويقومون بالنزهة بالقرب من البحر من جهة الغرب ومن جهة الشمال الذي كانت توجد فيها بعض التلال، وهذه التلال كانت مجلساً طبيعياً لبعض شيوخ جدة وكبارهم عند خروجهم للنزهة أمثال الشيخ علي سلامة رئيس البلدية وقائمقام جدة أو عميد أسرة قابل وكانوا يطلقون على هذه التجمعات أندية الشباب أو نادي الشباب، وهي تسمية ظريفة وبها مفارقة والآخرون أمثالنا من الشباب كنا نتنزه أمام البحيرة الواقعة أمام الخارجية الآن.
وعلى سبيل ذكر التلال كانت تمتد من القشله حتى سقاله الإنجليز (سقاله تنشن) والتي بها حالياً أعتقد خفر السواحل أو البحرية.. وكانت تمتد نزهاتنا وسمرنا حتى الساعة الواحدة عربي، ولي في هذه التلال ذكريات ومنها المقطوعة الشائعة التي غنيت التي أحفظها رغم أنني لم أتعود أن أحفظ شيئاً من شعري إلا القليل، ومن هذا القليل هذه القطعة لأنها تربطني بذكريات وذكريات طويلة جداً واسم هذه القطعة الجواب الضائع:
قال لي والتلال قد لفها الصمت
كما لفنا الهوى بردائه
ويميني تحيط عطفيه
والبدر مطل
واللحظ في اللحظ تائه
كيف أحببتني؟
وفسر ما قال
فتضاحكت.. حائراً مستزيدا
سؤله المشتهى برغم خفائه
فرنا ناعسا..
يشاركني الضحك
ابتساماً ينوب عن إصغائه
واستحى!! والحياء فن من الحسن
وضاع الجواب في استحيائه
فهذا من ذكريات التلال التي كان يتناثر عليها بعض الشباب فكانوا يقضون ساعة أو ساعتين ثم يعودون إلى داخل المدينة قبل قفل باب جديد.. وفيما بعد كانت لي صحبة دائمة بتلك المنطقة وخصوصاً بأطراف القشلة بعد تعارفي بالمرحوم الأستاذ حمزة شحاته كما نقضي يومياً أكبر وقت ممكن فكنا نخرج بعد قضاء السمرة الخفيفة في منزل العتيبي أي في المركاز إلى الصخرة أو التل القشلة وأعطيك صورة صغيرة عن موقع تلك التلة: فلقد كانت القشلة تقع على تلة تبعد عن سور جدة بقليل وكان يزين مدخلها صفان من الأشجار الوارفة زرعت على جانبي الطريق وبعد موقع القشلة كانت هناك تلال مبعثرة وبعض الصخور، وعلى أحد جانبيها كنت أنا والأستاذ حمزة شحاته نقضي الساعات والساعات بين شعر وأدب وقصص ومجالسات أدبية طريفة، فكنا نأخذ معنا شربة الماء الفخار الباردة وبعض قليل من (الدقة) وجبنة وشريك وكانت تمتد سهرتنا إلى ما قبل صلاة الفجر ثم نعود إلى بيتنا.
الأسماء.. لها حكاية!
ـ هناك تسميات لبحر جدة.. من هذه التسميات بحر الطين وبحر الحجر وبحر أبو العيون هل لكم أن تحدثونا عن هذه التسميات ومسبباتها..
ـ فلنبدأ من الناحية الشمالية، فالبحر المقابل لوزارة الخارجية أو هذه البحيرة كان يطلق عليها بحر الطين، وكان فعلاً يستخرج منها الطين لبناء بيوت جدة. بالمقابل لهذه البحيرة كانت هناك منطقة والتي هي الآن حي الشرفية، وفي جهات أخرى كانت هناك المناقب وكانت تستخرج منها أحجار البناء أو الحجر المنقبي، بالمقابل أيضاً فخلف فندق البحر الأحمر ومقر البلدية الآن من جهة الغرب كان يطلق على بحر هذه المنطقة بحر الحجر أما البحر الذي بعده أيْ مقابلَ معرض الأخ محمد علي مغربي من جهة الغرب فكان يطلق عليه بحر أبو العيون، وكانوا يستخرجون منه الملح ويضعونه كالأكوام، وهذا البحر له قصة طريفة؛ فلقد كانت النساء العواقر اللاتي لم يلدن ينزلن لماء هذا البحر على نية أنها ستنجب وهذا لا شك خرافة وجهل كان سائداً.. وبعد ذلك يمتد البحر بعرضه تقابله الجزر الثلاث: جزيرة أبو سعد وجزيرة الواسطه وجزيرة الجن.. وكان أهالي جدة يقضون المناسبات أو الويك اند (الإجازة الأسبوعية) أو في المناسبات أو الأعياد في إحدى هذه الجزر أو قل معظمها كل حسب مقدرته، وكذلك كان بعض الأهالي يقضون إجازاتهم وبالأخص في الخليف لمن لم يحج في بعض البواخر التي كانت ترسو في عرض البحر حيث لم تكن هناك ميناء متصلة بالباب.. وكانوا يلعبون الكيرم أو الكوتشينة، وكانت الجزيرة المستعملة في الدرجة الأولى هي جزيرة أبو سعد ثم الواسطة. أما جزيرة الجن فنادراً ما كان الأهالي يذهبون إليها.. ويقابل هذا قضاء الوقت في البر.. فكان هناك قصر يسمى قصر السقاف والذي محله الآن فندق قصر الكندره وكانت هناك أيضاً مربعة الهنود لبعض التجار فكان بعض الأهالي ممن يحبون قضاء وقتهم في البحر يذهبون لأصحاب هذه المربعة ويأخذون منهم المفتاح الخاص بها ثم يقضون نهارهم وليلتهم وقد أخذوا معهم أكلهم وأغراضهم ثم يعودون بعد ذلك وهكذا.. وكذلك كان يوجد بيت المشاط عند القوزين في حي السبيل أو في مرابيع النزلة أو في بني مالك أو في الرويس.. أو السرحة في الليل في البحر للاصطياد. كانت هذه الأشياء بعضاً من مراتع النزهة لأهالي جدة القديمة.. والبحر على عمومه له تسميات يحفظها أصحابها ولا بد أن نتتبع هذه المنازل من أين ابتداؤها وأين نهايتها. إنه تاريخ ويجب أن يكتَب ويحافَظ عليه.. وهذه المنازل تبتدئ بعد بحر الطين حيث توجد فيه عشرة ثم القحاز، وهذه المنطقة من البحر دائماً أتغنى بها وكانت هناك مقهى صغيرة عبارة عن عشة متواضعة كنا نجلس فيها ونتسامر حيث كان يصاحبنا أفلاطون والمعري وغيرهم في جلساتنا الشعرية أو الأدبية عندما كنا نستعرض أعمالهم والتي كانت تتلى من بعضنا.. ثم بعد ذلك المنازل ويمتد هذا البحر إلى مشارف أبحر وإلى ما بعد أبحر ولها مسميات كثيرة وعديدة ويوجد لديَّ مسلسلة خاصة لهذه المسميات. ومن هذه المسميات قد تستغرب أنه يوجد منزل اسمه عكاظ وهو عبارة عن قرية صغيرة للصيادين تشرف على البحر فسمي البحر باسمها.. فهذه مسميات ولكل جزء من هذا البحر اسم خاص به أو لكل منطقة بحرية اسمها..
وبحر الطين سمي بذلك لأنه كان يستخرج منه الطين وهذا الطين كان المعلمون أو البناؤون يستخدمونه في عملية بناء المنازل والقصور وسمي بحر الحجر بهذه التسمية لأنه كان يستخرج منه الحجارة البحرية أما تسمية بحر العيون بذلك فأعتقد أنه تسمية لشخص اسمه أبو العيون ولا أستطيع تحليل أو تحديد شخصيته.
ـ سوق العلوي وتأثيره في شخصيتي..
ـ بم يذكرك بيتك القديم الكائن بسوق العلوي في أطراف العيدروس والواقع على حدود محلتي اليمن والمظلوم.. وهل ما زال فؤادك يحن إليه؟
ـ إنه جزء لا ينفصل من نفسي.. نحن عائلة كبيرة منقسمة إلى قسمين: قسم يسمى عائلة قنديل والآخر عائلة عبيد وهما أولاد عمومة.. وكان البيت في تلك الفترة يحتوي على حوالي مائة نسمة على أقرب تحديد أو أكثر إن لم تخني الذاكرة، وله مطلعان بدرجاتهما المستقلة وكل درجة تؤدي إلى فرع من فرعي العائلة، وكانت هناك تقاليد في العوائل الكبيرة بمدينة جدة فكان لمعظم المنازل مطلع أو دكة أو قل مصطبة كان يجلس بها كبار العائلة، وكانت هناك برحة اسمها برحة القنديل وهي معروفة وكنا نلعب بها، وبطبيعة الحال فكل صغيرة أو كبيرة في البيت أو كل ركن من أركانه أو كل جزء من أجزائه متصل بحوادث معينة وبذكريات سواء منها ما تعلق بالأماكن التي كنت أذاكر فيها وأنا صغير السن أو ما يحدث من اتصال مع أهلي وأقراني أو الاجتماع على المائدة مع العائلة.. واجتماعات العائلة أيام زمان حلوة وجميلة. كان هناك ما يسمى بالطبلية وكان يوضع عليها الآكال وكان آخرون يفترشون الأرض ويضعون الغذاء فوق مفارش أو سفرة، وكان بطبيعة الحال يتصدر المائدة رب العائلة وبجانبه الأم والأخوان والأخوات، وطيلة مدة الأكل يجري الحديث وكنت منذ حداثتي فكاهياً أحب السخرية فكنت دائماً أروي أشياء رغم حداثة سني فترى الجميع يضحك عليها وكنا نقضي وقت الغذاء أو العشاء أو الفطور في أجمل وقت، وكانت العادة أن الكبير من أولاد العائلة هو الذي يتولى شراء الحاجيات ـ أو المقاضي ـ وكان منزلنا يشرف على العلوي ومن رواشن المنزل كنت أتطلع إلى صور الحياة جميعها على الزلباني أي بائع الزلابية واللقيمات وعلى بائعي المعصوب والمطبق.. وكذلك على شاعر الليل أي الراوي الذي كان يقرأ سيرة أبو زيد الهلالي وعنترة والظاهر بيبرس بالتوالي في المقهى وأمام البشك التي كانت تفقد مستمعه لذلك في إصغاء ومتابعة وتشوق.. ومن هنا تلوّنت في مخيلتي الصور الشعبية التي لا تنتهي وبطبيعة الحال فمنزلنا القديم أيضاً يربطني بذكريات وثيقة، ففي العادة كنا أيام الصيف نطلع السطوح واللي ما يطلع السطوح كان ينام في الخارجة حتى أنه أيام الندى كنا نتلذذ بقطرات الندى المتساقطة على أجسادنا.. ولقد نظمت في ((قناديل)) بعضاً من هذه الذكريات التي أحنَّ إليها، ولا أنكر عليك لقد كنت أذهب مراراً لتلك الدار التي جمعتنا كأسرة كبيرة واحدة وكان يسمى البيت الكبير وإن كان اليوم تغير عما كان عليه في الماضي فقد تحوّل إلى شكل آخر وأصبح الدار ومن حوله أشبه بأطلال لذكريات خلت وأخصها الذكريات القلبية حيث التطلع من الروشان إلى مراكن الزرع المقابلة لدى بيوت الجيران.. وأخيراً فلا شك أن سوق العلوي وما جاوره من محلة اليمن حيث تنتسب العائلة إليها بأزقته وبرحاته وشوارعه الضيقة قد أثر في شخصيتي الأدبية والشعبية والشعرية.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :3186  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 113 من 113

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج