شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُولَ اللّيلْ..
.. لقد سبق لنا في مقدمة الحديث عن ((الدجيره)) أن تعرضنا ما كان الخواجه إيكيليا البقال اليوناني يعايرنا به بأن بلادنا تخلو من الأساطير الشعبية التي تدل على أننا لا نؤمن إلا بكل ما هو ملموس.. أو معدود.. أو ممضوغ.. فنحن فقراء جداً في دنيا الخيال ـ وعالم الأطياف.. بعكس سكان أثينا الذين حفل تاريخهم بالميتولوجيا الإغريقية.. وهذا ما حز في نفوس أهالي جدة الكبار حينذاك.. مما دفع بكاتب هذه الشعبيات أن يذهب إليه في دكانه.. وأن يتحداه أن يمر بزقاق الخنجي بعد منتصف الليل ليرى وليقابل ((الدجيره)) إن كنّو رجال.. وخواجا من صحيح!!
ولا نذيع سراً إذا قلنا إن إيكيليا تحمس فعلاً للموضوع ولم يقبل الهزيمة أمام ولد صغير من أولاد جدة الذين يدرسون في مدرسة الفلاح.. فقرر ذات ليلة أن يذهب إلى زقاق الخنجي بعد نص الليل.. ولكن للاحتياط فإنه أخبر أخاه في الصنعة الخواجه ((يني)) بما اعتزم القيام به.. فحذره من عاقبة هذه المجازفة واشتد الجدل والنقاش بينهما أمام أفراد العائلة.. وانتهيا أخيراً إلى ضرورة الاستئناس برأي السنيور ((ماركو)).. الإيطالي المقيم أيامها في جدة ـ كصاحب دكان وسواه!!
ومن اللازم قبل الدخول في تفاصيل ما تم بين الطلياني ماركو والأقاريق إيكيليا ويني وعائلتهما أن نتعرض بإيجاز لحيثية ماركو.. فهو صاحب الدكان المعروف باسم محل ماركو.. وكان مقره في صف الدكاكين التي تجاور سوق الحراج والتي يقع حالياً في صفها دكان الفتيحي الصائغ..كما كان سكناه في بيت عائلة الشبكشي وهو البيت الذي اشتهر بعد الهدميات باسم بيت الدهب الذي كان سبباً في تسمية الشارع الطويل العريض الحالي باسم شارع الدهب.
كما كان ماركو هذا صديقاً للكثير من زبائنه.. ولجيرانه من صف الدكاكين وبالأخص للشيخ خليفة بياع السجاجيد في الدكان الذي يوجد به الآن دكان بيع المشالح ورفيها والذي كان ملاصقاً لدكان بقالة إيكيليا ويني قبل الهدميات الأخيرة والحديثة جداً..
ومن غير إطالة في التفاصيل فقد أيد السنيور ماركو ذهاب إيكيليا بعد منتصف الليل لزقاق الخنجي لرؤية الدجيرة ولمقابلتها وأخذ حديث صحفي معها باسم صحيفة المساجيرو الإيطالية التي كانت في بدء تأسيسها آنذاك باعتبار أن ماركو قد قبل أن يكون مراسلها في جدة.. ولكنه اشترط شرطاً وحيداً.. وهو أن يذهب أفراد العائلة جميعاً ويرابطو في أول قصبة الهنود حتى إذا حدث لإيكيليا ما لا تحمد عقباه سارعوا إلى نجدته، أو إلى إنقاذه أن تعرض لخطر أكبر..!!
وبدون تطويل أيضاً.. ومن جديد ـ فقد ذهب الخواجه إيكيليا.. وخش الزقاق بعد نص الليل.. ورأى الدجيره بقنعتها.. وببرقعها ـ وشيلته البقجة.. ورقصت أمامه رقصة المزمار.. وضحكت في وجهه الضحكة الرهيبة، آخر الأمر.. وتلاشت كالطيف.. بعد أن اطمأنت إلى أن الخواجه إيكيليا قد عملها في بنطلونه من الرهبة والخوف.. وجرى مهرولاً حيث يرابط افراد العائلة الذين تلقوه بين أحضانهم مرتعداً منتفضاً وكأنه تحت تأثير حمى بلغت درجة الحرارة فيها حوالي الأربعين..
ويذكر أحد أفراد العسس الذين كانوا هناك أن ايكيليا عاد فتمالك نفسه حين أبصر بنته الصغيرة تخرج لسانها له ـ أي لأبيها ـ فاستعاد رباطة جأشه ووضع ابتسامة تقليدية على شفتيه.. وسارع إلى زوجته التي فاجأت بقولها:
الزوجة: بوسس سيه؟ يعني كيف الحال؟
إيكيليا: كالاه!! كالاه كالاه!! يعني: طيب!! ـ طيب!! ـ طيب!
الزوجة ـ ها؟! انتو سفتوها.. دجيره هادي؟
إيكيليا: سفتوها سفتوها بعيني هادي اللي بكره يأكلها الدود!!
الزوجة: هي خلوة؟ خلوة؟ أوريا؟ أوريا؟ يعني جميلة؟ جميلة؟
إيكيليا: بولي ـ بولي ـ أوريا!! يعني عال جداً.. جداً عال!!
الزوجة: وايس كلتو؟؟ وايس هي كلتو كمان؟
إيكيليا: أنا كلتو: كالي ميرا؟ هي كلتو: كالي ميرا؟ بعدين أنا كلتو: باركا لو.. و.. و..
الزوجة مقاطعة: وه!! وه!! وه!! هو أنت سويت إيه في البنطلون حق الانت.. يا إيكيليا؟
إيكيليا: لمن نروخوا للبيت انتي غسلي البنطلون.. بس ما أحد يشوفو.. ها؟ وهنا يحسن أن نتوقف عن بقية القصة المتعلقة بالأقاريق وبماركو.. ونكتفي أن يكون ما سبق دهليزاً للحكاية عن بطل أسطوري شعبي آخر.. هو.. هول الليل!!
.. وهول الليل ـ وهذا اسم شهرته الطويلة العريضة في سجل أساطيرنا الشعبية.. وليس هو اسمه المحفوظ في دفتر مواليد طائفة.. بسم الله.. بالطبع.. وإن كان معروفاً أنه من كبار الطائفة بل إنه أكبرها حيث أن نفوذ هول الليل يتعدى المدن إلى حيث الخلاء الواسع والممتد على طول الطرق بين جدة والمدينة من جهة.. وبينها وبين مكة فالطائف وما بعدهما..
وهول الليل ـ عائلياً.. هو خال أظرف جنية في أساطيرنا الشعبية.. إنه خال ((الدجيره)) وكفاه بذلك شهرة وفخاراً. كما أنه شقيق ((الهمية)).. أمها ـ وصهر البعبع زوجها.. أما أبواه غير الشرعيين فهما العفريت والغوله. في أشهر الأقوال .
وينفرد هول الليل ـ وهذا سبب زيادة نفوذه وامتداده.. بأنه مختص بإدخال الرعب والفزع في قلوب الرجال وحدهم دون النساء والأطفال.. وخصوصاً وأن من أوائل الرجال الذين يحسبون حسابه دائماً.. ولا يفزعون إلا منه الرجال الذين تعودوا السير ليلاً في الخلا الخالي والرب العالي كما نقول فرادى أو مجوزين.. وكذلك المشاكلة والمطاليق المواظبين سنوياً على زيارة مسجد الرسول جماعة من.. الركوب.. جمع ركب.. وهي الجماعة التي تسافر للمدينة للزيارة على ظهور الحمير..
وطريقة هول الليل المعروفة هي تعرضه للسائر في البر ليلاً وبالليالي المظلمة والتي لا قمر ولا بدر فيها.. حيث يبدو من بعيد وهو يحمل فانوساً يتراءى نوره لعين السائر فيستبشر أول الأمر به لاعتقاده أنه ضوء الضاحية أو القرية أو القهوة أو المكان الذي يقصده.. فيجد في السير وعينه معلقة لا تنحرف عن نور فانوس هول الليل الذي يأخذ في التنقل بالتدريج من جهة لأخرى.. وبتفاوت في البعد مرة.. وفي القرب مرات من عين الناظر ليتلاعب به وبأعصابه كما شاء تمهيداً لوقوع الرعب الأكبر في قلبه..
تلك هي القاعدة الأساسية لطريقة هول الليل ـ أما أسلوبها العام فإنه بعد أن يخايل فريسته بنور فانوسه طويلاً ـ يبدو أخيراً لعين المتتبع لنور الفانوس عملاقاً طويلاً له ساقان مرتفعتان إلى أعلى الجو.. وكذلك يدان طويلتان طولاً غير معقول اطلاقاً.. وفي آخر اليد اليمنى يبدو الفانوس السحري في اشكال خيالية بعيدة عن التصديق ـ أما إذا تجرأ من تعرض لمداعبات هول الليل فرفع رأسه إلى أعلى ومد رقبته إلى الفضاء الجوي العالي فيجد وجهاً غريب الشكل ـ مشوهاً مفزعاً لا يمكن للناظر إليه مرة أن يكرر نظرته إليه حيث إما أن يكون قد سقط مغشياً عليه مما رآه ومن الصرخات المدوية التي يبدأ هول الليل في إرسالها من شدقه الواسع الضخم ـ أو أن يكون قد أغمض عينيه وتولى هارباً متخبطاً في البراري إلى حيث تسوقه قدماه حتى يسفرالصبح.. أو حتى يذهب عنه هول الليل بعد أن يكون قد تلا المرء لهول الليل كل ما يحفظه من الآيات القرآنية ـ وآية الكرسي بصفة خاصة..
وضحايا هول الليل من أهالي جدة في عهد الظلمات.. وفشو الأمية. وقوة الاعتقاد في الأساطير كثيرة ـ وحين أخذ عددهم في الارتفاع.. وأضرب الكثيرون منهم عن الطلوع مع بشكاتهم إلى مربعة الهندي في الكندره ـ أو إلى مربعة المشاط قرب القوزين ـ أو إلى مربعة السقاف بالضغاري حيث يقوم الآن أوتيل قصر الكندره مكانها.. اجتمع رؤساء البشاك ـ والقويمين. ومن ضمنهم القدامى من أمثال الدرويشيين درويش سندي ـ ودرويش كيال. حامد عزايه ـ وسليمان أبو داوود، والرقام ومن لف العمة لفهم.. والشباب أيامها من أمثال الشيخ عبد الرزاق عجلان وحسين أصفهاني ـ وبن زقر ـ وأحمد عتيبي.. وتداولوا في أمر هول الليل الذي سيحرم الجميع من السمرات والسهرات خارج جدة.. وانتهوا إلى تقرير الآتي:
(1) اجتهاد كل فرد من أفراد البشكة في الطلوع لمحل القيلات والمبات قبل غروب الشمس.
(2) أن يتواعد كل شخصين أو أكثر للطلوع سوية ـ للإئتناس ببعضهم.
(3) أما المنشغلون بأعمالهم والذين لا يتمكنون من الخروج لوجهتهم خارج السور حيث تكون البشكة فيتحتم عليهم شراء أتاريك اليد الصغيرة ـ أم البطاريات.
(4) اصطحاب كل فرد من أفراد البشكه بصورة عامة مصحفاً صغيراً ـ أو على الأقل حمله إما جزء عم ـ أو جزء تبارك ـ حتى ولو لم يكن قارئاً ـ أو فاكاً للحرف.
(5) وجود الشواحط ـ أو الأشوان ـ أو القطل ـ أو المشاعيب.. وكذلك المطاوي ـ والسكاكين الصغيرة الحجم مع افراد البشكه من الأهمية بمكان..
(6) ضرورة رفع الصوت ممن يقع فريسة لهول الليل والصراخ باسم رئيس البشكة.. أو القويم للإشعار عن محل وجوده مكوماً ـ أو تائهاً لإجراء الإسعاف اللازم له.
وقد قام بالبصم بالإبهام أو بالخنصر أو بالبنصر أو بوضع المهر ـ أو بالأختام كافة المجتمعين بعد ما رددوا جميعاً.. كلنا فيها ـ والراجع في كلامو ـ مرة!!
.. وأتذكر وأنا صغير أن من ضحايا هول الليل رغم تقدم الدنيا أيامها ـ أخي وشقيقي الأكبر يوسف قنديل ـ فقد كان مغرماً هو وقريبنا على عبيد وهما شابان قد خط شارب كل منهما من أيام أو أسابيع بالطرب إلى المجسات.. واقتضى هذا الغرام والشغف بالطرب أن استجابا دون علم الوالد لحفلة طرب ليلية خاصة يقيمها رائد التقاسيم على العود الشيخ سعيد زقزوق شيخ الخياطين بجدة في صندقته الخشبية في الضفاري.. وهي قطعة من الخلاء مليئة بحفر المياه المكوّنة من الأمطار يشرب منها أهل جدة ضمن ما يشربون أيامها من مياه الصهاريج.. والعسيلا.. والكنداسه.. وموقعها حالياً في المنطقة المجاورة والمحيطة بأوتيل الكندرة حالياً.. وكان تخت الطرب مكوّناً من السادة.. رضا أمين سراج السمكري وصاحب دكان الشيش بالحراج ـ والكاظا.. التكروني الأعرج الزقزوقي والذي انتهى به المطاف بإذاعة روما أيام الحرب الثانية.
وبعد أن انتهت حفلة.. يليش يليش.. واقتضى الأمر عودتهما للبيت بجدة من الباب الصغير المجاور لباب مكة الكبير تعرض لهما الأسطوري الكبير هول الليل بفانوسه الذي ظن كل منهما أنه نور باب مكة.. ثم لما طال المشوار حسب كل منهما أنه نور قهوة أحمد طوال الكائنة أمام باب جديد.. ثم أعتقدا أنه ولا شك أنه نور سقالة الإنكليز التي كانت تقع على لسان بحر الطين.. وأخيراً عرفا أنهما تائهان.. وإن المتسبب في ضياعهما هو هول الليل وأشفقا أن يتمادى في تلاعبه بأعصابهما أكثر فأكثر إلى أن يبدو لهما في شكله المرعب.. فصرخ علي عبيد بأعلى صوته ـ الحقونا ـ الحقونا..
هنالك برز لهما أحد ساكني الرويس وهو صياد من اصحاب القوارب الصغيرة التي يسمونها ((الهواري)) وكان في طريقه للبحر لصيد الأسماك.. ودلهما على طريق جدة حين بدأ نور الصباح.. وصل أخي للبيت ليأخذ دشاً من الوالد على مرأى من الجميع.. ومني أنا بالذات حيث سمعت اسم هول الليل لأول مرة!!
كما أن من ضحايا هول الليل أيضاً من الجماعات.. ركب الشيخ عبد الوهاب حماد.. وموجز القصة أنه بعد أكثر من أسبوع دار فيه ((المزهد)) يرغب الناس في زيارة مسجد الرسول والالتحاف بركب حماد.. خرج الركب بهم.. وكان عدد أفراده أكثر من خمسين رجلاً وبعض الغلمان.. وقد حدثني ((المغيني))وكان صغير السن صبياً في الركب أن هول الليل خايلهم أكثر من مرة.. وأن بعض الأفراد وهم من مشاكلة ومطاليق حارة الشام قد أصيبوا من ((الفجعة)) بإصابات مختلفة.. فالواد ((البتره)) لازمته ((التهتهة)) في كلامه لآخر أيام حياته.. وأن الواد ((أبو قورة)) أصيب بالإسهال الدائم ((الدوسنطاريا)) وأنه هو شخصياً أصيب بلوحة في رقبته لم يشف منها رغم الكي المتواصل بالسكينة المحماة في النار.
وبمناسبة البرقية التي وصلت لجريدة عكاظ من السيد منصور الحارثي ((من مستوره)) من أسبوع والتي يبدي فيها إعجابه بالشعبيات ويطلب شمولها لمدن المملكة.. لا ننسى ما حدث لركب الحماد هذا.. فقد ذكر المغيني أن الركب قد تعرض لمعاكسة شديدة ـ ولمداعبة ثقيلة من هول الليل قرب ((مستوره)) الأم حتى إذا أدرك أفراده الرعب والهول.. وبعد أن خرج الواد ((صنقور)) من صوابه كعاداته وسحب الفرد أبو سته وأطلقه صوب هول الليل لإطفاء فانوسه المخادع برزت لهم في عتمة الليل مولدة سوداء بلون الليل صائحة بهم من ناحية الضلع الأيمن القائم على الطريق.. تراكم غلطانين.. ما معاكم جادة.. الدرب ما هو هينا.. تراه هناك في الضلع الأيسر.. لا يغشكم هول الليل ـ وتراها معاكم ((مستورة)) فانحرف الركب.. وكان الزمن قريباً من الفجر.. وأخذ طريقه الصحيح وودع الركب المولدة بالدعاء.. والهتاف ثلاثاً.. تراها مستورة. يعيال.. مستورة ـ مستورة ـ ويقال إنه منذ تلك الليلة أصبح الموقع الواقع بين الضلعين المؤديين إلى مستوره الأم ـ أو الحالية تسمى كذلك.. مستورة!!
وعلى أساس ما سبق ـ فرب فضولي شديد الفضول يتساءل.. ما هو السبب أو الدافع المحرك لهول الليل لأعماله هذه التي يفعلها لكل سائر في الليل البهيم خارج المدن؟ والجواب على هذا السؤال الوجيه رغم صفة الفضول فيه هو تعليل المرحوم الشيخ السبياني جد جد الابن محمد سبياني الأستاذ لمدة وجيزة بمدرسة الفلاح.. وأحد تلامذتنا القدماء فيها.. ويقول هذا التعليل..
((إن الجن طائفة معترف بها قبل كل شيء.. رغم أننا لا نراهم دائماً بأعيننا.. وبالأخص في النهار. أو في النور أياً كان سواء كان نور لمبة.. أو فانوس ـ أو قمريه ـ وإن المدعو هول الليل كان مغرماً في شبابه بفتاة جنية من طائفته ـ وأن هذه البنت الجنية هجرته حين عشقت من طرف واحد أحد أبناء الإنس ـ والسبياني الجد يعني نفسه بهذا. وإنها بمرأى من هول الليل تزيت في إحدى الليالي بصورة قطة سوداء.. ودخلت بيت عاشقها ورابطت تحت الكرويته تنونو باستمرار والنونوة من طرفها كانت بمثابة شكوى صبابتها وحبها ـ ولكن أم المعشوق الأنسي التي لا تعرف لغة الحب في نطق البساس أزعجها الأمر.. فطلبت من ابنها البحث عن القطة.. وبالعثور عليها وإخراجها من تحت الكرويته أمرته بضربها برأس المكنسة.. وإن القطة اعتبرت ذلك من عاشقها مداعبة أنسية فازدادت نونوتها.. هنالك أمرته الأم بقذفها من النافذة.. ففعل طاعة لوالدته ـ ويا ليته لم يفعل.. فقد وقعت البسة على حجر صلب فماتت.. رغم أن للقطط سبعة أرواح))!!
هنالك حلف هول الليل أنه سينتقم من البني آدم خارج الجدران.. وهجر مدينة جدة ولازم الخلاء لاصطياد السبياني الذي كان يزور خطيبته الأنسية معظم الليالي في الكندرة.. وبالتالي لمعاكسة كل من يتعدى السور.. بالإضافة إلى أنه من تلك الليلة أصبح كل الناس لا يجرؤون على ضرب أو إيذاء أو قذف أية قطة سوداء تحسباً للثأر من جماعة.. بسم الله.. كما تركّز الاعتقاد بأن البسة السوداء غالباً ما تكون من هذه الطائفة.. ولا يزال هذا الاعتقاد سائداً حتى الآن!!
ذلك هو السبب الجوهري في معاداة هول الليل للإنس.. وفي هجره للبلدة ـ وفي تمرده الدائم لكل من تعدى السور.. ثم زاد في رقعة نفوذه فشمل الخلاء أياً كان موضعه.. حتى اكتسب شهرته الطويلة العريضة.. وأمسى.. ولم يصبح.. رمزاً لإرهاب الناس.. إلى أن امتد صيته هذا.. فدخل.. ويا للغرابة ويا للعجب.. دنيا الأدب ـ وعالم الشعر على الخصوص.
فانتهز المرحوم حمزة شحاته هذه الفرصة.. وابتدأ يلج باب النقد بهذا الاسم في أوائل الخمسينيات ولهذا الأمر حديث شيق.
.. من أول يوم من مطلع العام الهجري عدد 55 بعد الثلثمائة والألف استلمت رئاسة تحرير جريدة صوت الحجاز من نخبة الشبان المحررين لها قبلي وهم الأساتذة محمد حسن عواد ـ محمد حسن فقي ـ عبد الوهاب آشي.. وانتقلت فعلاً من مدرسة الفلاح بجدة إلى مقر الجريدة كرئيس للتحرير.. زميلاً لزميلي في الروشان المطل على زقاق الشبيكة مدير الاشتراكات بها الشيخ أحمد السباعي.
وابتدأت بعد الأعداد الأولى في إحداث حدث أكبر بعد الأحداث الصغرى ـ وفاتحت رفيق الدرب في الحياة المرحوم حمزة شحاته في تأسيس النقد الأدبي لما كان ينشر بحساب ودون حساب من مقالات وأبحاث وشعر.. وبعد محاورة ومداورة ومداولات قبل حمزة أن يكتب في عمود خاص من الجريدة ـ واشترط أن يجاري الموضة الشائعة حينذاك وهي الرمز لاسمه بتوقيع يختاره مثلما يفعل الأساتذة. س.ع. ـ الصامت ـ هو أحدهم إلى آخر القائمة المعروفة بالتواقيع الرمزية. فقبلت ذلك منه.
وجاء أول مقال له أخذته منه باليد رغم معارضة الأب عزيز الذي كان يكره التواقيع بغير الاسم الصريح!! في مكتب شركة التوفير والاقتصاد التي كان مقرها في بيت باناجه بمكة المكرمة والمطل على الصفا قديماً والذي هدم ضمن ما هدم في حينه.. وبعد أن طالعت المقال فوجئت في آخره بهذا التوقيع ((هول الليل)) وبالمباسطة الأحمدية ـ والتفاهم الأخوي ظهر أن اختيار المرحوم حمزة شحاته لاسم هول الليل إنما يرجع لاعتبارات كثيرة جداً أهمها أن البطل الأسطوري هول الليل له في تاريخنا الشعبي اسم شائع مذاع ومخيف ـ وأن الرجل.. وإن كان جنياً أو عفريتاً من جماعة ((بسم الله. بسم الـله)).. إلا أنه ذو مبدأ واحد لا يحيد عنه ـ وكما أن هول الليل قد فرض على المحتمين بالجدران في بيوتهم ـ وداخل سور المدينة ألا يتخطوا الحدود فإنه ـ أي حمزة ـ سوف يؤدي هذا الدور في دنيا الأدب وفي عالم الشعر بالذات.
ونظراً لأن الأمانة الأدبية تمنع المجاملات الشخصية ـ ومع أن أخي الأستاذ عباس حلواني صديق عزيز ـ فلا بأس من الإلمام بطرف من أطراف المعركة الأدبية الشعرية المعروفة بمعركة ((هول الليل)).. وبداية الموضوع هي أن الأخ الشاعر الحلواني نشر قصيدة له يخاطب فيها محبوبته بقوله ((أنت أحلى من أهل باريس أنت)). وهنا تصدى لها وله هول الليل بنقد عنيف وحاد ـ وقد دخل في الأمر مدافعاً عن الحلواني الدكتور الأديب ((حسني الطاهر)) فكتب مقاله الأول ثم مقالاته التالية بتوقيع ((سهران)). كما اشترك سواه ـ وقد حمى وطيس النقد بين الحلواني وسهران وسواهما من جهة ـ وهول الليل من جهة أخرى.. حتى انتهت المعركة أخيراً بطلب إيقافها من معالي المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان رئيس شركة التوفير والاقتصاد التي تتبع لها جريدة صوت الحجاز تجارياً قبل أن تندرج كعمل من أعمال شركة الطبع والنشر!!
من هذا.. ودلائله موجودة محفوظة في أعداد صوت الحجاز لعام 55 أو 56 هجرية على الأرجح دخل هول الليل دنيانا الأدبية.. ناشراً الفزع والرهبة والرعب بعد أن تجاوز مجالاته في الخليان والبراري وأطراف القرى والضواحي من مدينة جدة وأخصها مشارف الكندرة.. والرويسين الأعلى والأدنى.. وبني مالك ـ والنزلة اليمانية. والثعالبة.. باسطاً نفوذه فيما بعد حتى لما بعد أبيار علي بالمدينة المنورة.. ولأعالي الفرع بالشفا وجبل قرنيت..
هذا.. وقد اشتهر هول الليل ـ أيام وجوده الذهبي.. بأنه ذو مزاج شعري فهو يحب البدر في تمامه.. ويعشق الليالي القمراء ولذلك فقد حرم على نفسه القيام بأي نشاط عفريتي أو جني فيها حيث يعكف على دراسة الشعر وإلقائه في وادي عبقر الذي يصل إليه من مقره في ((الضفاري)) بشقحة إن أسرع ـ وبشقحتين إن أبطأ..
كما اشتهر رغم المعروف عن نباتية طائفة بغرامه الشديد بالتهام الرخال ـ جمع رخله وهي النعجة ـ مع كراهيته المطلقة للطليان.. وقد ظهر ذلك حين اشتكى جميع البدوان في كافة الخليان باختفاء رخالهم ـ أي نعاجهم ـ في الليالي القمراء..
وفي هذا الباب يقول زميلنا الفلاحي في الدراسة وفي الأستاذية بعدها المرحوم المتوفي في عز شبابه وعمره لا يتجاوز العشرين من عمر الزهور أثر إصابته بالجدري وعزل أهله له في عشة نائية بالكندرة ـ مقر العائلة.. الشاعر الكندري حامد أبو تومان:
علامك.. يا أبا الهول المباح
إذا القمراء لاحت في الضواحي؟
سطوت على الرخال.. وأنت قرم
طويل الهام.. مغرود الجناح؟
وسبت ذوي القرون السود طالت
من الطليان.. دون أذى متاح؟
أتلك دعابة أيضاً؟؟ ولون
فريد.. بين أنواع المزاح؟
* * *
أهول الليل.. حسبك.. إن هذا
يسبب أزمة بين الأضاحي!!
فمن لطلينا.. إن رام ليلاً
معانقة الرخال.. على البطاح؟
فبعبع وحده.. وأتى لعندي
ليشكو صاحباً.. يشكو لصاح!!
فباسم الشعر عشت له محباً
دع الرخلات.. تسرح في المراح!!
وسيبها لأجلي.. إن هذا
رجاء.. جاك.. من ولد فلاحي!!
.. وأخيراً فذلكم هو الأسطوري الشعبي الكبير العملاق.. هول الليل.. بكل معاكساته ـ ومداعباته.. خال البنت الجنية ((الدجيرة)) وشقيق والدتها الست ((الهمية)) ورحيم ((البعبع)) زوج أخته.
ولقد نزح من مدينة جدة بعد أن توفيت عشيقته العفريته الصغيرة أثر قذفها بيد معشوقها الأنسي من الطاقة ووقوعها على أضلاعها فوق حجر منقبي كبير.. واستقر متنقلاً هائماً في الخلا الخالي والرب العالي بين البراري والبوادي وإن كان قد اتخذ له مقراً شتوياً في الضفاري التي أصبحت اليوم مزدحمة بالفيللات والعمارات والبنايات الحديثة ـ وأهمها فندق قصر الكندره. كما اتخذ له مقراً صيفياً على طرف البحر في نهاية الرويس الأعلى.
ويذكر من رآه عياناً أنه في طول عنج ابن عنق إن لم يزد عليه ـ وأنه صاحب أطول ساقين منفرجتين باستمرار.. وإن له وجهاً يكره الله والناس لقاءه ـ وعينين تقدحان بالشرر الذي تكفي شرارة واحدة منه لحرق أعتى الصخور.. أما قهقهته فتفوق صوت الرعد.. كما أن دموعه حين تنحدر لدى ذكرى حبيبته تزيد عن كميات المطر الهاطلة سنوياً في أغزر المواسم المطرية.
أما سبب تسميته باسم شهرته المستفيضة.. هول الليل.. فيعود إلى أنه لم يظهر أبداً ـ أبداً في أي نهار.. ولا في أية ليلة مقمرة.. وإلى أن مخايلاته بفانوسه لتضليل العابرين تسبب أفظع هول يلقاه البنو آدميين..
ولقد بقي اسم هول الليل حتى الآن يطلق على كل طويل جسيم مفزع. فيا طالما ترددت وتتردد على الألسنة جملة ((شوف يخويا الراجل اللي زي هول الليل)).. أو ((هو اشبو عامل كدا زي هول الليل)) أو ((تروح من هنا ـ وإلا أزهم لك هول الليل)) إلى آخر تلك الجمل الموروثة والتي بدأت في الانقراض..
أما سبب وفاة هول الليل المباشرة فهو قيام الحكومة السنية بإدخال الكهرباء وإزالة سور جدة.. وتشجيع العمران.. وردم حفر الماء والصهاريج القديمة ـ وتعبيد وسفلتة الشوارع.. وفتح المدارس حتى في الضواحي والقرى الصغيرة ـ وإيجاد شرطة ((النجدة)) وإعطائها رقم تسعات 999 ـ والإسعاف ورقمها 97 والإطفاء ورقمها 98 والاستعلامات ورقمها اللي ما يرد إلا في النادر 95 مع تخصيص خمسة أرقام للكهرباء وهي من الشمال لليمين ..23044 وبذلك كله أو بعضه لم يجد هول الليل مكاناً يندس أو يتخشخش فيه..
وكان أهم ما سبب لهول الليل السكتة القلبية حسب تقريرنا الطبي تنقل الناس الآن حتى في مشاويرهم القصيرة جداً بالسيارات بدلاً من السير على الأقدام ـ ولو لدقائق معدودات..
وأخيراً.. لا آخراً.. انتقال جريدة عكاظ إلى شارع الميناء.. وتخصيصها للشعبيات ـ بما فيها الأساطير القديمة.. ركناً تسلط منه الحروف والكلمات.. وتزقلها جهاراً نهاراً على رؤوس مصادر الرعب القديمة من أمثال الدجيره.. والهمية ـ والبعبع.. عائلة فقيد الجهالة والخرافات والظلام بكل ما فيه المدعو الجني.. ذاك اللي كانوا يسمونه هول الليل!!
وبموجب ذلك. فقد استطاعت عكاظ الجريدة ـ لا المؤسسة ـ أن تنفرد كعاداتها بالحصول على المقطوعة الغلبانة اللي كانت عايشه لوحدها في داخل علبة من التنك.. وأن تنتزعها بقوة ذراعها من ذراع عفريت العلبة.. وهذه محتوياتها:
إلى أين.. هول الليل.. غاد وسائر
وقد شيدت وسط الضفاري العمائر؟
وشعشع نور الكهرباء.. مبدداً
ظلام ليالٍ.. ما عليها ستائر..
فقل لبشاك الأمس قوموا تفرجوا
على جدة الكبرى.. بناها الأكابر..
فجدة قد أمست يخوي.. وأصبحت
عروساً بحق.. قد جلتها النواظر..
فليس لهول الليل بين حدودها
وحول ضواحيها.. خيال.. وخاطر..
ففانوسه السحري بات مكشراً
طفته من الجيل الجديد البصائر..
وساقاه.. والوجه القبيح.. وطوله
مع العرض قد دارت عليه الدوائر..
فسار بنص الليل هفتان.. دائخاً
إلى حيث ضمته ـ هناك ـ المقابر!
* * *
تعال إلينا اليوم إن كنت شاطراً
وإن كنت جنياً صحيحاً.. يكابر..
لتبقى لدينا تريقاء.. وفرجة
ومصخرة.. يا اللَّه.. تعال.. يشاطر!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :6933  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 52 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج