شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ظَرِيفَهْ..
لو سألت الكثيرين ممن كانوا يتابعون برنامجنا الإذاعي الشعبي المشهور في حينه ((ع الحلوة ـ والمرة)) بشخصيات عائلته ابتداء من ظريفة وانتهاء بعمو رمدان. عن السبب الأساسي في تسمية البطلة باسم ((ظريفة)) لأجابك كل واحد منهم إجابة مختلفة عن الإجابات الأخرى.. وقد تكون تلك الإجابات أو الإجابة منطقية مقنعة في ذاتها.. ولكنها لا تحدد أبداً مضمون اسم ((ظريفة)) ولا تكشف عن شخصيتها الشعبية الحقيقية المستترة في ذلك المضمون والتي انفردت بهذه التسمية طيلة قرن إلا ربع القرن في قلب مدينة جدة وضواحيها منطلقة من عزلتها الصغيرة المجاورة لفرن الحنبولي تجاوزه السور القديم إلى الخلاء على حل شعرها.. بحيث لا يرد رأسها إلا مركز أم السلم بدرب مكة المكرمة شرقاً.. أو جسر الكراع بطريق المدينة شمالاً فإليك المضمون.
اسمها ظريفة ـ وهي ظريفة فعلاً سواء في حديثها الحلو الساحر حيناً ـ والساخر أحياناً. أو في قوامها الرياضي الممشوق كالرمح ـ أو كالشوحط والخيزرانة الطويلة. يجعلك تنسى أن تطالع تفاصيل وجهها ومعارفه الجزئية ـ فلا تكتشف بذلك أنها لم تنل من قسمات الجمال ما يؤهلها لأن تطلق عليها كلمة جميلة.. أو حسناء.. مكتفياً أنت كما اكتفت هي بأنها من ناحية الشكل العام.. مقبولة.. فقط لا غير.. وهي تعتز دائماً بأنها مقبولة شكلاً لسبب وحيد ووجيه وعزيز في نظرها.. هو أن اسم أمها المرحومة ((مقبولة)) وكان لها ولع كبير بأمها في حياتها وحتى بعد مماتها. فإن تلك الوالدة التي كانت تبيع الفول النابت في أول سوق النورية القديم بجدة هي التي غرست فيها روح العمل الحر.
لقد نشأت ظريفة وهو اسمها واسم شهرتها معاً محبة للعمل وللكسب بدافع قوي من حالتها التجارية التي اذكتها فيها والدتها ((مقبولة ـ ولكنها لم تنزل إلى العمل التجاري في نفس الميدان الذي خاضته والدتها ـ وهو بيع الفول النابت ـ وإنما فكرت ظريفة ـ ثم فكرت ـ ثم قدرت.. فاختارت ميادين أخرى لهذا العمل. وذلك في الوقت الذي كانت فيه نساء المدن، ومنها مدينة جدة.. لا يعرفن إلا الزواج.. فخدمات الزوج والبيت ليس إلا.. وفي نفس الوقت الذي تركت فيه لبنتي خالتها كباية وعسله بيع الفول النابت في أول سوق النورية القديم خلفاً لخالتهم المرحومة ـ مقبولة.
هكذا دخلت الست ظريفة مجال الأعمال الحرة وليس لها رأس مال يعتد به.. أو يذكر في عالم الأرقام.. إذ إنها حين تحدثت عن نفسها في مستقبل ايامها ـ وبعد شهرتها ورسوخ قدمها.. وذلك في ريبورتاج صحفي.. قالت مثلما يقول كل الناجحين في عالم المال بعد نجاحهم.. إنها بدأت أعمالها التجارية الحرة بدون رأس مال تقريباً.. وبذلك أثبتت أن التاجرة الناجحة.. أو التاجر الناجح هي أو هو من يصنع المال.. وليس الذي يصنعه المال الموروث.. أو المستلف من الأهل والأصحاب. أو من البنوك بفائدة مئوية أو بدونها!
لقد ابتدأت ظريفة بنصب ((اللوح)) أمام عزلتها.. واللوح كلعبة شعبية رياضية عبارة عن لوح من الخشب مربوط من أطرافه الأربعة بحبال تنتهي في أعلاها بقندل يمسك كلاً من طرفيه قندلان آخران مغروزان في الأرض على شكل مثلث.. ويرتفع اللوح نفسه عن الأرض معلقاً في الهواء بمقد نصف أو ثلث متر.. وما على طالب اللعب في اللوح والتمدره به إلا أن يصعد وأن يمسك بالحبلين الأماميين.. ويهزهما هو أو يهزه سواه من الأرض فيهتز به اللوح تدريجياً حتى يعلو في الفضاء بقدر عزم اللاعب عليه. ويجوز أن يعتلي اللوح لاعبان متقابلان وجهاً لوجه.. ورأساً برأس يمسك كل منهما بحبلين من الحبال الأربعة ((ويتنافحان)) بين وأمام أنظار الجمهور المتفرج وتصفيقه أو تصفيره.
ومن المعلوم أن للعبة على ((اللوح)) زمن مقرر ولهذا الزمن المقرر تعرفته المقررة أيضاً.. وقد بدأت ظريفة التعرفة بهللة وانتهت بها إلى هللتين وعلى حد تعبيرها.. ومن الهلل تتكوّم القروش.. علماً بأنه يجوز للاعب بعد انتهاء المدة الأولى تجديدها بعد دفع الهللة أو الهللتين ـ لتجديد اللعب أو النفح المفرد ـ أو المجوز.
وحين نجحت لعبة اللوح.. وتضخمت وارداته الهللية حيث أقبل عليه صبيان وغلمان وفتيان المحلة ـ محلة المظلوم ـ والمحلات الأخرى فكرت الست ظريفة أن تستفيد من جمهور اللاعبين على اللوح وكذلك المتفرجين، فاقتنت صاجاً.. واشترت زيتاً وحطباً وفحماً.. ثم خمرت الكشري وخلطته ببهاراته المقننة وفرمت عليه الكرات.. وابتدأت حالاً في صنع المقلية.. المقلية التي طارت شهرتها في جدة فصارت تعرف بمقلية ظريفة.. ثم اصبحت الطبق المفضل لدى بيوت الحي.. ثم الأحياء المجاورة له.. وأحيني اليوم. وقابلني.. غداً!!
.. وحتى لا يصدق على الست ظريفة.. لا على المقلية.. المثل القائل صاحب صنعتين كذاب.. فقد عهدت بعد رواج اللعب على اللوح أولاً.. ثم اشتهار المقلية ثانياً إلى ركن خارجي من عزلتها الصغيرة الملاصقة لفرن الحنبولي وذات الحوش المكشوف فعملت في الركن ما يشبه الأكشاك الآن.. وجعلته كهيئة ((بوفيه بلدي صغير)) وهيأت به للزبائن المكسرات الشعبية المعتادة من الفشار.. للفصفص.. للزرمباك.. للوز.. للحمنبص.. لسواها.. ووفرت المنعشات الدارجة تلك الأيام.. من السوبيا والزبيب البارد صيفاً. إلى المغات والسحلب شتاءً.. مع الاعتماد على كفتيرة الشاهي في كل الفصول باعتباره المشروب المحلي الشائع.
وبقيام الست ظريفة بتأسيس البوفيه البلدي ضربت ببقية المثل السابق عرض الحائط فقد باتت الغلات الثلاث من اللوح. للمقلية لمعروضات الكشك بمثابة تكذيب عملي لهذا المثل الدارج البائخ.. صاحب صنعتين كذاب. والتالتة منافق.. كما أصبحت هذه الغلال دليلاً أو أدلة مادية على أن ((التخصص)) التجاري في صنف واحد ليس هو وحده سبيل النجاح.
.. لقد علق منذ أكثر أو حوالي نصف قرن من الزمان أحد كبار التجار في جدة ممن يدعون بالاقتصاديين اليوم على الست ظريفة وأعمالها الثلاثة بقوله ((لقد اثبتت الست ظريفة أن المرأة الشعبية في بلادنا قادرة على أن تكون نجماً اقتصادياً.. وأنها تحسن العمليات الحسابية الأربع دون ورقة أو قلم.. وذلك بتشغيل مخها.. ثم تحريك أصابع يديها.. فقدميها إن لزم الأمر في حالتي الجمع.. أو الطرح.. دون الاعتماد على عملية ((الضرب)) التي لا تناسب الجنس الناعم اللطيف.. ولا لزوم لها.. ولا الاعتماد كذلك على عملية ((القسمة)) فلا حاجة لها باعتبار أن ((القسمة)) حظ.. ونصيب)).. انتهى تعليق الاقتصادي الكبير.
هذا.. ولم يكد أحد معارف الست ظريفة ممن يفكون الحرف أيامها يطلع على نص التعليق حتى طلبت الست ظريفة فوراً من قائله.. بعد إهدائه صحناً محترماً من المقلية وسلطتها ـ أن يكتب ما قاله عنها بخط جميل واضح.. وعلى ((لوح)) من الخشب المصقول ((بالفارة)) ففعل طبعاً. وقام بكتابة ما طلبته ظريفة نزولاً على المثل القائل ـ اطعم الفم ـ تستحي العين.. وحينذاك. وكأسلوب من أساليب الدعاية والإعلان التجاري في حينه قامت بتعليق اللوح الخشبي المكتوب فيه التعليق بخط ثلث رائع.. بعد بروزته بقصاصات من التنك اللميع في واجهة عزلتها الصغيرة ذات الحوش المكشوف على مرأى من ((اللوح)) ومن صاج المقلية.. ومن كشك بيع المكسرات والمرطبات وبمواجهة الزبائن والمارة.. فطار حد اللوحة الخشبية المبوزة بعد أن طار حد اللوح والصاج والكشك..
ومن الغريب في هذا الباب ومتعلقاته أن الاقتصادي الكبير صاحب التعليق صار بعد تعليق اللوحة التي تحمل كلماته القيّمة أحد المواظبين على الحضور إلى مقر الست ظريفة. ويحكي المرحوم عمدة المحلة أن هذا التاجر أو الاقتصادي الكبير الشهير وكان يحفظ بعض الكلمات الإنجليزية أحضر معه ذات مساء أحد الخواجات المولعين بالدراسات الشعبية وزعيم إحدى النقابات العمالية في بلده لمشاهدة الست ظريفة وأقسام الأعمال المختلفة لديها وتحت إدارتها وحدها.. وقد أخذ منها كافة المعلومات اللازمة.. وكيفية عمل المقلة والسحلب.. كما صوّر اللوح.. ورسم الصاج.. والكشك ومحتوياته.. واللوحة المعلقة على واجهة العزلة سكنى الست ظريفة.. ومن الخارج فقط..
وسمعت فيما بعد من العم أبو شنب وكان أحد المتعاطين للتجارة في بومباي أنه رأى.. بدعوة من أحد زبائنه المثقفين هناك.. في معرض خاص أقامه الخواجه نفسه اللوحات المختلفة التي رسمها للست ظريفة وأعمالها.. تحت العناوين الآتية:
أ ـ ظريفة ـ عصامية من جدة تسكن محلة المظلوم بجوار فرن الحنبولي.
ب ـ المقلية.. طعام شعبي.. رخيص ولذيذ.
ج ـ السحلب.. مشروب بلدي ساخن.. ينوب عن المدفأة التقليدية في الشتاء.
و ـ اللوح.. لعبة رياضية عربية.. وإن كانت كلمة ((اللوح))أحياناً تستعمل للشتيمة.. حين يقول أحدهم للآخر.. روح ((يا لوح)) البعيد!!
وكم اشتهيت حينذاك لو كانت الست ظريفة حية لم تنتقل إلى دار البقاء.. لترى.. دون أن تقرأ.. صورتها منشورة في التايم الهندية ـ كما ترى اللوحات المسجلة لأعمالها بكل فروعها. وحتى ترفع رأسها فخراً كما فعل العم أبو شنب الذي أصبح ـ على حد قوله ـ مطارداً من الصحفيين والمراسلين الأجانب لأخذ كثير من التفاصيل عن حياة العصامية المرحومة الست ظريفة.. والذي كان يردد لكل منهم جملته الحلوة كلما طلب الانفراد به.. بكره قابلني!!
على المنوال السابق طارت شهرة الست ظريفه ـ دون علمها ـ إى خارج مدينة جدة.. كما ارتفع دخلها اليومي ـ وهذا الذي يهمها ـ إلى أرقام هائلة من الهلل والقروش والريالات.. فقد قدر أحد المحاسبين الأكفاء في تلك الأيام وهو محاسب قدير من وزن المرحوم الشيخ عبد الرزاق هنداوي.. وقيل إنه هو.. قدر الربح الأسبوعي الصافي للست ظريفة بعشرة ريالات.. وكان الريال آنذاك في مقام المائة أو المائتين الآن بنسبة قوته الشرائية لكل الأصناف المتوفرة والرخيصة.. فضلاً عن ضمان معدنه الفضي.. وهي ناحية لا يستهان بها في مجال المقارنة بين المعدن.. والورق.
ونتابع أسلوبنا الجاف الناشف لمطابقته لروح الأرقام والأعمال التجارية فنقول عن الست ظريفه أنها استطاعت في خلال سنوات ـ لا بأس بها ـ أن تشتري الخرابة القريبة من عزلتها وأن تنشئ عليها بيتاً صغيراً خصصته للإيجار.. فأضافت بما عملته ـ وخيراً عملت ـ مصدر دخل جديد.. رابع!!
تلك هي الست ظريفة إحدى رائدات الأعمال التجارية الحرة في بلادنا.. وفي مدينة جدة على الحدود بين محلتي اليمن والمظلوم.. وتلكم هي أعمالها الرئيسية الأربعة.. وهي اللوح.. المقلية.. الكشك بمرطباته.. والعزلة المخصصة للإيجار.. علماً بأن هناك أعمالاً فرعية لم نتعرض لها ولم ندخلها في الحساب مثل صنع ((الدانجوه)) وبيعه بالحبة.. ومثل تصنيع ((السويك)) وتسويقه بالقرطاس.. ولقد كان الإقبال الجماهيري على مص الدنجوه.. وسف السويك حينذاك كالإقبال على الشيكلس.. وسندوتش الشارومة ـ اليوم.
أما حياتها الخاصة والشخصية ـ يرحمها الله ـ فإنها لم تذهب إلى الفقيهة.. كمعاصراتها من الطبقتين العليا والوسطى.. ولم تفك الحرف.. ولكن أميتها التامة لم تمنعها من اقتحام أبواب العمل التجاري الحر شأنها في ذلك شأن بعض كبار التجار العصاميين في زمانها وما بعده بقليل.. مما يثبت أن التعليم أداة تثقيف وتنوير شخصية وأنه تدريب منظم للارتزاق.. ولكنه ليس هو الأصل والحوار في التجارة.
كما أن الست ظريفة أصرت على رفض الزواج إلا بعد تكوين نفسها تكويناً مادياً لا يجعلها تحت رحمة الزوج.. فصدت كثيراً من خطابها مثل: جنقر.. والكنجفا.. وأبو كريشة.. وبجبج.. ـ ونكرر الملاحظة بأن كل الأسماء حقيقية ومعروفة من أهالي جدة ـ وكان هؤلاء الخطاب شباباً وأصحاب صنعة ورثوها عن آبائهم فأولهم نوار ـ وثانيهم منجد.. وثالثهم بناء.. ورابعهم نجار.. ولكنها بطبيعة ذكية قبلت ـ حفظها الرحمن ـ فيما بعد أن تتزوج ((القطله)) وهو من أكبر صانعي الشيش في زمانه.. وكذلك صنع الشرابيس التنك.. والقطله هو اسم الشهرة التي انفرد بها المذكور بين أترابه ثم في الحارة ثم في مدينة جدة ـ وأظن أن أبناءه و أحفاده لا يزالون يتوارثون هذه التسمية التي أصبحت لقباً ثابتاً لهم.
ويرجع السبب الجوهري في قبول الست ظريفة.. أو الآنسة كما كانت حينذاك.. لزواجها من ((القطله)) أنها كانت تدمن شرب التنباك الحمى.. فضمنت بهذا الزواج اقتناء أحسن الشيش وأفضل الشرابيش مع إصلاحها مجاناً عند اللزوم.. ومع إصرار ظريفة دائماً على قيامها بنفسها بتوضيب التعميرة الحمى.. بتشديد الميم.. وبرص الراص.. ولم تستنكف يوماً من الأيام من مداعبة ((اللي)) بفمها أثناء تأدية أعمالها الحرة الناجحة.
ومما علق بذاكرتي وما رواه لي أحد أبناء عمومتي.. وكان مستأدباً على الطريقة القديمة.. الأبيات التي غناها المرحوم المغني الجداوي والد حسن شلبي ليلة دخلة الآنسة ظريفة على عريسها القطله وهي:
يا طيور الأفراح.. طيروا.. وطيروا
وكلوا زينا الكباب الميرو
واجمعوا القطلة الكبيرة انسا
بظريفا.. وللسرور اشيروا
وعلى اللوح والمداريه.. غنوا
وإلى العزلة الصغيرة سيروا
فسر الحاضرون ليلة الفرح بهذا المجس المؤنس كثيراً.. وأصبحت تردده مجالس الطرب القديمة لوقت طويل.. ـ وللعلم فإن ((القطلة)) نوع من أنواع العصى. وهي بالتحديد أصغر من الشون ((أي النبوت)) وأكبر من ((الدبسه)).. وهي عصا غليظة قصيرة كان يستعملها الأعراب والبدو أكثر من استعمال سكان المدن ((أي الحضر)).
.. أما ظريفة في زيها اليومي.. فقد كانت مثال البساطة والحشمة والأناقة في وقت واحد.. فهي دائماً ترتدي ((الكرته)) المصنوعة من قماش رخيص.. منسدلة من رقبتها إلى مشطي رجليها.. وكرتتها. أي فستانها.. سادة على الدوام.. فهي لا تحب النوع المشجر والمشابه للقمصان الأمريكانية الشائعة في عصرنا هذا وفي خارج بلادنا.. مع حرصها على وضع الشنبر الكحلي والمحرمة والمدورة على رأسها في المناسبات الهامة.. أما في يومياتها العملية فتكتفي بالمسفع رامية أطرافه على الكتفين بشكل يشبه الغترة الحالية.. وذلك من أجل سهولة لف المسفع على رقبتها حين يحمي وطيس الشغل..
هذا ـ وبمناسبة الكرتة والشنبر والمحرمة.. فقد حدثت في حياة الست ظريفة حادثة ظريفة كذلك.. ولعلّ من تزكية ظرافتها اتصالها بالناحية الأدبية.. والشعرية بالذات. وتفصيلها حسب رواية المحتفلين بالأدب والمتتبعين لطرافته منذ حداثته.. كالآتي ـ
كان الأستاذ محمود عارف غلاماً يعشق الشعر للشعر.. وكانت له تجاربه الأولية التي يعرضها للمباسطة وللمناقشة على زملائه في المدرسة الفلاحية وفي الكار.. وهم محمد علي باحيدرة.. وسالم أشرم.. وعباس حلواني بحضور وبإشراف الأستاذ محمد حسن عواد في أحد المقاعد البيتية المطلة على مداريه عيد المضلوم بجوار بيت بابعير. وهو مقعد باحيدره..
وصادف أن مرت البشكة كلها في تمشية عصرية أمام بيت الست ظريفة.. وصادف أيضاً أن الست ظريفة كانت يومها ذاهبة إلى زيارة عائلية.. وقد ارتدت الكرته والمدورة والمحرمة والشنبر ووقفت تتفقد الأعمال قبل ذهابها للزيارة.. وترشد ابنها البكر.. وقد أصبح فيما بعد يبيع الحوت السلماني.. إلى ما يجب عليه عمله وملاحظته حتى حين رجوعها.. فما إن رآها الغلام الشادي للشعر محمود أفندي عارف حتى ندخ قائلاً:
ظريفة ـ ربة الكرته ـ
من الدوت.. إلى البفته ـ
وذات الشنبر الكحلي ـ
ومحرمة ـ لها ـ شفته ـ
أليس ببيتكم طرشي ـ
خياراً ـ كان ـ أوقته؟
ونعناع ـ ببراد ـ
نصفيه من العته؟
* * *
لقد قدحت ـ على قلبي ـ
صبابات ـ كما الفتَّه ـ
وحب صادق عذري ـ
كلحم الرأس ـ لا الكفته ـ
فإني معجب ـ فعلاً ـ
بست البيت ـ والحته ـ
وتكفيني ـ بلا طمع ـ على الماشي ـ هنا ـ لفته!!
 
.. ولم يكد أبو عروف.. سابقاً.. وأبو نزيه لاحقاً.. يترنم بمقطوعته التجريبية الشعرية فتشيع بين الناس لسلاسة ألفاظها.. ورشاقة صورها.. وخفة روحها ـ وتصل فيما بعد إلى أسماع الست ظريفة حتى قامت قيامتها. وإن لم تخبر زوجها القطلة.. في أول الأمر.. بالأمر.. فصرخت في الحارة بأعلى صوتها ـ وبجمل متناثرة غاضبة:
هو مين هو هادا الولد محمود عارف حتى يقول في.. الأقوال..؟
هو ما يعرف أنو زي بزره من بزورتي؟ وإني أجيبو.. وأجيب عشرة زيو؟
والله إذا ما خليتو يبطل يمشي من هادا الزقاق ما أكون أنا ظريفة؟
وحين خرج زوجها القطلة على صراخها.. وسألها عن سببه.. أجابته قائلة:
ظريفة: لا.. ولا حاجة يبو ((كنبش))!!
القطلة: امال بتصرخي ليش.. يست الستات؟
ظريفة: الولد اللي ما يستحي.. ولا أهلو ربوه.. واللي اسمو عارف شرد بحق اللوح!!
القطلة: مسيرو يطب فيدي.. وأنا أوري لو شغلوا!!
وانتهى الأمر مؤقتاً عند هذا الحد.. حتى سمع المرحوم العم حسن عارف بالموضوع وهو شقيق محمود الأكبر.. فتلافى القضية بعمل ((ملفا)) جمع فيها العمدة وكبار المحلة.. وأعتذر للقطلة باعتبار أن أخاه محمود شرد بالحساب لأنه لم يدفع له يومها المقرر اليومي له..
وعلى أثر هذه الحادثة فقد صمت الشداة من الشعراء خوفاً من لسان الست ظريفة.. ومن قطلة العم ((القطلة)).. ويقال إن ظريفة اتخذت المقطوعة كفرع من فروع الدعاية. للارتقاء بنمط زبائنها ـ وكنت أحدهم.. ونزولاً على قاعدة.. والغواني يغرهن الثناء.. وإن لم تكن ظريفة منهم ـ إلا أنها أنثى بطبيعة الحال ومهما كان سنها. فقد طلبت مني تشطير المقطوعة ـ وتخميسها.. ولما كنت أعرف قدر نفسي من جهة ـ وأصغر سناً من الأستاذ محمود عارف بما لا يقل بحال من الأحوال عن خمس أو ست سنوات فقد تخلصت من الأمر بقولي لها مشافهة.. ودون تسجيل هذين البيتين:
ظريفة.. سيبيني بحالي.. فإنني
ظغير..وهل يقوى الظغار.. على الشعر؟
سألعب فوق اللوح دوراً بحاله..
فلا تطلبي القرشين مني.. على الدور!!
.. وبالمناسبة ـ وفي الأخير ـ فقد كان كاتب هذه السطور الشعبية التاريخية في يفاعته ومنذ حداثته.. فعلاً.. أحد الزبائن المدمنين على ركوب لوح الست ظريفة مفرداً.. ومجوزاً.. وعلى الاكتفاء بمقليتها الطعمة عن وجبة العشاء.. وعلى التلذذ بشرب السوبيا صيفاً.. والسحلب شتاء.. تماماً كما يفعل ابناء الجيل الحاضر حين يضربون عن الأكل ببيوت أهلهم اكتفاء بسندوتشة.. أو بزجاجة من هذه المياه الغازية الفوارة.. أو بقطعة من الحلاوة والتشكلس.. في فسحات المدارس أو لدى الخروج منها.
كما كان كاتب هذه السطور مغرماً غراماً فنياً مبكراً بمتابعة الجمل الموسيقية البلدية التي كانت الست ظريفة ترسلها عفو الخاطر.. في صورة إصدار الأوامر والنواهي لزبائنها الصغار.. وخصوصاً من هواة اللوح وركوبه المستمر.. أو من المواظبين على تناول المرطبات كلما جفت حلوقهم.. ونزت عرقانهم.. أو على تناول المقلية كلما غنت عصافير بطونهم الصغيرة إشارة لطلب الزاد.. والزاد مراد.
ومن الأمثلة على تلك الجمل الموسيقية والتي لا يزال بعضها عالقاً بالذاكرة الماكرة الخائنة.. الجمل الآتية:
أ ـ يا الله أنزل.. يواد!! وقتك خلص!! اللي عليه الدور.. يوقف اللوح!!
ب ـ بلاشي زحمة.. أنت وهو!! ما في فايده.. بالسرا.. واحد.. واحد!! امال أنا عملت الصرا ليش؟
ج ـ وعن المقلية: مقلية ظريفة!! كشري وكرات.. وعدوك مات!! وهي حارة.. يوليد!! والحارة عليها.
و ـ وعن السحلب: اتسحلب.. واتدحلب!! بدخانو.. وغيري يعزل دكانو!!
وطبعاً.. وعلى أساس ما سلف.. فقد أصيب المذكور أعلاه.. أي كاتب هذه السطور بصدمة نفسية قاسية حين سمع بوفاة الست ظريفة في يوم عاصف.. حيث كان الطقس حاراً جداً.. والهوا أزيب.. والغبرة تايره.. والناس ما تشوف بعضها.. مما اضطر والده لحبسه في البيت منعاً له من الخروج منه.. وبالتالي من المشاركة ولو من بعيد لبعيد ـ باعتباره صغيراً ـ في تشييع جنازة الفقيدة العصامية.. ورائدة الأعمال النسائية الحرة.. والتاجرة الشاطرة الماهرة.. ولكنه اغتنم الفرصة ليلاً فقام بالواجب حيث شارك في مراسيم العزاء لزوجها القطلة.. ودخل بحكم السن داخل العزلة الصغيرة ذات الحوش المكشوف فعزى قريباتها.. وفي طليعتهن ابنتها الست ((زردخ)) الساكنة حالياً بجوار مقبرة الأسد.. والتي تناولت الغداء بالفعل في بيت كاتب السطور في الأسبوع الماضي ومع أهله وإن لم يقابلها لعدة أسباب.. كما قام بتعزية السيدات المرحومات كبايه.. بتشديد الباء المفتوحة.. وعسله.. ونمروسية.. وبنت الزلطه!!
ظريفة.. يا أخت الرجاجيل.. إنني
زبون.. ومن حق الزبائن. أن يَبكوا
فكم عشت في اللوح المعلّق في الهوا
أنافح من دقوا الرؤوس.. إذا احْتكُّوا
وكم أنا للسوبيا محب.. وعاشق
لدنجوهك الحالي.. يحن له الفَكُّ
القط حبات الفشار.. وانتشى
بمقلية طعما.. عليها لنا الرَّكُّ
لقد سال دمعي.. حين قالوا: ظريفة
توفت.. فواساني بعزلتك الكُشْكُ
أحوم حواليه.. وطيفك ماثل
أمامي لوحدي.. فالجماعة قد فَكُّوا
وسيبت راص المال.. والربح كله
يبعثره القطلا.. ويلهو به عُكّوا
هو المال.. للمحروم.. للنزهي غداً
بذا تصدق الأمثال ليس بها شَكٌّ
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1303  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 51 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج