شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أَبو سَدَّاح..
من الشخصيات العالمية غير العربية المشاهير الذين أصبح لقب الواحد منهم أو اسم شهرته يغني عن الاسم واللقب العائليين.. فإذا جاءت مثلاً سيرة واحد راجل عسكري طموح جعل أوروبا تركع له مثل نابليون أو هتلر فلا داعي إطلاقاً لذكر اسم أو لقب أبويه.. ومثلهما تماماً إذا قلت في الموسيقى بيتهوفن وشوبان.. وفي المسخرة الكازانوفيا، ((دون جوان)) وفي علم الجنس ((فرويد)) وفي أصل الأنواع ((داروين)) الذي رد أصله للقرد.. وأرضى بقردك لايجيك أقرد منو.. وفي التمثيل الصامت ((شابلن)) وفي الأدب الإنجليزي ((شكسبير)) أو ((شيك زبير)) كما نسبه العرب لأنفسهم من القل. ربنا لا يقلها من أيد مسلم.. يا رب!!
أما في الأوساط الشعبية بالمنطقة العربية.. ففي مصر مثلاً إذا أتت سيرة الفول والطعمية ـ أي المقلية ـ فقل ((التابعي)) واسكت.. وإذا جاء ذكر هز الوسط فلتكتف بكلمة ((كاريوكا)).. وفي المواويل البلدي ((طلب)) بكسر الطاء واللام وسكون الباء.. وفي المونولوجات ((شكوكو)) وفي الفشر ((أبو لمعة الأصلي)).
أما في لبنان. فإذا جاء ذكر الحلويات ـ أو الحلو ـ فتكفي كلمة ((الصمدي)) وإن جاءت سيرة الفكاهة اللي زي بعضها فما في إلا ((حنكش)) فهو مثل ((مروش)) للفروج المشوي.. ومطعم اسطمبول للقطع والأوصال.. وللاتيكيت الاجتماعي كلمات: ولو.. وكرمالك.. وتتدبر.. وهات عاد يا ليرة قفا ليرة.. الين يدوّخ عدوك من الصخ..
هذا كله أو بعضه يطابق تماماً ما هو حاصل عندنا فأنت على المستوى الشعري والأدبي والصحفي كمان يمكنك أن تقول.. العواد ـ شحاته ـ الفقي ـ السرحان.. وفي اللغة والتاريخ: الجاسر. عبد القدوس. الزيدان.. العطار.. وفي الأركان الصحفية: أبو ظلال.. وأبو معالم وأبو استراحة اليوم.. واليوم ولا كل يوم يا مشمش.. وأبو جداول.. وأبو لقاء.. وأبو لمسات.. وأبو ((على الماشي)) لوحدو.. وذلك كما في الأحياء المائية ابتداءً من أبو جلمبو وانتهاء بأبو مقص.. أما في الكلام اليومي اللي لا يودي ولا يجيب فحسبك الأسماء المعروفة اللي تجيب البلا ولا توديه!!
أما على المستوى الشعبي.. ففي جدة ومن حوالي قرن من الزمان فإن كلمة ((أبو عوف)) للمطبق الفرني.. وأبو القعور للمقلية ـ والكردوس والجاوى ليليش يليش.. وعم غلوم للسلف.. زي البنك.. وستي ((وهبابه)) لنتف شعر الحاجبين والتعقيص وعمل الكوافير النسائي القديم بأنواعه.. و ((دحدحيه)) للسويك والحنا والترمس.. وكباية و ((عسله)) للفول النابت.. والفنانات السيدات ((ساهينا)) ((ورشوده)) و ((شنوانية)) للتزحيف ونصة العروصة.. بطابق وكسرة.. و ((فلوسه)) بضم اللام المشددة لمواراة الموتى في قبورهم دون مد يده إلى خلف أكفانهم!!
من هذه النماذج.. وعلى هذا المقاس العالمي والعربي والمحلي بشقيه الأدبي والشعبي يمكننا الآن وبسهولة أن نتطرق دون احم أو دستور إلى سيرة شخصية شعبية شهيرة وعظيمة في تاريخ مدينة جدة ـ ولدت ولاقت ربها ولم يسقط منها أو من يدها الموس.. إنها دون فخر من أهلها.. أو فشر منا.. شخصية ((أبو سداح)) بتشديد الدال المفتوحة ضماناً لعدم الغلط والتحريف.. وعلى قول حبيبنا وصاحبنا إياه.. نعم.. نعم.. فقد كان اسم أبو سداح في جدة مجرداً عن أية إضافة اسمية أو لقبية أو عائلية عليه كافياً لأن يتحسس الأطفال الذكور مواضع الطهور والتبول خوفاً من مجيء الدور عليها.. وأن يضع كل من الكبار كذلك صباح الجمعة يده على رأسه ليعرف هل استحق كدشه الحلق بالموس قلطاً أم يؤخره للجمعة الجيه؟
ولقد تفرد أبو سداح بشهرة طويلة عريضة لم تتيسر ولن تتيسر لغيره من كل من حمل الموس بيمناه حتى الآن.. وكان ذلك التفرد مقصوراً وممدوداً على الرجال والشباب الملتزمين جميعاً بحلاقة الرأس ـ أي شعره جميعه.. بالموس.. وعلى الأطفال.. وهنا محل شهرته الحقيقية.. لتخصصه بتشريطهم بالموس.. وبالقيام بعمليات الطهور الختان ـ لهم.. ولهذا ندر بين كهول وشيوخ اليوم من نجا بكدشه.. أو بغلفته منه.. فقد سن أبو سداح موسه.. وشهره كالسيف فلم يغمده طيلة حياته.. أي طيلة قرن إلا ربع القرن.. وهذا ليس بالقليل في عدد القرون المستوية أو المعكوفة.
ويضاف إلى ذلك أن ((أبو سداح)) كان اسماً كافياً لإلقاء الرعب التربوي التهذيبي.. فقد بلغت شهرته من الاستفاضة والخطورة حداً جعل الأمهات في البيوت يخوفن أولادهم الصغار أيام زمان بقولهن ((ولد.. شوف إن ما تسكت.. أو إذا ما تجلس عاقل رايحه ازهم لك أبو سداح)) فيسكت الولد خائفاً من التطهير أو التشريط ـ أي أن أبو سداح في بيوتنا أصبح كذلك لإرهاب الأولاد رابع أربعة هم: البعبع. والغول.. والهمية.. قومي سوي لوزي أوليه!!
وبعد.. يا إخواني.. فإن الطهور أو الختان يستحق قبل القطع بما له وما عليه أن نتعرض دون مؤاخذة أو حياء لموضع ولموضوع مجاله بقليل من التفسيرات اللغوية إزالة للشك الشائع الذي ترتب عليه استبعاد أو إخراج كلمتي الغلفة والقلفة من العربي الفصيح.. وذلك إرضاء لصاحب سيرتنا الشعبية اليوم رجل الطهور الأول في جدة.. أبو.. سداح.. وتسجيلاً لحادثته اللغوية الشهيرة:
إذ يقال.. والعهدة في هذا على الشيخ مبارك إمام زاوية ((غلوم)) المقابلة لبيت رضا والمجاورة للنورية القديمة من جهتها الجنوبية.. يقال: إن أحد المتحذلقين المتقعرين من دارسي النحو والصرف قد أزعج أبو سداح.. وهو الذي يزعج الكبار والصغار.. إزعاجاً لا حد له حين صاح به بعد قيامه بعملية الطهارة لابنه.. قائلاً له ((ترى.. ماذا فعلت بقلفة ابني.. يا رجل؟)) فتبرسم أبو سداح صامتاً.. لأنه.. وهو.. هو قاطع القلفات يومياً.. لم يدر ولم يعرف أن للغلفة بالغين اسماً آخر هو القلفة بالقاف.. فأدار وجهه لهذا المتحذلق المتنحون.. وولى مسرعاً حتى أنه حسب الرواية نسي أن يأخذ أجره وذهب يناهج من توه إلى إمام الزاوية الشيخ مبارك الذي هدأه.. وابتسم بوجهه.. ثم فرد القاموس أمامه.. وأشار له بيديه.. فبرك أبو سداح ـ وكان جسيماً كما سيأتي ـ كالجمل أمام الشيخ الذي قرأ له الفقرات الآتية:
أ ـ القلفة ـ يبو سداح.. بالقاف آتية من فعل قلف الشجرة أي نزع عنها قشرها.. وقلف الظفر أي اقتلعه من أصله. وقلف القلفة يعني قطعها.
ب ـ كما تقول قلف قلفاً الصبي: لم يختتن ـ فهو أقلف.. وعلى ذلك فالقلفة: جلدة عضو التناسل.
ج ـ أما الغلفة ـ بالغين ـ فهي من فعل غلف الشيء بفتح اللام غطاه وغشاه.. وبتشديد اللام غلف الشيء جعله في غلاف.. ومعناها القلفة وهي الجليدة التي يقطعها الخاتن..
د ـ وبناء عليه ـ يبو سداح ـ فتكون القلفة بالقاف هي الغلفة بالغين ـ ويكون الأقلف هو.. الأغلف.. و.. و..
وهنا زعق أبو سداح.. وهب في وجه الشيخ مبارك صائحاً.. بس ـ بس ـ كفاية.. كفاية.. هو مين اللي قال لك كمان إني ما أعرف معنى الغلفة؟ تحب تشوف؟..
وهنا لم يتمالك أبو سداح نفسه من الاندفاع.. وإشهار موسه.. والاتجاه به صوب الشيخ مبارك الذي كان يحتضن ابنه المتعلق برقبته.. والذي صرخ في وجه أبو سداح.. لا.. لا.. محلك!! حاسب! ترى الولد قيدو.. مطهر.. مطهر.. وأنت.. أنت اللي طهرتو بيدك.. هو أنت؟ أنت يبو ـ سداح؟
.. وكما أن عملية الطهور ـ أي الختان ـ عملية شرعية يحث عليها الدين.. وتقتضيها النظافة.. والنظافة من الإيمان.. فإن عملية إشهارها كانت ـ على أيامنا ـ تقتضي الاستعداد العائلي لها.. وذلك بإقامة حفل خاص ((بالطهار)) ودعوة الأهل والأقارب والمعارف والجيران إليه.. وكانت معظم الاستعدادات تنحصر في الآتي:
أولاً ـ القيام بترويش أو بتدليك الولد وتنظيف جسده جيداً.. وخصوصاً موضع القطع.
ثانياً ـ تفصيل ثوب بفتة أو صليطي جديد للولد لارتدائه دون سروال.. ومن دون الخوف من صراخ وهيلولة زملائه عليه بقولهم ((الدلال)) ـ أو: دلال السروال.. جاكم.. جاكم.
ثالثاً ـ إحضار كرسي مخصوص لجلوس الولد عليه.. مع وضع مخدتين.. أو مسندين وراء ظهره.. ليكون المحفوظ مدلدل الساقين والرجلين.. متطرفاً.. جاهزاً للقطع.
رابعاً ـ إحاطة المحفوظ بثلاثة رجال أو أربعة من أقاربه لمسكه.. والتشبث به.. إبطالاً لأية حركة هرب أو عصعصة تبدر منه عندما يباشر أبو سداح عمله.
خامساً ـ مشاغلة الولد ممن حوله بالجمل المتوالية: طل فوق ـ شوف السقف ـ شايف؟ شايف الطير الأخضر؟ الله ـ الله. شوف.. ويعتبر مجرد رفع رأسي الولد للسقف إيذاناً مباشراً لقيام أبو سداح بقطع الغلفة.
سادساً ـ تحضير قطعة شاش بيضاء نظيفة.. وكذلك حفنة من الرماد المنقى الذي لا تخالطه بقايا الفحم.. مع قليل من الملح المطحون.. وذلك لوضع الغلفة بدمها وصرها ثم تعليقها برقبة الولد المطهر لتكون شاهداً يتباهى به كما يتباهى اليوم بعض غلمان الجيل الحاضر وشبابه بسلاسل الرقبة.
سابعاً ـ اختيار بعض السيدات المجيدات للغطرفة ـ واستعدادهن بإرسال الغطاريف المدوية المتتالية بمجرد تلقي الإشارة بانتهاء أبو سداح من شغله ـ إشعاراً عائلياً للأهل وللجيران وللحارة كلها بانتهاء المرام على خير ما يرام..
ثامناً ـ قيام أفراد العائلة والأقارب والجيران رجالاً فنساء بإعطاء المحفوظ المطهر من الفكة ـ الهلل والقروش.. ما تجود به نفس وقدرة كل منهم.. لقيام الولد بوضعها في كيس النقود المصنوع خصيصاً له ولها.. وذلك بقصد إلهائه عما قطع منه.
.. وقد تتغالى بعض العائلات فيقوم رجالها بإحضار بغلة أو حصان أو رهوان لإركاب الولد المطهر يحف به أترابه والأعزاء من أهله.. والتجول بالموكب في الأزقة والشوارع والبرحات.. مثل حفلة الاحتفاء بالصرافة.. وهناك ـ عدا ما ذكرنا ـ بعض الزيادات والحواشي والهوامش الإضافية مما تحول شواغل العصر الحاضر دون استحباب إيرادها والاستزادة منها.. علماً قبل وبعد ذلك بأن عادات الطهور بكافة وسائل إشهارها كانت متوارثة جيلاً بعد جيل. بحيث لا يمكن إجراء عملية الطهور ((سكيتي)) وذلك لئلا يتهم الولد من زملائه بأنه أغلف أو اقلف.
وكما تقول الصحافة اليوم.. وانطلاقاً من عملية ((الطهار)) ومتعلقاتها فقد كانت لشخصية المطهراتي قيمتها الكبيرة في المجتمع.. ومن هنا كان الجهل بأبو سداح غير وارد إطلاقاً.. يضاف إلى أسباب ترسيخ شهرة أبو سداح في جدة أنه كان حلاقاً. أي مزيناً.. كما تقول التسمية الأتيكيتية البلدية الحلوة.. المفروغ منه بديهياً وبدهياً كما يقول الأستاذ إياه.. إن اسم ((مزين)) آت من التزيين.. ويطلق لغوياً على الحلاق والحجام.. فحلق الرأس وتنظيفه وتنعيمه قلطاً بالموسى.. قديماً.. وتسوية شعره وقصه بالمكنة نمرة ثلاثة أو اثنين أو ((زيرو)) في بعض المواقع حديثاً وحالياً إنما هو لتشذيب وتهذيب وتزيين خلقة الإنسان.. والوجه والرأس عنوانها البارز..
ولعلّ من المناسب إيراده هنا أن بعض علية الناس من زبائن أبو سداح كانوا لا يخجلون من رفع الثياب وتقديم أباطهم في دكانه لإزالة شعر الباط حلقاً بالموس.. وكان.. حتى لا اتهم بالاختلاق.. على رأس المشجعين لهذه العادة الباطية الوجيه المرحوم الحاج الماس.. ولا داعي لذكر اللقب فما ذكر يكفي.. ولقد رآه كاتب هذه السطور مع رفيق صباه وحياته المرحوم الشيخ محمد سعيد العتيبي. وكانا آنذاك غلامين يتجولان في السوق الكبير خاصة للاطمئنان على انتهاء البدوية من بيع الدجاجة والديك اللذين سلماهما لها لضمها لبضاعتها المعروضة أمام مسجد عكاش من ناحيته الشمالية الشرقية وبيعها لحسابهما.. بقروش معدودات.
كما أن من المناسب كذلك الإشارة إلى أن عملية الحلاقة على عهد عميد الصنعة أبو سداح كانت عملية يقوم الموس فيها بالدور الأكبر.. فلقد كان عيباً.. بل ومحرماً اجتماعياً على الناس في المدن طبعاً.. تربية شعر الرأس.. وكذلك إبقاؤه لأكثر من أسبوعين ـ أي جمعتين.. تمهيداً لحلقه زلطاً قلطاً بالموس. حتى ترى الرأس ((تصاصي)) أي تلمع.. وحتى تصلح أن تكون فور الانتهاء من حلقها مرآة لمن يريد أن يرى فيها وجهه.. ولهذا أطلق على الرأس المحلوقة ((القنجة)).. كما خصص لها وبعد حلاقتها.. على سبيل المزاح.. كف يسمى ((كف الحلاقة)).. وهذا الكف الدعابي الأخوي عبارة عن تسقيطة حنونة على الرأس ببطن الراحة ولا يباح إلا للأصدقاء الخبثاء.. وأظن أني لست في حاجة للتبحر في شرح ((التسقيط)) الشعبي بأنواعه وبمدلولاته.. فهو معروف ومشهور إلى الحد الذي بلغت فيه كلمة ((التسقيط)) في بعض معانيها التدليل على بلاهة وغفلة من يستحقها ممن يعمل عملاً فاشلاً.. أو من يقول كلمة غبية.. أو من تجرد عن الفطنة.. وعلى ذلك فإننا نرجح أن ذلك رمز إلى أنه مراد العقل.. أو أجروده..
ولما ذكر في هذا الباب ـ باب التسقيط.. فإنا نحب أن نؤكد تهذيب أبو سداح.. وتعاليه عن المصطلحات السخيفة.. فإنه لم يعرف عنه طيلة اشتغاله بالصنعة أنه سقط في أي يوم من الأيام لأي زبون مهما كان شأنه.. مستهجناً دائماً العادة الدارجة والمتداولة بين الناس.. في بشكاتهم ـ وقيلاتهم ـ وسرحاتهم البحرية.. وذلك بقول بعضهم لبعض ـ حين يرتكب أحدهم عملاً أو قولاً يدل على بلاهة.. أو غباوة ـ أو فشر.. ((ها؟! إيش تشوف؟ تسقط لو أنت.. وإلا أقوم أنا.. أسقط لو؟)).
.. هذا.. ولما كان حلق شعر الرأس كله.. بل وتنعيمه وعدم بقاء أي أثر للشعر أو الزغب عليه أو حوله هو الأصل.. وهو دليل الذكورة والرجولة والشعبية الأصيلة فقد كان كل من يخرج على العرف من الأولاد ويربيه أو يحتفظ بجزء منه في واجهة الرأس مما كان يسمى ((شوشة)) متهماً في شعبيته وأنه أرستقراطي فيطلق عليه اسم ((أبو شوشة)) وربما ورد كبحث اجتماعي لقب بعض العائلات المدعوة بهذا اللقب إلى هذه التسمية القديمة.
وقد أطلق بعد التطور على من يحتفظ بشعر رأسه كاملاً.. مكتفياً بقصه من أطرافه وتزيينه اسم أبو ((توليت)) كما أطلق على شعر الرأس الكامل نفسه اسم ((التوليت)) أعزكم الله. علماً بأن التوليت هو الشكل الحاضر والسائد اليوم لكل من حمل راساً على كتفيه ذا شعر كامل.. وأعتقد أنه لم يبق إلا العدد القليل جداً جداً من المحافظين لليوم على الحلق القلط بالموس.. وهم بقية الناس البلدي جداً جداً ـ برضو ـ كأمثال الواد زنقر ـ واليابا الكركشان.
مما تقدم ذكره بسرعة ومما سيأتي على مهل. ندرك مدى قيمة وأهمية وسيطرة وشهرة ((أبو سداح)) وكما يسمى في الأدب من جمع بين الشعر والنثر بذي الصناعتين فكذلك كان أبو سداح صاحب صنعتين هما الطهور أي الختان ـ والتزيين ـ أي حلق شعر الرؤوس والأباط فهو مطهر ومزين بل إن أبو سداح ضرب عرض الحائط بالمثل القائل ((صاحب صنعتين كذاب))، حين أضاف صنعة التشريط بالموس في الخدين للتمشيل أو لفقع الحومة أو الدملة المستوية الناشفة بالموس.
ولقد أعجبني في هذا الباب.. وفي عدم سماح أبو سداح لأي من الناس بأن يستخف بالصنعة أو يستهين بأصحاب الأمواس الحادة قول بعض الظرفاء من أهالي النزلة اليمانية.. وكان يتعاطى الشعر بإيعاز من والد الأستاذ عبد الحميد مشخص خفية عن والديه وأهله.. مع إرسال بعض ضفائره على الكتفين كعادة الأعراب حينذاك ـ ومكايدة للحضر الذين لا يرأفون بشعر رؤوسهم ونثره في الهواء عندما يلعبون ((الرفيحة)) وهذا القول دون تحريف منا هو:
أتيت أبا سداح.. بالشعر مازحاً
لأمدحه مدح المحبين للفن ـ
فكتَّفَني بالحبل ـ حتى كأنني
لديه طلي ـ جاء للذبح.. يستنّي
وسن لي الموس الطويل.. مقشطاً
على الشعر.. بعد الشعر ..في الرأس _ في الذقن
وشرطني.. في الخد.. بالموس مرسلاً
دمائي على الخدين ـ من دونما دهن
وقال لي اذهب يا فتى ـ متعلماً
بان لنا قنا ـ يفوق على القن
فأقسمت.. أني لن أحوم بعدها ـ
بدرب أبي سداح ـ حرصاً على أمني!
وفعلاً.. هكذا كان أبو سداح في غيرته على التقاليد.. وحرصه على سمعة بلدته جدة.. وعدم السماح لغلمان الضواحي والبوادي بالاستخفاف بأهل الحواضر.. وكانت طريقته التقليدية في تأديب من ترمي به المقادير بين يديه ـ الموس ـ ولا شيء غير الموس.
وبعد ـ فقد كان أبو سداح يرحمه الله ـ صاحب دكان قريب من سوق الخاسكية.. على خطوات من بيت.. وقد تمسك منذ زواجه وإنجابه بالقاعدة الذهبية المتمثلة في مثلنا الشعبي الدارج.. صنعة أبوك لا يغلبوك. لهذا فقد لقن ابناءه الصنعة منذ أن نبت الشعر برؤوسهم فحلقه لهم بالموس.
كما كان من أشد المتعصبين لعدم تفتيح عيون الأبناء على ما يضرهم ـ فهو لا يسمح للصبي أن يتجاوز في تعليمه جزأي عم وتبارك ولا للبنت أن تتعدى شغل المنسج.. لزركشة المدورة أو تفصيل المحرمة.. أو تطريز عصابة الرأس المعروفة باسم ـ الشنبر.. وعلى من أراد معرفة المدورة والمحرمة والشنبر أن يعود إلى سته ـ أي جدته.. إذا كانت تعيش.. أو إلى أمه المسنة للوصف وللشرح ـ غير الحضرمي ـ شرح الله صدور الجميع للمعارف الشعبية.
ذلكم ـ باختصار مفيد أو غير مفيد ـ هو أبو سداح.. لقباً.. وحيثية وشهرة مستفيضة دامت قرابة قرن كامل.. أما أبو سداح في هيئته الجسدية بكامل أوصافها كما ورد في موشح كامل الأوصاف فقد كان طبقاً للمواصفات الاتية.
أ ـ من جهة لون البشرة.. فهو أسمر بلفظة مجازية مهذبة ـ أي أنه بالبلدي الفصيح ـ أسود غطيس.
ب ـ البنية.. كان صاحب بسطة في الجسم فهو في مقاس الجمل بمقاس بلدنا أو الفيل بمقاس البلاد التي يركب أهلوها الأفيال ـ مشقور العينين باستمرار خشية من أن تفوته شعرة في رأس الزبون من الكبار أو طرف جلدة من قلفة الأولاد الصغار.
ج ـ سيكولوجياً.. رجل خالٍ من العقد النفسية.. واللي في قلبو على لسانو.
حتى أن أصحاب الأسرار من زبائنه كانوا يتحاشون التفوه بها في حضرته رغم قيامه أثناء الحلاقة بجرجرة ألسنتهم كعادة الحلاقين من بعيد ـ لبعيد.
و ـ موديلياً.. حافظ على ارتداء الثوب دون حزام.. وذلك لبروز كرشه بروزاً غير عادي.. ولرغبته في أن يرى كرشه أمامه متقدماً الصفوف لدى الزحام إشهاراً لوجوده وكان يلازم ارتداء المداس أبو صباع يقلعه حين مباشرته الطهور في البيوت ـ ويستبدله بالقبقاب في الدكان استعداداً للوضوء وهو أول من أقدم على كشف رأسه أو قنجته الملساء حرصاً على الاعتزاز بحرفته.. وقد اغتاظ كثيراً في آخر أيام حياته من صديقنا الأخ عمر هزازي حين أقدم كأول شاب جداوي على تحدي العرف وعلى السير برأسه ذي التوليت المكشوف دون كوفية أو عمامة أو غترة وكان أبو سداح ذا أسنان ناصعة البياض حرص لأجلها على حمل المسواك ـ وتعليقه بأذنه كما كان المحاسبون والكتّاب يحملون مراسمهم وأقلامهم وقت اشتداد العمل ـ في أذانهم.
وكفاصل موسيقي ـ قبل أن تقدم الحلقة الأخيرة من سيرة أبو سداح يحسن أن نستمع إلى هذا المقطع الذي أملاه علينا بعض معارفه القدماء:
أبا سداح ـ يا غالي ـ
سننت الموس ـ في الحال ـ
لقطع جليدة الغلفه ـ
بلا جهد ـ بلا كلفه ـ
وحلق الباط ـ والراس ـ
من الطائع ـ للعاصي ـ
فلا زلنا ـ لدى الأفراح ـ
نناديكم أبا سداحْ ـ
ولا زلتم.. لدى جده ـ لفك الضيق ـ والشِّدَّه ـ بلا شرط.. ولا مُدَّه!!
.. أما هواياته ـ فقد كان أبو سداح مغرماً بالسمك.. محباً لأكل اللحوم بأنواعها وبالوانها.. شغوفاً بالضاني شغفه بالبقري وبالجملي ـ يموت في أكل الدجاج والبط والقطا في موسمه.. كما كان شديد العناية بتربية التيوس الصغيرة للتمتع بأكل التيس الذي لم يبلغ الحلم قبل أن يبعبع أو يلتحي.. أما مشوياً في الفرن.. أو معمولاً سلاتاً على الحجر.. وبجانبه ما تيسر على قوله ـ وحيث إنه لم يك محبذاً لأكل العيش الحاف فهو متيم بالغموس. أي غموس ـ وكان ينصح أهله بذلك حتى لو كان الغموس عسلاً وطحينة.
أما بالنسبة للمواصلات لا يطيق ركوب الحمير ـ مع أنها وسيلة المواصلات الأولى في عهده.. وربما عاد السبب في ذلك إلى أنها لا تطيق حمله إذ لا يوجد حمار يستطيع السير به دون انقطاع أنفاسه من الخطوات الأولى كما أنه لا يميل إلى ركوب البغلة أو الرهوان أو الأكديش.. كلا بعقلو يعيش ـ بل إنه كان يكره كل حيوان جسيم بما في ذلك الجمل.. أو جمال الراك على الأخص كراهيته للدكتور أو الطبيب ـ أي من كان يسميه الحكيم.. لمزاحمته له في الصنعة على آخر أيامه.. وبأسلوب الطهور. أي الختان ـ الحديث!
وبالنسبة لمفاخر أبو سداح.. فقد كان المرحوم يفاخر دائماً بأنه رغم بدانته الفائقة فإنه يستطيع مسابقة أي عداء يريد مسابقته في المشي أو في الجري على حد سواء.. ويرد السبب في احتفاظه بقوته البدنية الهائلة إلى ولعه بالمشي إلى البيوت للطهور على رجليه. وبالسير حافياً أحياناً على رأس المحتفلين بالولد المطهر.. علماً بأنه لم يكن هناك داعٍ لهذه القوة الهرقلية التي يعتز بها.. فإن بنية زبائنه للحلاقة لا تبررها. كما أن أجسام الأولاد الذين يقوم بتطهيرهم محدودة بل هم كالعصافير.. فقد كان الطهور بالمناسبة ـ للأولاد في سن تتراوح غالباً بين الثالثة والرابعة. ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا القليل.
وبالمناسبة ـ للمرة الثانية ـ فقد اتصل بي تلفونياً أثناء كتابتي حلقات ابو سداح الأستاذ محمد سعيد متبولي ـ أو مات ـ بولي كما يداعبه بعض خلصائه.. وذلك لتعليقه على حلقات بيبي زينب وعم سديق وإظهار إعجابه بالشعبيات.. وقد تطرق الحديث إلى أبو سداح وسواه فاجأني المذكور بمعلومات قيمة في تاريخنا الشعبي لا تتسنى في الحقيقة لمثل من هو في مثل سنه ـ كما يقول ـ وحتى لا أدخل معه في التسنين وتوابعه فقد قلت له صادقاً إن لبعض الأشخاص رغم سنهم لاقطة قوية.. فهم منذ أن يحبو الواحد منهم تاتي ـ تاتي ـ خطى العتبة ـ وبعد أن يقفوا على أقدامهم يعون تماماً كل ما يمر بهم أو يسمعونه.. وتقوم لاقطتهم القوية هذه بتسجيل وتحميض كل الأشرطة المرئية والمسموعة وحفظها في خزانة الذاكرة لحين اللازم.
وقبل أن ندخل في حديث الأستاذ المتبولي الخاص بالمناسبة لا بد أن ننوّه أنه عضو بالمجلس البلدي لمدينة جدة.. بل هو أقدم عضو عامل بالمجلس منذ أيام المرحومين الشيخ محمد صالح أبو زنادة ويوسف نصيف رغم أن سنه فوق سن أكبر أبنائهما بقليل.. وهو أنشط من عرفت في معرفة وملاحقة حاجيات البلد العامة.. لولا!! لولا أنه لم ينفذ حتى الآن اقتراحي القديم الخاص بترقيم الشوارع والبيوت عددياً وأبجدياً وحسبما ورد بإحدى قناديلي السابقة على أنه رئيس اللجنة الخاصة بمشروع الترقيم. حتى الآن.
شاهدنا من المناسبة.. أن الأستاذ المتبولي قال لي إن الشخص الوحيد من أبناء جدة الذكور طبعاً الذي جرت عملية طهوره وهو مراهق هو ابن القاضي.. أي المرحوم الشيخ عبد الوهاب قاضي الذي كان يقف على رأس أمنا حواء.. متنقلاً في مقبرتها بخرقته البيضاء من الرأس إلى الصرة الكائنة تحت القبة ـ ثم إلى قدميها. مستنزلاً عليها الدعوات قابضاً لحسابها ما تيسر من الفكة والريالات. حافظاً خريطة جسدها المسجى في مقبرتها ابتداء من الرأس الذي كان كائناً أمام الباب الجنوبي لمدخل المقبرة وانتهاء بقدميها اللذين كانا يقعان أمام الباب الشمالي. وكان ذلك كما لا أحتاج أن أقول. قبل صدور أمر الحكومة بهدم القبة.. والقضاء على البدع والشرك بإزالة البناء الخرافي الطويل جداً والمحدد لقامة أم الجميع. وبالأخص من أبنائها الزوّار القدماء لها من الحجاج ـ ومن الخواجات بما فيهم بحارة البواخر أيضاً فهي أُم الكل ـ على طريقة ست الكل.. وربما تعرضت لسيرتها الشعبية في يوم ما..
وتفصيل أمر ابن القاضي كما رواه الأستاذ المتبولي.. أن المرحوم الشيخ عبد الوهاب كان شديد التدليل لنجله فكلما هم بتطهيره بكى الولد ـ أو النجل ـ وبكى معه من بالدار فيضطر الوالد بدافع من الحنية والدلع إلى تأجيل الطهور حتى إذا كثرت معايرة أولاد الحارة للولد الشحط وزفهم إياه كلما رأوه بكلمة.. الأغلف ـ أو أبو غلفة.. جاكم.. جاكم.. أبو غلفة.. أذعن الوالد والولد لموس أبو سداح.. وكان طهور الشاب بمثابة معركة رهيبة دارت بينه وبين الرجال الأربعة الأشداء الذين كتفوه بسواعدهم بعد ربطه بالحبال ـ ولقد روينا هذه الحادثة وسجلناها نقلاً عن الأستاذ محمد سعيد مات ـ بولي لأجل العبرة والعظة. فكم يجني تدليل الآباء على الأبناء على قول أبو سداح يوم طهور هذا الشحط!!
وأخيراً ـ فمهما تحدثنا عن أبو سداح ـ وقد تحدثنا طويلاً عنه.. فإننا لن نفيه حقه وبالأخص نحن كهول وشيوخ اليوم إذ ندين له فعلاً بما فعله فينا ـ ونحمد الله إذ قام ورثته بإعدام ما كان موجوداً في ((الشكمجية)) التي كان يحتفظ المرحوم بها في دكانه والمحتوية على أنواع من الغلفات المستردة من العوائل بعد جفافها.. وانتهاء لازم تعليقها في رقاب الأبناء. حتى لا يسعى كل منا إلى استرداد وديعته. للذكرى.
أما سبب تسمية أبو سداح ((أبو سداح)) فيقال إنها نتيجة ((سدحه)) الدائم لكل من وقع بين يديه من الصغار لطهورهم ـ ومن الكبار لحلق رؤوسهم أو تشريطهم ـ أو حلق آباط البعض منهم.. وبرجوعنا للقاموس وجدنا أن الحق بجانب هؤلاء.. فكلمة أبو سداح للمبالغة عربية فصيحة.. إذ أن من معاني فعل ((سدح)) معنى بسطه.. على الأرض ـ أو طبعاً على كرسي الطهور أو كرسي الحلاقة.. فاشتغل فيه بنور الله دون قيامه بمناولة الزبون كف الحلاقة، أي التسقيط على الرأس ـ للتنعيم ـ اكتفاء منه ـ تأدباً ـ بقوله له.. نعيماً وبس.
.. لقد شافهنا الكثير ممن قابلونا.. على خلف الخاطر.. وجهاً لوجه بمناسبة وبدونها ـ وكذلك من كتبوا باسمنا على العنوان الآتي.. طريق الميناء ـ جريدة عكاظ الغراء.. الدور غير الأرضي.. وأيضاً من تلفنوا لنا على بيتنا الكائن قريباً من شارع الأحساء الطويل العريض والذي لم تتم سفلتته حتى الآن رغم ما قام به سعادة الأستاذ محمد سعيد فارسي من سفلته وحفحفة بعروس البحر ـ دهليز الحرمين ـ جدة ـ أم الرخا والشدة ـ ومشاريع بلدية عمرانية تذكر ـ وعلشانها يشكر.
وكل هؤلاء الذين شافهونا ـ وكتبوا إلينا.. وتلفنوا إلينا.. على لسان واحد ـ أو بريد مشترك ـ أو تلفون متداخل.. يطلبون منا بمحبة وإخلاص وحرارة أن نقوم بعد انتهاء سيرة أبو سداح ـ وقيامنا ((بتطهير)) اسمه مما علق به من شوائب.. أن نكرم ذكراه الثلاثينية والتي سيأتي موعدها بعد أيام بمقطوعة ((بموس)) شعري ناعم.
وحيث إن هذه الظاهرة الجميلة.. والبادرة الحسنة تدل من كل أولئك وهؤلاء على روح شعبية أصيلة لا تنسى لمن فعل بأجدادهم أو بآبائهم أو بهم شخصياً ما فعل.. وتستحق الاستجابة تزكية لها.. فإننا نبادر بإصدار هذا الملحق من الشعبيات.. وفيه ما يطلبه الأعزاء الغالين علينا ـ نزولاً على حكم المثل الشعبي القائل، غالي.. وطلب رخيص.. وإليكم التالي في التالي.
عليك.. أبا سداح ـ تشهق جدة
وتبكي.. إذا ما جاء ذكرك.. يا غالي
فما زلت في كل البيوت. لأهلها
لأولادها.. عند الطهار على البال
لقد كنت سديداً كريماً بفنه
وبالموس شغالاً براحة شغال
طهوراً وتشريطاً.. وحلقاً لقنجة
تضيء.. كما ضاءت مراية خالي
فيا طالما نظفت باطاً لراجل فقال الذي من بعدو: يا رب عقبى لي!!
رحلت.. ولم تترك وراءك أغلفا
لدينا.. وهذا فعل أطلق رجال
وعشت.. بك البزرا.. تقول لأمها
إذا فجعتها.. سوف أرقد في الحال
هنيئاً لك التيس الصغير شويته
لدى الفرن.. أو طقطقت منه بأوصال
إليك أبا سداح أنهي عريضتي
فإن قلت. قدمها أتيتك.. طوالي!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2385  التعليقات :2
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 50 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.