شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الخِرِنْتَا..
إذا كنت من روّاد شارع الحمراء في بيروت.. أو الشانزليزيه في باريس.. أو بيكاديللي استريت أو اسكوير في لندن.. أو حيث يوجد اليهود في أي حي من أحياء واشنطون ونيويورك.. وكل مدن أوروبا.. وآسيا.. أو من غير تطويل عليك وعلينا.. إذا كنت في أي شارع منزوٍ أو مزدحم بالمارة وبالناس من كل المدن في كل صقع من أصقاع الدنيا.. فإنك حتماً ستجد هذا الصنف من الغلمان.. أو من الشباب.. ((المستنبت)) على حد تعبيرنا البلدي.. أو المتخنث بالفصحى.. أو الهيبز بالعالمية.. أو الخنفوسي بالتعبير اللبناني الحديث!!
ويعود السبب حالياً وأخيراً في انتشار هذا الوباء الآدمي.. وبهذه الكثرة الزائدة إلى موجة الجنس الداعرة والعارمة.. وإلى تهاون المبالغين من الحكومات والحاكمين في الحرية.. الحرية الفوضوية والتي أوجدت أخيراً جداً.. طبقة ـ أو طبعة حديثة من هذا الصنف الذي قرأنا عنه منذ أيام ـ حيث قام العراة البلبوصون زي ما خلقهم ربهم بغزو الأسواق والمعارض والأماكن العامة.. كمتحررين جدد من آدميتهم القديمة!!
وهذا الوباء الآدمي.. أو هذا الصنف الجديد الذي يمثل آخر صرخة جنسية عارية قد غطى على بقية الأصناف التقليدية نقروءه على الأصح.. إن للعراة أنديتهم الخاصة في بعض أنحاء العالم وإن كلاً منهم.. مع ذلك للإنصاف.. يعتبر عرياناً يقابل عرياناً مثله.. والعريان في القافلة .. أمين!!
وعلى كل حال.. فإن بحتنا الشعبي هذا مخصص لغير ما ذكر.. ولكن الاستطراد اقتضانا هذه الإشارة المقرفة إلى من أعادوا لنا سيرة إنسان الغابة.. أو الإنسان الأول الذي لم يبلغ مع ذلك هذا الحد من الاستهتار.. فقد احتفظ بورقة التين.. الورقة التي أصبحت مصدر استرزاق وإثارة في المسارح العالمية باسم ((الاستربتيز)) والتي ربما سقطت هي أيضاً في بعض برامج.. أو نمر تلك المسارح.. وعلى قول المرحوم الشيخ ضياء الدين رجب.. يا خفي الألطاف.. نجنا مما نخاف.
ويقيناً يا ولدي.. على قول صاحبنا إياه.. فإن وراء هذا التهتك المتنوع أياً كان شكله.. وأيا كانت موديلاته الجديدة.. وراءه الأصابع الصهيونية اليهودية التي تحرك هذه القطعان الآدمية كما تحرك أصابع المختصين.. بمسارح العرائس ـ دمى العرائس ـ وذلك تطبيقاً وتنفيذاً لما نصت عليه قواعد حكماء صهيون كقوانين ومقررات لا بد من تطبيقها عالمياً.. بنداً وراء بند!!
وقبل أن نواصل تفلية هذه النقطة.. وقبل أن نعود لنتابع بحثنا البلدي.. وسرد شخصيتنا الشعبية به ـ أرى أن نقف للاستراحة ـ ولتفريغ سمنا.. عند هذا المقطع الذي سجله لنا ولكم أخونا.. وأخوكم في الله بمناسبة الحديث العرياني.. عن هذا الصنف الجديد من التعساء المنحلين والعرايا الزلط.. يغشون الشوارع والأسواق:
يا من خرجت علينا اليوم.. بلبوصا
فكنت عند جميع الناس.. خلبوصا
من كل مفعوصة في الكون قد ركضت
تطارد اليوم في الأسواق مفعوصا
ماذا تركت.. كإنسان نكرمه
لدى البهيمة.. مرذولاً ومنقوصا
أما سمعت بأمثال لنا سلفت
ونحن أصحابها: ذكراً.. ومنصوصا
لبس لنا البوصة الجرداء عارية
تبقى عروصاً!! بشعر لاح مقصوصا
يا واد!! يا بنت!! يا من حق مثلكمو
الضرب بالنعل.. بالكرباج معقوصا
اقلب عن العين وجهاً منك صار قفا
لا فرق بينهما.. زلطاً كما البوصا
اخص عليك!! واتفوه كمان!! كدا؟؟ أزريت بالأدميِّ الذي: قد عاش مجعوصا
.. هذا وبالنسبة للخرنتات الجدد.. فإنه يقينا أيضاً يا ولدي أنه لم يبق في العالم بعد هذا الشيء شيء.. إلا.. والعياذ بالله.. ممارسة الجنس علناً.. أو كشكرا خبر ـ تحت أنف وعين وأذن القانون في الشوارع والأسواق والمعارض والأماكن العامة وكل مكان.. بعد السماح بممارسته في الأزقة المنزوية ـ وداخل السيارات أو تحتها أو في حفلات الجنس الخاصة للفرجة عليه بفلوس ـ أو في الحدائق العامة المماثلة كحديقة هايدبارك بلندن ـ وغابة بولونيا في باريس ـ وسواهما للفرجة عليه ـ بدون فلوس!!
ولقد أتى ذلك كله أو بعضه على البقية الباقية من تاريخ الآدمية المتقشمطة باللباس لستر العورة وللتزين. بحيث أصبح العصر اليوم معكوساً.. فإذا كان المتبع بالأمس أن يذهب المتحضرون في العالمين الأوروبي والأميركي لرؤية المتخلف العاري في أفريقيا وآسيا للفرجة عليه يسعى كما ولدته أمه.. فقد أصبح وسيصبح المتبع اليوم أن يذهب المتخلفون بأفريقيا وبآسيا ليتفرجوا مجاناً على هؤلاء المتحضرين.. البلابيص.. العريانين.
ومع ترديدنا معكم جميعاً.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. وكذلك اللَّهم آمنا في أوطاننا. ويا خفي الألطاف منذ اليوم وحتى ما شاء الله ـ أو إلى أن يعود هؤلاء المنحلون الملحوسون إلى صوابهم ـ أو تعيده إليهم حكوماتهم بقوانين جديدة صارمة.. فإننا سنعود حالاً إلى الوراء.. للخرنتا.. موضوعنا الأساسي ـ إلى سيرته الشعبية.. مع قليل من طراطيش الكلام المتصل بالتاريخ والأدب والاجتماع.
وفي علمنا التاريخي ـ والاجتماعي ـ والأدبي ـ فإنه لم يخل أي عصر من العصور من هذا الصنف.. النص نص.. من الناس.. على اختلاف في اليثية ـ وفي الزي.. وفي الشكل العام ـ حيث كان هذا الطراز متوفراً ومعروفاً من قديم الزمان وسالف العصر والأوان سواء لدى الإقريق.. أو الرومان.. أو بقية الامبراطوريات الزائلة في كل الأصقاع.. ومن كل الأجناس..
ونحن نتذكر ـ مع الأسف الشديد ـ ما سبق أن أمر به الخليفة واليه في المدينة لإحصاء المخنثين بها ونفيهم.. وحيث لعب الخيال دوره فيما ترتب على اخصائهم بدل إحصائهم.. كما أن من معلوماتنا البيولوجية ـ أي العضوية ـ أن الأصل في وجود هذا الصنف في المجتمعات هو وجوده الطبيعي في أول الأمر خلقة ربه باسم ((الخنثى)).. البحت أو الخنثى المشكل.. يجمع بين عضوي الذكورة والأنوثة معاً.. ويتمتع بحق الجنسين من ناحية النظرة إليه.. وللشرع الشريف في الخنثى أحكامه المعروفة وليس هذا الآن من اختصاصنا.. أو من اختصاص ركننا هذا بطبيعة الحال..
والأسئلة الأتوماتيكية المترتبة على التحاميل الموسيقية السالفة هي: هل توجد لدينا شخصيات شعبية من هذا الطراز؟؟
والأجوبة الفورية لهذه الأسئلة.. ودون رتوش.. نعم.. أيوه.. طبعاً.. ما في شك!! ولكن متى كان ذلك؟ وهل انقرض الخرنتا.. أم لا يزال باقياً سواء في الأقبية.. أو على السطح؟
وبدون محاباة.. ومن غير مداهنة.. وبلا رياء فإن أسلوب حكومتنا الحاسم الرادع أقصى دون هوادة أو تريث أو تهاون هذا الصنف الممرقع من الناس.. وحمى المجتمع السعودي من وجوده كجماعة ـ أو كطبقة متميزة تتمتع بوجودها مثل الطبقات أو الطبقة الموجودة في العالم والمتميزة بزيها وشكلها وسلوكها العام بما في ذلك الأقطار العربية للأسف الشديد ـ وعلى نحو من الأنحاء..
أما منذ أكثر من نصف قرن.. وعلى عهد حداثتنا.. فقد كان المثال على الصنف الأصلي ماركة ((خلقة ربه)) بيولوجياً موجوداً ومعروفاً باسم ((بنات الشيخ)).. كما كانت للنوع ((المستنبت)) من الأولاد والشبان عينات معروضة ومعروفة ـ والمستنبت معناها كما لا أحتاج أن أفسر الولد اللي عامل زي البنت.. ولأجل التشهير بالمستبنتين من الشبان والغلمان كان الشعبيون لدينا يطلقون على الواحد منهم اسم.. الخرنتا.. وهي لخبطة ظريفة محبوبة ومعقولة لكلمة أو اسم الخنتى.. ويعتبر تحريف هذه اللفظة وشقلبتها في مقام التجريح والتشنيع على هذا الصنف.. عنواناً على يقظة ورجولة روادنا الشعبيون وعلى رأسهم المطاليق والمشاكلة من أصحاب الحزم المشدودة على الوسط.. والعمم المطنقرة على الرؤوس والتي بلغ من اعتزازهم بها أن أطلقوا المثل المشهور عليها.. فقالوا..
قطع الروص.. ولا هد العمايم!!
.. وبعد ذلك فإذا نحن استثنينا في جدة أمثال الواد.. هويها.. بتشديد الواو المكسورة وكذلك الواد سلمان أبو داك الكلام.. وسكاكر.. والمشخلع.. وسواهم من المولعين بمحاكاة البنات والستات في المشية ـ والهرجة ـ والكحلة ـ والحركات ـ ومضغ اللبانة ـ فإنه لن يبقى لدينا كمثال كامل الأوصاف على هذه الأصناف إلا ـ الخرنتا ـ الشخصية الشعبية التي عاشت قبل نصف قرن من الزمان وطغت شهرتها على من عداها.. من الخرنتات.
لقد كانت عائلة الخرنتا هذا ـ والخرنتا بالطبع اسم الشهرة له ـ تسكن في محلة الشام من جهة سوق الندا الشمالية الغربية بقرب الخرابة المشهورة بوجود الغسالين من بنات الشيخ فيها.. وكان اسمه الأصلي ـ كما ذكر لي ذلك الفتيني ـ يحيي ولا داعي للرسم الثلاثي.. وهي عائلة مستورة يشتغل ربها مساعداً لمن كان يقوم بخياطة قنع الستات الأسطمبوللي والجاوي ـ ويسمونه ((الحضا)) بتشديد الضاد المفتوحة.. والحضا هو الرجل الذي يتولى لقف ودرز وتهيئة القنع حسب المقاسات وكان يستعمل الإبرة والخيط والنسج البسيط لها في دكانه وبواسطة بعض السيدات اللواتي يعملن في بيوتهن بالأجرة لحسابه.
وقد نشأ الخرنتا نشأة طبيعية تدل على نوعيته الذكورية فعلاً ومظهراً وأداء في جميع التصرفات والحركات.. ولكن بعد أن فقشه في رأسه أحد زملائه خافت عليه أمه من الاختلاط بالأولاد في البرحة والأزقة واللعب معهم وما يترتب على ذلك من احتمال وتعرضه لفقشة أخرى أو لما هو أكبر من ذلك.. فمنعته بعد الرجوع من الكتاب أو من دكان ((الحضا)) حيث يعمل أبوه.. منعته من الخروج من البيت ليبقى ملازماً له مع أخواته البنات.. فنشأ عن بقائه الدائم في البيت وعن عدم سماعه أصوات الأولاد الذكور. وعن اختلاطه المستمر بأخواته البنات ـ وعن حضوره المستمر لجلسة الستات العائلية من الزائرات لوالدته ـ أو من كن يستقبلنها في دورهن هي وبناتها ـ وولدها الخرنتا ـ حين تقوم برد الزيارة لهن ـ نشأ عن كل ذلك أن ((أستبنت)) الولد بحكم عدم اختلاطه بالأولاد زملائه وأنداده ـ واختلاطه غير المنقطع بأخواته البنات ورفيقاتهن وبوفيان والدته من الستات!!
بهذا الاحتجاز البيتي.. وبسبب حادثة معينة كما يؤكد المطلعون على ما وراء البرفانات اليومية استحال يحي أو الخرنتا دفعة واحدة إلى ذلك الصنف ال ((بين.. بين)) في زيه.. وفي شكله.. وفي كلامه.. وفي حركاته.. وإن لم يكن متهماً في سلوكه الفعلي أو اليومي بالشيء القبيح.. وعلى ذلك.. وكموعظة على الماشي.. فلتتق الله أمهات اليوم في أولادهن الذكور.. ولتعط لهم الفرصة للاجتماع الدائم وللاحتكاك بالأولاد زملائهم مهما كان الأمر.. وحتى لا يترتب عن منعهم لمخالطة صنفهم أن ينتقل أولادهم من صنف ـ إلى صنف!!
وعندما كبر الشاب يحيى ـ أو الخرنتا ـ كان أول مظهر في زيه.. عدا استنباته في كل شيء ـ إنه لم يستعمل الحزام قط.. وكان شد الحزام في وسط الشاب أو الرجل مظهراً بارزاً على رجولة الرجل الشعبي الأصيل.. حيث يعتبر كل من لم يلبس الحزام في ذلك الوقت من أولاد ((الخرقة)) وأولاد الخرقة هم المدللون المنتسبون لطبقة الأفندية التي تتميز بأصلها التركي والأرناؤوطي وتتمتع بالعطف العثمنللي.. وبرعاية الحاكمين من الولاة والمتنفذين في الدوائر الرسمية ابتداء من الباشا والبيك والأفندي والجندرمة الرسميين وانتهاء بالمتتركين من أهل البلد حيث لا يبقى بعد ذلك إلا افراد الشعب البلديين ـ أو الباش بظك.. أصحاب العمائم على الرؤوس ـ والأحزمة في الأوساط الجسدية ـ لا الطبقية!!
وبموجب ذلك فقد كان الحزام هو العلامة الفارقة بين الرجل والرجل ـ وولد الخرقة ـ والحزام كما هو معروف.. ومعظمه من نوع البقش الكشميري.. مخصص لربطه في الوسط ومؤلف من عدة طيات.. وينتهي في دورانه حول الوسط من الجهة الأمامية بعقدة أو عقدتين ونصف العقدة على هيئة ((الفيونكا)) برأس البنات الصغيرات أو على علب الحلاوة المودرن ـ وكذلك علب المداليات الصغيرة. كما أن الحزام بأنواعه هو العلاج الواقي.. والشافي بإذن الله من مرض الدسك.. أو الغضروف الشائع!!
وقبل أن أدخل في تصنيف الحزام وأهميته المحلية والعالمية.. وقبل متابعة سيرة يحيى أو الخرنتا.. لا بد أن استشهد على ما ذكرت ببعض الأبيات التي راودتني عن نفسها.. الآن:
رج..الحزام بوسطه.. ومشى به
يختال..كالطاووس بين رفاقه
رجل..إذا شافته.. في حاراتها
أولاد خرقتنا.. سعت لعناقه
لتقول: عاشت للمعلم عنتر
عبلاته.. بزقاقنا.. وزقاقه
إن الحزام بوسطنا.. متخلخلا
للدسك.. للغضروف.. بعض وثاقه!!
هذا.. وتفيد بعض الأوساط العلمية المجربة والدارسة لمحاسن الأزياء ومنافعها أن الحزام في الأصل إنما وجد لغير الزينة وحدها.. فهو يشد وسط الإنسان بحيث يقتضي التحزم به نصب القامة بدل هزهزتها وخلخلتها من النص.. كما أنه يمنع فتق السرة عند حمل أي شيء ثقيل.. وكذلك يحول دون اندلاق الكرش وفرفطته!
والحزام في نشوئه.. وارتقائه وتطوره على مدى التاريخ على عدة أشكال وأنماط.. فهناك مثلاً.. حزام الكرادلة والأساقفة.. ورجال الدين بأجناسهم يتمنطقون به فوق القباء.. أي القنباز.. أو الشاية.. أو الفراجية لانسجامها.. وعدم تعرضها لمفعول الهواء الشديد يتلاعب بها كما يشاء له تياره.. وهناك حزام النفساء تشد به بطنها عقب الولادة.. والحزام المصنوع من الشيلان الخفيفة.. والمصنوع من البقش الكشميري.. ولا يدخل في أنواع الأحزمة هذه حزام العفة الصليبي المشهور فإن له موضعاً آخر.. وسبباً مختلفاً كما هو معلوم.
ولقد تطور الحزام من القماش إلى الجلد.. ومن أنواعه الجلدية.. الكمر.. وله جيوب خاصة بوضع النقود وسواها فيه.. كما أن من أنواعه.. السير.. وهو بعكس الكمر رفيع جداً ويختص بالبنطلونات.. وقد يربط به الحجاج الإزار لحفظه من الانفلات أو السقوط..
كما أن من متفرعات الحزام في بلادنا.. النسعة.. وهي خاصة بالبدو والأعراب بصورة عامة في البوادي.. وتتكون النسعة غالباً من عدة حبال جلدية تكون وحدة وسطية ويربطها رأس واحد.. وتتيح بوضعها هذا إمكانية عمل عب من الثوب لحفظ بعض الحاجات الشخصية الخفيفة شأنها في ذلك شأن الحزام في تيسيره وجود الأعباب.
ولا مؤاخذة في هذا الاستطراد الطويل عن الحزام.. فإن عذرنا في ذلك أن كل ما سلف عن الحزام إنما ننصب على مسامع يحيى.. أو الخرنتا لترغيبه في لم وسطه الذي كان بهزهزته وترقيص جسده سبباً في إثارة مشاهديه.. وبالأخص جلساء المراكيز بالقهاوي المجاورة لبيتهم في سوق الندا بالذات.. وفي حارة الشام كلها بوجه عام.
ويقول الفتيني أن حشداً من سكان المحلة أصروا ذات مرة على والد الخرنتا أن يلزمه إلزاماً فعلياً.. خشية من الفتنة.. وخوفاً من تقليد أولادهم لولده بالتقيد بالآتي:
أ ـ أولاً: وقبل كل شيء استعمال الخرنتا للحزام. ولبسه حين خروجه إلى الشارع.
ب ـ عدم قيامه بمضغ اللبانة وطرطقتها بين أسنانه.. بصوت مسموع.
ج ـ امتناعه عن رج الكحلة بعينيه.. وامتداد خطوطها من الرموش.. ومجرى الدمع من العين إلى طرف الأصداغ.
و ـ عدم استعماله إطلاقاً للشباشب النسائية.. أو للتاسومة.. أو للصندل.. أو للجزمة ذات الكعب العالي.. ومبادرته حالاً بلبس المداس سواء كان من نوع ((أبو خرزين)) أو المدني ذي الأصبع الواحد.. أو الواحدة.. والذي يقال إنه منسوب لذي الأصابع العدواني.
هـ ـ في حال تعذر استعماله لما سلف.
من أنواع المدس.. أو المداعس المنوه عنها أعلاه يحسن أن يمشي حافياً مثل بقية أولادنا.. غير ملق بالاً إلى المثل القائل.. إن شفت الحافي.. قول يا كافي!!
و ـ منع الولد يحيى.. أو الخرنتا.. من تزيين راحتيه.. وكفي رجليه بالحناء.. وكذلك عدم استعمال العفص لأظافر يديه.. فقد سمعنا من الخوجاية مرة الخواجة إيكيليا أن الإفرنجيات يسمون هذا النوع المناكير وأنه أحمر اللون فاقع الحمرة لديهم.
ز ـ قيامه برج العمة فوق الكوفية الجاوية المنشَّاة.. وله الحرية المطلقة في أن يجعل لها عدبتين.. أو عدبة واحدة.. مع إخراج طنف بارز لها من إحدى الجهتين.. دليلاً على المشكلة وذلك بدلاً من وضعه الشال الخفيف الشبيه بالمدورة على رأسه ولفها حول رقبته. واتخاذ جزء منها ساتراً للأطراف التحتية من وجهه فتبدو وكأنها لثام.
ح ـ أن يجعل كلامه حين يتكلم نبراً وبصوت عال وخشن.. وأن يستعمل ألفاظ وجمل وتعابير الرجال.. وبدلاً من افتعال الرقة في صوته.. وتنعيم الكلام.. ومواظبته على الألفاظ النسائية.. مثل وه يخويا.. ويقطعني.. واخص عليك يا أنت!!
ولا نرى داعياً لاستقصاء جميع ما ورد في مطالب سكان المحلة من الخرنتا قيامه به.. ولا ذكر بقية البنود التي لا يحسن ذكرها.. كما أننا لا حاجة بنا إلى القول برفض هذه المطالب من والد الخرنتا باسم ابنه.. وكذلك تأييد شيخ حارة الشام المرحوم الشيخ باخريبة الكبير.. والد العمدة الشيخ محمد باخريبة الخراط.. والذي تولى مشيخة الحارة أو العمودية ـ بعد انتقال الشيخ سالم حماد إلى رحمة الله ـ تأييداً مطلقاً للوالد والولد في وجاهة رفضهما لتلك المطالب. وذلك أولاً للحفاظ على الحرية الشخصية ما دامت لا تسبب ضرراً ملحوظاً للغير.. أو تعدياً مباشراً عليه.. وثانياً مراعاة لخاطر بنات الشيخ وتثبيتاً لحقوقهم.. أو لحقوقهن.. وحتى لا تسري المطالبة بأي شيء من ذلك عليهم ـ أو عليهن.. في المستقبل القريب أو البعيد.
وبمناسبة ذكر.. بنات الشيخ.. فقد ذكرني الأستاذ أبو فوزي عبد المجيد شبكشي رئيس تحرير جريدة البلاد ببنت الشيخ الذي كان يسكن بجوار بيت نصيف.. ويتصف بأكثر مما يتصف به الواد يحيى الشهير باسم الخرنتا.. حيث كان يقوم بالرقص في حفلات الزار.. التي أنهت وجودها حكومتنا الرشيدة بحزم.. وبقوة.
كما كان صورة طبق الأصل من آية بنت عادية في معظم الأشياء. وقد أيد أبا فوزي فيما ذكر أخونا الشيخ عمر عبد ربه وسرد لي طرفاً من قصص بنت الشيخ هذا.. أو هذه.. ولطول البحث في سيرة هذا الصنف من الناس فربما أفردنا له سيرة خاصة.. مكتفين الآن بمتابعة سيرة يحيى.. الشهير بالخرنتا..
وفي ذات صباح ـ أو في ذات مساء.. فقد اختلف الرواة في تحديد الوقت ولم يتفقوا عليه.. قامت والدة الشب يحيى الشهير باسم ((الخرنتا)) واسمها الست ((مشتهى)) بضم الميم وسكون الشين وفتح الهاء المقصورة الألف بعدها.. قامت بمفاتحة والده العم شاكر والشهير في الحارة باسم ((كرنكش)) في أمر تزويج ابنهما يحيى المعروف باسم الخرنتا من حفصة أحدث بنات الجيران اللواتي يترددن على بيت العم كرنكش وحرمه الست مشتهى.. والتي تعرف كثيراً من عادات وطبائع ابنهما المحفوظ يحيى.. أي الخرنتا.. بحكم مخالطتها السابقة.. قبل أن تحتجب.. والدائمة له قد دار الحوار بين والدة الخرنتا ووالده طبقاً لأصح الأقوال.. وحسب الرواية التي اصطفيتها بعد أن استقيتها من فم المرحوم العم الشيخ محمد باخريبه الخراط وعمدة محلة الشام نقلاً عن والده.
الست مشتهى: ـ أنا أشوف.. يهوه.. إننا خلاص لازم نجوز ولدنا يحيى..
العم كرنكش: ـ هو أنت كلمتيه في الموضوع.. والا لسا؟
الست مشتهى: أقول لك الحق أنا أتكلمت معاه.. بس يعيني الولد ما جبتلو سيرة الجواز.. إلا وراحت دمعتو تنزل على خدو.. ومن ساعتها هو مش راضي يحط شيء من الأكل في جوفو.. بتفتكر يعني دا من الفرحة.. ((ألا يعني من شيء تاني))؟..
كرنكش: آه!! آه!! إيش راح أقولك!! دا من شيء تاني!! خليها على الله وبس!!
مشتهى: تكون البنت مهي عاجباه؟.. اكمنها زي اختو يعني من طول ما عاشوا سوا مع بعض؟
كرنكش: ـ على كل حال هي البنت مسترجلة كتير.. وعلى شان كدا الناس بيسموها حفصة ولد..
مشتهى مقاطعة: ـ على كل حال.. مهو برضو وزي منت عارف عامل زي البنات والناس بيسموه الخرنتا.. فدي تسد دي!!
كرنكش: مدام جبتيها بنفسك ـ وقلتيها بعضمة لسانك.. فأنا ما عندي مانع.. بس يكون الولد يبقى يتجوز ـ وما عندو أي مانع!!
مشتهى: اتوكلنا على الله. وإن شاء الله ما يسير إلا الخير!!
ويتابع المرحوم الشيخ محمد باخريبه روايته.. فيقول ومن تلك الليلة ابتدأت الخطاريف بعد أن تمت الخطوبة.. ثم الملكة.. بس أنا لاحظت أن الواد الخرنتا من ساعتها وهو آخذ في النازل.. وباين عليه الزعل والهم.. وعشان ما أطول عليه..بعدما سارت الدخلة ليلة ـ لا ـ لا ـ والله بليلتين ولا أصحى لك إلا الزاعق اللي جاني في القهوة وقال لي الحق يا الشيخ الواد يحيى ـ الخرنتا يعني.. طاح من السطوح.. ونزل ما فعينو.. ولا قطره.. الله يرحمو.. مسكين!! ويعقب المرحوم الشيخ باخريبة أخيراً بقوله.. على كل حال الكلام اللي انقال كتير.. وربك سمي الستار.. وعلمي وسلامتك.. وقد أجبته طبعاً وبدون تردد بقولي.. ومين قال.. سالم.
وهكذا.. في ساعات وبين معالم الفرح والزينة.. أو بعد ليلة الدخلة انقلب العرس إلى مأتم.. وانتهت بذلك حياة شخصية شعبية تمتعت في جده بقسط كبير من الشهرة.. وبقيت أعواماً على المسرح الاجتماعي تمثل دور.. الخرنتا.. بكل معالمه وخصائصه..
ذلكم هو الواد.. ثم الشاب يحيى المشهور باسم.. الخرنتا.. بجميع حيثياته.. أما سبب التسمية فقد سبق إيضاحه بتفصيل.. ومنذ اشتهار المذكور باسمه هذا.. وحتى ما بعد وفاته أصبحت لفظة ((الخرنتا)) ولذلك وهي كلمة كما لا أحتاج أن أقول يتبرر منها كل الأولاد والشباب حتى أولئك الذين تتوفر فيهم بعض الجوانب من ملامح المرحوم يحيى المشهور باسم ((الخرنتا)) ولذلك حين عثرت على المقطوعة الشعرية التالية لدى الراوية لسيرة عنتر وأبي زيد الهلالي وببيرس في المقهى المجاور لعائلة الخرنتا.. وهو عم سليمان الأخضري استحلفني بالله ألا أنسبها إليه.. إلا بعد وفاته.. حيث قد أخذ الله وداعته من سنوات قلائل فإنني لا أجد ما يمنع من نشرها الآت يقول الأخضري:
حرام علي عيني عزيز منامها
وإن كنت في القهوا.. إلى الصبح. اسهر
أحكي الحكاوي للعيال بحقها
وأشهر أبطال الحكايات.. عنتر
فقد سقط الواد الخرنتا مدردباً
من السطح والأقوال تروى.. وتكتر
فيا ليتهم ما زوجوه بحفصة
وخلوه.. زي ما كان.. واللَّه يستر
فيا طالما أبصرته.. وهو داخل
إلى البيت.. أو كما من البيت.. يندر
وكحلته ملو العيون.. ويده
تزهر بالحناء.. واللون أحمر..
وهيئته مثل البنات بكل ما
يلوح على كل البنات.. ويظهر!!
فقل لبنات الشيخ: مات شبيهكم
وقل للذي قللي: بماذا تفكر؟
لقد قفل الباب الخرنتا بموته
فأصبح هذا الصنف في الناس يندر..
إلى حيث القت.. لا.. تغشته رمحة
.. كما قال عنه.. للتوّاب كشمبر!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1550  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 49 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.