شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حَبَمْبَا..
تلقيت خلال الأسبوع الماضي بعض المكالمات وبعض الرسائل من المطرين المادحين ـ جزاهم الله خيراً.. للشعبيات التي يقول أحدهم عنها أنه مواظب يومياً على قراءتها من أول حرف نثري حتى آخر شطر شعري.. فشكراً جزيلاً لهم على إطرائهم ومدحهم اللذين يدخلان في حدود القاعدة الذهبية التي قننها صديق الكل سيادة الأستاذ السيد علي حافظ في عجز بيته القائل ((لكنما القصد تنشيط الجماهير)).
ولقد كان في طليعة هؤلاء الكاتبين إلينا عن الشعبيات سيادة الأخ الأستاذ محمد علي خزندار أحد كبار موظفي وزارة المالية العبدلله السليمانية السابقين والمتقاعدين ووالد العزيز عليه وعلينا الأستاذ حسن خزندار مدير إذاعة جدة. وفي ما عدا ما يراه ويطلبه سيادته من الكتابة عن العادات والتقاليد والأساطير الشعبية فإنه يتلاقى مع الآخرين في طلبه وطلبهم الكتابة عن حبمبا!!
ولعلّه من المصادفات العجيبة والمؤكدة لتوارد الخواطر أنني كنت قبل ورود هذه الرسالة قد انتهيت تقريباً من تحرير سيرة الآنسة ((حبمبا)). وأعجب من ذلك كله.. بزمان.. كما يقولون.. وهذا لا يحصل إلا بنسبة 5% على أكبر نسبة مئوية تقديرية إنني قابلت أثناء هذه الرسائل والمكالمات العم.. أبو راصين.. كما كنا نسميه.
والعم.. أبو راصين أحد الشخصيات الشعبية الظريفة جداً.. وقد أخذني حين قابلني.. أكرمه الله.. بالأحضان حضناً وراء حضن وبالسلام ((عُرْبَه)) فماً لفم ودقناً لدقن.. وشنباً لشنب.. وبوسه ورا بوسه.. وسلمه قفا سلمه.. والله زي ما باقول لك كدا.. وعندما قبلني أو حضنني على الأصح تشهدت في سري ثلاثاً لأن المذكور قد أزعجني بصورة عنيفة.. فإن هذه المقابلة والحفاوة رغم حرارة اللقاء فيها وشرح كثرة الأشواق كانت مصدر عذاب مرير لمن كان في مثل سني وسن العم أبو راصين إذ إن للمذكور شنباً تشبه شعراته رؤوس الدبابيس ـ في حين أنني بسبب أكوم الذي استلبشني أعيش في حكم الجرود من ناحيتي الذقن والشارب على السواء.
ولا أطيل عليكم أكثر مما أطلت.. فبعد أن أخذ العم أبو راصين.. بعد أن أخذ غائلته مني راح يكيل الثناء على واجبنا الذي قمنا به نحو الأحبة من شخصياتنا الشعبية عموماً.. وبالذات نحو الجنس اللطيف مثيلات السيدات العزيزات بسباسه.. وبيبي زينب وظريفة.. وختم حديثه لي بقوله.. والله يا سيدي أحمد ما دام أننا جبنا سيرة العتات الشعبيات.. فترى لم ممكن أبداً.. أبداً أنك تنسى المظمظيل ((حبمبا)) خصوصاً وأنها ما كانت تعرف لها أباً ولا أماً.. وأنها كمان عاشت زي الكادي ما يادي.. فايش قلت؟ توعدني؟ كلام رجال؟ تكتب عنها؟ انتهى كلام العم أبو راسين!!
.. وهنا لم أتمالك نفسي استغراباً من هذه المصادفة العجيبة التي يتلاقى بها كاتبو الرسائل وأصحاب المكالمات وأنا في موضوع واحد.. فهتفت بالعم أبو راصين قائلاً اطمئن.. فستقرأ قريباً عن حبمبا وفي سراها.. ولكن على شرط واحد هو أن تعتقني عتق الله رقبتك من تكرار الأخذ بالحضن.. والسلام العربة حقك دا.. فضحك وسلم علي مودعاً إياي من بعيد لبعيد بقوله.. في أمان الله. ولم نكد نتفارق حتى صقعته ردعاً له ولأمثاله ممن يسرفون في الأخذ بالحضن.. وفي الإغراق في السلام عربه.. وتشويك عباد الله بشعر الشارب.. والكرداشة.. أي الذقن.
بالآتي ـ قل لمن قابل الأحبة ـ يوماً
بعد طول الغياب بالأبواز..
سلمة بعد سلمة.. في عناق
كلحام بالنار بعد القاز..
يا حبيبي يا ابن الحلال بلاشي
من تفانين حبك الوخاز..
يعني ألاّ تضمني وسط حضن
عاصراً جثتي كعصر الكراز؟
نازلاً فيَّ للشفايف مصًّا
مثل مص الليمون.. بين اهتزاز..
مش كفايا.. تقول أهلاً وسهلاً
من التقاء الأحطضان بالأبزاز..
بين بوسا أو اثنتين.. يسيدي
زي نقر العصفور للأمواز..
رب كرداشة تُسبِّب وخزاً
فاق طظ الدبوس في أوخاز..
بطلوها!! أو أننا سوف نشكو..
أمركم.. للنقيب.. للهزاز!!
ومعذرة عن الإطالة والاستطراد وإلى سيرة الآنسة حبمبا..
.. وقبل أن نخش في الموضوع.. فأولاً أن اسم حبمبا.. ينطق بطريقتين أولاها.. حبمبه.. بالهاء الساكنة نيابة عن الأصل الأصيل لها وهو التاء المربوطة وثانيتهما.. حبمبا.. بالألف المقصورة وقد اخترنا الطريقة الثانية للتلذذ بالمط والإشباع في النطق به.. لغرامنا ولعشقنا لأسلوب المط في كل شيء.. وللناس فيما يعشقون مذاهب..
وثانياً.. فلقد صدق العم أبو راصين فيما رآه من ضرورة تسجيل وسرد سيرة الآنسة حبمبا.. فإنها بشهادة الجميع عاشت وماتت.. ولم تترك أية اسية لها في طول وعرض مدينة جدة.. بل لقد كانت رحمها الله لا تُرى إلا والابتسامة البلهاء مطبوعة على شفتيها دائماً.. كأنما هي.. أي الابتسامة البلهاء لزقة أميركانية. أو ختم باللك الأحمر فلا يمكن والحالة هذه أن يزيلها الحك الخفيف بما نسميه نحن في بلادنا بالمساحة.. بتشديد السين.. أي الأستيكه كما يسمونها أبناء النيل كما لا يمكن أن يمحوها كذلك الغسيل بالماء الدافئ ممزوجاً بالصابون النابلسي الأصلي..
ولقد كان أول تعارف بين حبمبا الآنسة وبين جده المدينة أي أهلها بأسلوب القرآن الكريم وأسأل القرية ـ أي أهلها.. حين تحدث الناس كلهم أو بعضهم عن فدائيتها الصامتة في معركة السباق الزمني بين السيارة المرسيدس وبين الطفل الذي انفلت من ذراع أبيه وكاد أن يصبح ضحية في معركة السباق الزمني الرهيب دون وجود مباراة أو ميدان سباق نتيجة السرعة المجنونة من جهة وإهمال أولياء الأمور من جهة أخرى. وهي المشكلة الثنائية التي يعاني منها رجال المرور حتى اليوم.
وخلاصة حديث المعركة التاريخية هذه كما ورد على لسان المتحدثين به في كل مجالس الجوكر والكيرم من قبل. والصن من بعد.. هي أنماط من روايات شتى مختلفة التفصيل مع اتفاق تام في الجوهر والمضمون هو ـ
في صباح يوم الأحد السابق لما قبله من اليوم السابع عشر من الشهر الجاري بسرعة وراء الشهر القادم بسرعة أيضاً من العام الهجري المنتهي برقم 43 بعد الألف والثلثمائة.. كان المدعو عيسى والشهير باسم.. أبو المحافيظ.. متجهاً مع محافيظه الذكور الخمسة إلى المدارس لإيداع كل.. طرد.. منهم في مدرسته الخاصة وقد بلغ الحرص بالعم عيسى الشهير بأبو المحافيظ وهو في طريقه للمدارس لإيداع محافيظه الخمسة بها أنه كان يسير ملاصقاً للجدار في الشارع العريض الطويل والذي لم يكتب له الحظ الحسن لدى البلدية فيسمهد أو يسفلت حتى تاريخه أعلاه وأدناه.. وقد حمل المذكور اثنين من المحافيظ على كتفيه وهما برهوم.. وسلامه.. وشبك يديه اليمنى واليسرى بالعزيزين عليه طاهر.. ويحيى.. وساق أمامه أكبر محافيظه وهو المسمى عبدو.. والمدلل باسم ابدو.. بالاقتصاد على إبدال العين بالألف المهموزة.. وظل الوالد المذكور العم عيسى يسير الهوينا كعادته اليومية مداعباً الأولاد.. متجنباً الانحراف يميناً أو شمالاً إلا عند اللزوم للانتقال.. وبعد التلفت الكافي الشافي بقدرة العزيز العليم من أي مكروه..
وفي لحظة.. لحظة حاسمة فعلاً في تاريخ العائلة العيسوية.. انفلت الولد أبدو.. من أمام أبيه ليلتقط بسرعة ما ظنه قرشاً ملقى في وسط الشارع.. ولم يكد يدنو من اللقطة غير الثمينة حتى أقبلت سيارة مرسيدس كانت تسير بأقصى ما تعطيه الطاقة للدركسيون مما حتم قواماً حدوث الوفاة السريعة حيث لم يستطع السائق إلا أن يضع قدمه على الفرامل بحركة عفوية أتوماتيكية.. وإلا أن يغمض في اللحظة ذاتها عينيه.. تماماً.. تماماً كما فعل والد الطفل المذهول والذي شلت المفاجأة حركته هو الآخر.. فتجمد على الرصيف.. كما تجمد السائق على مقعد القيادة.. ولكن!!
ولكن.. وما أعذب وأحلى وأجمل كلمة ((ولكن)) هذه في هذا الموضع الحساس من الشارع غير المسمهد أو المسفلت.. ولكن لدهشة السائق والوالد أنهما ما كادا يفتحان أعينها حتى رأيا بأم وأب وجد عيونهما الأربعة المحفوظ.. أبدو.. تحتضنه فتاة في الثلاثين ربيعاً تقريباً من عمرها.. وعلى شفتيها ابتسامة بلهاء كأنها لزقة أمريكانية الصنع.. أو ختم من اللك الأحمر.. وهي تمشي مشي العرايس غندرا.. متهجة نحو الوالد لتسليمه ولده أبدو.. أبدو الذي أصبح من صباح ذلك اليوم لا يعرف باسمه.. وإنما يعرف باسمه الجديد.. ولد حبمبا.. في أشهر الأقوال.. ولا عبرة ببعضها القائل في ضحك عابث.. ولد المجنونة!!
هذا ولم تستكمل الرواية الخاصة بإنقاذ الآنسة حبمبا للواد أبدو بقيتها. حيث تقول الرواية الأكثر شيوعاً أن سائق السيارة المرسيدس العائق الفائق على فرحته بنجاة الولد الذي كان موته محققاً مية في المية ـ قد سارع وفتح باب سيارته بسرعة جنونية أيضاً وذهب إلى حيث تقف الآنسة حبمبا وقدم لها بعد انحناءة تقليدية لا بأس بشكلها ورقة من ذات العشرة ريالات.. فما كان منها إلا أن زادت من ابتسامتها البلهاء.. وأعادتها إليه في صمت.. ودون انحناء. وذلك بعد أن فرصعت في وجهه وإن لم تمرص أذنيه فكأنها تقول له: ما هكذا يا واد تسرع؟ ألا ترى محاكاة للبيت الشعري في عجزه لا في صدره القائل:
أوردها سعد وسعد مشتمل
ما هكذا يا سعد تورد الإبل!
أما ما كان من أمر الأب عيسى أبو المحافيظ ووالد ابدو.. فإنه إزاء ما رآه من فدائية حبمبا التي رمت أو قذفت كالقنبلة بنفسها لتحول.. بأمر من الله.. بين الولد والسيارة مضحية بذاتها لم يسعه إزاء وإزاء تصرفها المهذب مع السائق إلا أن يبادر فيزقل محافيظه بعيداً عنه حيث ألقى بالمحفوظين برهوم وسلامه من فوق كتفيه فسقطا يتدحرجان بجوار الجدار المسامت للطرف الأيسر من الشارع في مكان وجودهما مع أبيهما وبالبقعة التي لا يمكن أن نطلق عليها كلمة رصيف لعدم سفلتة الشارع وتحديد مكان المشاة فيه.
كما أنه أي الأب عيسى أبو المحافيظ.. دفع بقوة وبسرعة كذلك بكل من المحفوظين طاهر ويحيى فسقطا على الأرض يتدحرجان هما الآخران بجانب أخيهما.. متقدماً هو بسرعة وفي ذهول المنوّم تنويماً مغناطيسياً إلى الآنسة حبمبا محاولاً تقبيل يدها ـ ورا وقدام ولكنه فوجئ هو الاخر بتشبيكها يديها على صدرها في براءة وردت في إغراء.. ملقية نظرة إلى الولد.. أبدو.. الذي ابتسم لها ثم تشربط بساق أبيه ناوياً الارتقاء إلى كتفه للفرجة من فوقه إلى منقذته ومن أصبحت والدته منذ ذلك الصباح.. وفي ثوان معدودات اختفت حبمبا عن نظر الجميع كأن الأرض انشقت وابتلعتها.
هذه الحادثة بالذات هي التي كانت السبب المباشر في لفت النظر وفي استفاقة شهرة الآنسة حبمبا أو المظمظيل على حد تعبير أبو راصين.. فسبحان واهب الشهرات لمن يستحقها بجدارة وبذكاء.. ولمن لا يستحقها إلا بمصادفة عابرة من بلاهة دعباء وعدم إدراك.
هذا.. ويؤكد الثقاة من سكان جنوب جده أن حبمبا ليست بالتأكيد وحسب شهادة كل من عمدة الثعالبة واليمن والمظلوم من مواليد جدة.. والشائع أن الألسنة وفي بطون الدوسيهات والملفات بدوائر الشرطة أن حبمبا وفدت وهي بنت مراهقة إلى مدينة جدة ذات مساء قادمة من جهة ((الخمرة)) تسعى على قدميها الحافيتين وكانت ترتدي فستاناً ـ أي كرتة رمادية اللون منبوشة الشعر.. تحمل على شفتيها تلك الابتسامة البلهاء التي اشتهرت بها طيلة حياتها كما تحمل بيدها اليمنى غصناً أخضر رمزاً على محبتها للسلام.. رغم أنه أثبت بالفحص الزراعي أن الغصن الأخضر هذا لم يكن غصن زيتون.. كما أنه لا توجد عليه آثار أو أثر زرق أية حمامة بيضاء ـ أو سوداء ولا كذلك أثر أية عضة تدل أنه حين انفصل عن شجرته حملته تلك الحمامة بمنقارها وطافت به داعية للمصالحة بله السلام ومعذرة لاستعمال لفظة ((بله)) بفتح الباء وسكون اللام وفتح الهاء وهي اسم فعل بمعنى دع وأنزل.. مثل دع التطويل ـ أو دع الاستطراد.. فقد وردت رغم إرادتنا لأننا كنا قد دعينا لمكالمة تلفونية أثناء الكتابة مع أحد المتقعرين الذين يؤاخذوننا على استعمال الكلمات البلدية الشعبية من كتاباتنا فأحببنا أن نرضيه باستعمال ((بله)) بدلاً من.. أخصر..
ونعود لحقيقة الغصن الأخضر الذي كان في يد الآنسة حبمبا حين وطئت قدماها أرض مدينة جدة لأول مرة.. فقد ثبت أنه من أصل شجرة ((نبق)) والنبق بكسر النون وسكون الباء أو فتحهما هو حمل شجرة السدر وعندما يزهو ويحلو يسمى ((حلوي)) بفتح الحاء واللام وكسر الواو.. وهذا التفصيل ضروري جداً.. وبالأخص للجيل الجديد الصغير السن والذي لم ير النبق من قبل.. ولا الحلوى الذي سماه البعض منهم حين رآه قبل أيام التفاح الصغير..
شاهدنا.. للحقيقة وللتاريخ.. أن الآنسة حبمبا لم تولد أصلاً بمدينة جدة وأنها قدمت من طريق الخمرة.. منكوشة الشعر حاملة ابتسامتها البلهاء على شفتيها.. حافية القدمين.. وتحمل في يدها اليمنى غصناً أخضر ثبت أنه من أصل شجرة نبق.. وكان دخولها من باب شريف.. وهو الباب الجنوبي لجده وقد شاهدها أول دخولها منه حشد من الناس معظمهم من الأولاد صغار السن وبعض الرجال الفضوليين مصطفين بطبيعتهم على جانبي الطريق بالمصادفة..
وهكذا تكون حبمبا بدخولها ذات مساء من بوابة باب شريف القديمة والتي كانت تشبه نوعاً ما ((التريومف)) أي قوس النصر في بارس.. تكون حبمبا قد دخلت بذلك.. وبحادثة السيارة فيما بعد.. التاريخ من أول أبوابه الجنوبية التي صادفتها.. فسبحان مسبب الأسباب.. وكما قيل إذا ظهر السبب بطل العجب!
شعبيات ـ بهية.
.. وحبمبا.. وتلك ميزتها الكبرى.. مشاءة عظيمة الشأن. لا بالنميمة فإنها لا تفتح فمها إطلاقاً إلا حين اللزوم.. بل بالمشي أي بالسعي على قدميها طيلة النهار وجزءاً كبيراً من الليل. فأنت لا تكاد تراها في الصباح متسللة مثلاً من خرابة القلل.. وهي الخرابة التي كانت مجاورة وملاصقة لبيت الزاهد القديم.. تفرك عينيها.. أو تقصع بعض القمل في رأسها بسرعة.. حتى تراها في الضحى متسكعة حول الحراج القديم وسوق المشتمل على كل شيء عتيق ومستغني عنه.. كأنما تجد حبمبا في هذه الخردوات والأنتيكات القديمة أشباهاً حجرية لها..
أما في الظهر.. وعقب خروج الناس من صلاتهم في مسجد الحنفي ـ أو من زاوية أبو سيفين. فإنك تراها حائمة هائمة على وجهها وقدميها في سوق الندا.. وتلك عادتها الدائمة ـ تتشمم رائحة الحلبة مع السمك أو بدونه ـ وتتطلع المسكينة إلى اللحوم في قرم واشتهاء زائدين مما لا يجد معهما البائعون بداً من تقديم بعض البواقي منه إليها. فتفترش الأرض حالاً لالتهامه في نشوة والتذاذ به.. ويرد بعض المفسرين لهذه الظاهرة ـ ظاهرة شغف حبمبا باللحوم إلى عقدة نفسية ذات صلة بماضيها البعيد.. يؤكد ذلك ما رواه كل من السيدين ((الأبي)) بكسر الألف وتشديد الباء المكسورة أيضاً.. وهو من أشهر أصحاب الدكاكين واسمه الكامل حسن منتش والأول صاحب دكان يبيع فيه كل شيء من السكر والشاهي إلى الأبراز والدبائر والكبريت ـ والثاني لا يبيع إلا الفحم في أكياس صغيرة.. أو أكوام.. عدا القرم الكبيرة المزوية على جنب.
على كل حال.. يؤكد كل من الأبي ومنتش أن حبمبا.. ولا شك.. من أصل يمني.. وإنهما باعتبارهما يمنيين أصلاً أدرى واقعاً بتفسير ظاهرة أو عقدة حبمبا الخاصة بشغفها الزائد الحد باللحوم.. ويضيفان أنهما من بعض الكلمات المتناثرة عفواً من فم حبمبا عرفا أنها كانت لها جدة ربتها ونشأتها على أكل اللحم والغرام به.
وبالمناسبة فإن هذا الجانب من سوق الندا لا يزال موجوداً ومحتفظاً بصفة عامة بطابعه القديم.. ولقد كنا أنا والأخوان عمر عبد ربه وعبد الحميد مطر من رواده ومن المواظبين على الجلوس به في دكان صديقنا رفيق العمر الشيخ محمد سعيد عتيبي الذي كان وثيق الصلة القديمة بكل من الأبي ومنتش..
كما وبالنسبة لحبمبا.. فإنك حتماً وابتداءً من بعد المغرب ولهزيع من الليل تراها في سوق العلوي تتجول غادية رائحة أمام دكاكين الصمدي وعم قاسم.. وحول مباسط يوسف أمير الفوال والمشكل الحاروي العتيد ـ والبغاشا المطبقاني ليلاً.. واللقيمات والزلابيا صباحاً.. وكلهم يرعون حبمبا ويجودون عليها بفضلات الزبائن من الآكلين لديهم ـ حيث تقيم أودها بتلك اللقيمات المتنوعة والخاطفة. منتظرة ابتداء العم الموصلي تلاوة سيرة عنتر في المقهى.. متحاشية ما أمكن معاكسات الأولاد النشامى الشبان من أمثال الفتاق ـ والصعيدي ـ وولد الشيخ عبد الصمد عمدة اليمن القديم محمود والد العمدة الحالي.. هذا وقد كانت من عادات حبمبا الثابتة. وبعد فراغها من التجول بالعلوي ـ وبالعيدروس كذلك تعود لتقضي وقتاً من الليل في دكة نصيف المجاورة لبيت نصيف التاريخي الحالي، والتي كانت في كل رمضان مصلى خاصاً للعشاء وللتراويح وكان والد كاتب هذه السطور الإمام الرمضاني في كل عام مضى.. وراح واللي راح راح يقلبي.. شكوتك لله!!
كما كان من عادات حبمبا.. وهي أميز وأسمى عاداتها.. كراهيتها المطلقة ونفورها من النقود كما يلاحذ ذلك طبعاً من رفضها لما قدمه لها سائق المرسيدس والذي كاد أن يودي بحياة الولد ـ أبدو.. فلقد أجمع الكل على أن حبمبا لا تعرف النقود.. أي أنها لا تعرف بالتالي قيمتها. فلم تمس كفاها طيلة حياتها الضائعة أية هلله أو أي قرش.. أو ريال.. ويقول خبيث معروف ومشهور بخفة دمه أن كلمة ((قرش)) كانت لحبمبا بمثابة البعبع.. وهذا الخبيث لا يعني بلفظة القرش هنا قطعة النقود المعروفة ـ وإنما يومئ دون إفصاح لقرش البحر ـ أو للقروش الآدميين الشبيهين به في القضم ـ وفي الابتلاع.
ومع أنه لا علينا من تعليق هذا الخبيث الظريف.. فإن من المتفق عليه أن حمبمبا معتبرة لذلك.. أي لكراهيتها للنقود ولنفورها منها ـ من الزاهدات بالفطرة في عرض الحياة الزائل.. مما سرب الاعتقاد فيها من الكثيرين.. ورأى فيها شيئاً لله ـ كما يقول بعض خواصها!! رغم تعريض وتقريق وتعليق العم أبو جنب على هذه النقطة بقوله مستهزئاً ((حبمبا فيها شيء لله؟ ها؟ والله أنكم بالبركه.. دي ما تحب الفلوس عشان مرة من المرات ـ والا أقول لكم.. أنا أشلي؟ يسيدي ربك سمي الستار..)) وهنا يصرخ أولئك في وجهه. أنْكِتِمْ حرام عليك.. دي أطهر وحده شفناها ـ وإن كنك رجال من جد وشارب من لبن أمك ـ قول!! فيرمقهم بنظرة ذات معاني ـ أقول؟ أقول لكم: بلاشي!!
.. أما بالنسبة لنسبة الجنون لدى الآنسة حبمبا.. فقد أجمع المؤرخون لتلك الحقبة من تاريخها في تاريخ جدة.. حين يتطرق البحث لمشاهير الشخصيات الشعبية.. أجمعوا على أن جنون الآنسة حبمبا إنما هو نوع من التفوق الذاتي الصامت ونتيجة للزهادة التامة في عروض هذه الدنيا الفانية.. والصفة الثانية ربما كانت موضع شك أو دراسة.. فكما أن تجرد المرء من كل عرض من أعراض الحياة الزائلة قد يؤدي إلى الوسواس أو الجنون فإن التكالب على الجمع وتكديس الأموال والعروض الدنيوية بأشكالها وبأنواعها وبأرقامها المخيفة المرعبة قد يؤدي كذلك إلى الوساوس والهجرسة والهلوسة.. وكلها طرقات أو طريق يؤدي إلى أيضاً إلى الجنون المطبق أو الجنان الخفيف المتعارف على تسميته باللطف.. تلطفاً لمعناه البعيد.. وتحقيقاً للمثل العالمي القائل كل الطرق تؤدي إلى روما.. روما حقت ((الاستنقلينا))!!
وعلى كلام حبمبا وصاحبنا إياه.. أي نعم.. لقد كانت حبمبا في جنونها الرايق إنما تمثل ما ذكر سابقاً.. فهي في كل حركاتها وسكناتها.. وتجوالها وتصرفاتها تشعر الناظر إليها.. أو المتتبع لخطاها ولسيرتها أنها منفصلة انفصالاً تاماً ومادياً عن عالم الأحياء.. والعقلاء.. كما يلاحظ الكل في نفس الوقت أنها كانت مثالاً صادقاً على البلاهة المتناهية.. وعلى السذاجة التي لا حد لها.. وعلى المسالمة المطلقة وتلك أبرز صفاتها المميزة.. إذ إنها لم تمد يدها قط إلى حجر من الحجارة الملقاة في الأزقة والشوارع بجدة وما أكثرها في تلك الأيام.. أيام الجراويل ـ لتقذف بها من يعاكسها.. أو من يطاردها بالصراخ بالتشنيع عليها من الصبية والغلمان.. والبزورة الذين لم يربيهم أولياء أمورهم التربية الحديثة المنصوص عليها في كتب التربية غير البدنية.. وبالأخص في الكتاب المشهور لمؤلفه الأمريكي المستر بالوهي ((كيف تعامل المجانين والبلهاء؟)).
ويزيد الكثيرون من معارف ودارسي حياة حبمبا.. على هواهم.. فيؤكدون أنها كانت تزيد في ابتسامتها البلهاء كلما زادها الأولاد إيذاء.. وشتيمة وصراخاً يصم الأسماع.. بصورة تنقل للذهن.. ومن غير تشبيه بالقول القائل: من ضربك على خدك الأيمن.. فأدر له خدك الأيسر.. وظهور طرف من أعراضها على هذه الآنسة العربية إقليمياً.. والمسلمة جغرافياً واعتباراً وسلوكاً ينم عن ذلك.
تلك هي الآنسة حمببا من الناحية السلوكية والنفسية.. أما فيما يختص بهيئتها وبتكوينها الجسدي.. فقد كانت حبمبا متوسطة القامة تميل إلى البدانة.. ذات قدمين مفلطحتين.. متشققتين نتيجة المشي الدائم حافية عليهما.. وفوق الأحجار والتراب الناشف.. كما كان وجهها أملس الملمس خالياً من أية علامة بارزة.. أو فارقة ولقد كان وظل وأصبح.. وما أمسى.. مكياجها الوحيد هو جمعها لشعر رأسها ورفعه إلى أعلى ثم ربطه بعد ذلك بدوبارة غليظة يرجح أنها كانت منسولة من عدلة دقيق رمي بها من قام من ((الحبابة)) بفتح العدلة جانباً فالتقطتها حبمبا في غفلة من العيون.. كما انحصرت زينتها النسائية.. كأنثى.. في فردة ((خرص)) أزرق تضعه في أذنها اليسرى.. وفردة خلخال.. دون قلاقل.. ملتصق في خنقة قدمها اليمنى.. آخر الساق.
وبعد.. فتلكم هي الآنسة.. أو المظمظيل حبمبا على حد تسمية العم أبو راصين لها.. وذلكم هو مجموع شكلها المكلبظ تقريباً.. وحيثيتها العامة التي لا تدل على مفهوم خاص لها في الغالب.. أما سبب شيوع اسمها ((حبمبا)) على الألسنة وإطلاقه حتى يومنا هذا.. وما بعده.. إن شاء الله.. على كل من يبلغ به البله والعبط حداً بعيداً.. فإنه يعود إلى تصرفاتها الساذجة الغبية العبيطة البلهاء.
إنها باختصار تمثل تمثيلاً دقيقاً ورائعاً المثل الشعبي القائل ((لا ينطح.. لا يقول انباع..)) وعليه.. فإذا سمعت من يقول لك.. أو لعدوك.. أما أنك حبمبا صحيح!! أو روح يواد. أنت ((حبمبا)) أنت!! فاعلم يا رعاك الله إنما يعني هذا من هذا ما سبق شرحه!!
وأخيراً.. فقد اكتشف عمدة اليمن بعد وفاة المرحومة الآنسة حبمبا بخرابة القلل وفي عتمة الليل وعقب فضلات أكلة تسممت بها.. أن العم أبو راصين السابق ذكره كان يحمل بين صدره العريض.. وفي عينيه الطويلتين الزائغتين عاطفة صامتة من ماركة ((عينك دكها.. ويدك لا تمدها)) للآنسة حبمبا.. وقد ضبطه العسس في إحدى الليالي.. وبالتحديد بعد الأربعين من موت فقيدة البلاهة ـ والمسالمة.. والجنان الرايق.. وهو يترنم بالأبيات التالية:
حبمبا.. كيفما قالوا.. وعادوا
عليك.. فأنت وسط القلب.. جمره!
وأنت على لساني.. كل يوم
إذا ما جاء ذكر العشق.. تمره!
كذلك: أنت في صدري تمللي
برغم الضيق.. وسط الصدر.. صُرُّّه
أخاف أفكها يوماً.. فأجلو
بها عن حبي المصرور.. سِرَّه!!
فكم في الصبح.. بعد العصر برضو
بجنح الليل.. في يومي.. وبُكْرَه!
تمنى قلبي الدقداق.. إني
أنا ((أبدو)) الذي جاكي بشُهْرُه!!
فهل تتذكرين لنا لَحوحاً
رَمَيْتُ بِهِ إليكي.. ذات مَرَّة؟
فقلتي. أَاَنتَ تشيتني خميرا!
أجبت، لحوحنا: عَطفٌ ونَظْرَه!!
وقد جاءت وَفَاتُكِ.. دونَ عِلمي
فإني كنت معزوماً.. يسَمْرَه!!
فسامَحَكِ الإلهُ.. فأنتِ فِعلاً
جعلتيني: أَعيشُ.. على مُغُرَّه!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1552  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 53 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.