شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
القصة والجو الأوروبي (1)
القصة ذات شكل وجوهر، فأما الشكل فهو ذو طريقتين: إحداهما طريقة الحوار، والأخرى طريقة السرد والتحليل، ولا يمكن أن نقارن بين الطريقتين، وأيهما أفضل، فإن الأصل في اختيار إحداهما دون الأخرى يرجع إلى ملكة الكاتب، ونوع الاتجاه الذي يحدده ويراه أجلى وأرصن وأدق في تحليل العواطف والغرائز وتصوير الشخوص والسمات، ولا نعني هنا أن الحوار ينتفي فيه التحليل أو يقل، فرب عبارة عارضة في الحوار أو وصف عاجل أو كلمة سريعة تقوم مقام صفحات طويلة في تصوير الشخصية أو جلاء غامضها أو تبيان وجه المفارقة فيها!
وقد تقرأ صفحات كثيرة في التحليل، فلا تنكشف الشخصية عن شيء ذي بال، وكأنما تسدل بينك وبينها حجباً صفيقة، فملكة الكاتب هنا تتجلى بوضوح وتتركز في هذه الظلال البسيطة التي يرسلها لوناً بعد لون، وشية بعد شية، فإذا أنت تبصر أمامك شخصاً حياً وملامح ناطقة ونفساً يكاد يلفحك بحرارته.
وأما الجوهر في القصة، فلا يكاد يبين إلاّ في هذه الفكر المتناثرة، والآراء المختلفة، وفي هذه السمات التي تتكوّن من مجموعها تلك الناحية التي استهدفها الكاتب ليجلوها أتم الجلاء، ويصورها أبرع التصوير.
قد تكون هذه الناحية، جلاء لجانب مبهم من شخصية تاريخية، أو إنارة لزاوية خفية من زوايا التاريخ في عصر من عصوره المشرقة أو المظلمة، أو الكشف عن معرة خلقية، أو الإشارة إلى سريرة نفسية من سرائر الإنسان، تحتجب دائماً في أعماقه، أو الإِفاضة في وصف شهوة من شهوات البشر المركبة تلوح في الفترة بعد الفترة، ولا تكاد تستبين، وقد يراد بها رفع المستوى الخلقي أو الاقتصادي أو الاجتماعي في قوم يغالطون أنفسهم حتى في انحطاطهم الذي لا شك فيه، إلى آخر ما يستهدفه الكاتب البارع في قصصه بين طوال وقصار.
وأنا امرؤ لا يعنيني الهدف المحدود الضيق في القصة، فقد يتعذر الهدف، أو لا يكون ضرورياً، وإنما الضروري جداً أن يكون التصوير تاماً أبلغ التمام، بحيث يكون الشيء المراد تصويره واضح المعارف جلي التقاطيع، قائماً بذاته كالجوهر الذي تخلى عن العرض وأصبح كالجرم [ذي] (2) حيز وطول وعرض وسمك يستغرقه الزمان، ويستوعبه المكان.
وبعد! فما شأن القصة عندنا وكيف يمكن أن تكون كالقصة الأوروبية قد بلغت أزهى مراحلها وأعلى ذراها.
إن هذا لن يكون إلاّ في البعيد البعيد من الزمان، وأخشى أن أرجح استحالة حدوث ذلك أيضاً!
ذلك لأن القصة الأوروبية وليدة الجو الأوروبي والوسط الأوروبي، وخذ أي قصة مترجمة، إذا كنت مثلي لا تعرف لغة أوروبية، فإنك تجدها منطبعة بالطابع الأوروبي العتيد، وكيف يمكن أن تخلو من أهم صفاتها وملابساتها؟
السكك الحديد، والترام والطرق المرصوفة، والكهرباء، والملاهي والمتاحف، والجامعات، والفساتين، والبلاجات، والسفور، والحدائق، والغرام، والبوليس السري، والأغاني، والقساوسة والكنائس، والحرية التي لا تحد بعرف ولا تقيد بقانون، والبنوك، والصحافة، وكل ما ارتفعت إليه المدنية الأوروبية من محاسن، وما تدهورت فيه من مساوئ! وغير ذلك مما يحققه الوسط الأوروبي بلا عناء ويجري فيه مجرى العادة المألوفة، ولن تجد قصة أوروبية -وإن كانت بوليسية سخيفة- إلاّ وهي قائمة على هذه الدعائم، مستندة إلى هذه الأسس!
تلك هي القصة الأوروبية بخيرها وشرها ورفيعها ووضيعها، فأين نحن من ذلك؟
أنلغي جونا القائم الدائم إلغاء تاماً ونلجأ إلى جو أوروبي مصطنع مزيف؟ إن ذلك يكون سخفاً لا يطاق.
وأذكر أني تحدثت مرة مع صديقي الأستاذ حمزة شحاته بجدة فانتهينا إلى أنه لا يمكن أن نرتفع بمستوى قصتنا -مهما فعلنا- إلى مستوى القصة الأوروبية، ومع ذلك فخير ما يستأهل أن نتذرع به ونلجأ إليه، هو تلك الأفكار والآراء التي ورثناها أو التي اكتسبناها بالتعليم أو بالتجارب، فنلقنها أبطال قصصنا، وننثرها في مناسباتها، فإن الأفكار، والنظرات، واتجاه التفكير نفسه يكاد يكون واحداً في هذا العصر على اختلاف الشعوب والأقاليم، والعالم صائر إلى إدارة موحدة وغاية مشتركة مهما طال به المدى!
وأنا لا أعني أن أكون قصاصاً، وإن كنت أفعل أحياناً، إذا وجدت أن أسلوب القصة أدنى إلى تصوير اللمحة التي أنشدها من أسلوب المقالة (3) .
وأحسب أن الكاتب إذا كان يهضم معارف عصره هضماً صحيحاً بقدر ما يمكن، يستطيع وإن كان في نجران أن يضع قصة جيدة، يبث فيها آراءه، ويصطنع فيها تصوير شخوصه كما يريد، ويسبغ عليها الجو القصصي الشيق، ولكنها مع ذلك لن تكون كالقصص الأوروبي بحال من الأحوال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :533  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 85 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.