شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تعريف الأدب (1)
لم يوضع للأدب تعريف صحيح يشير إلى غايته أو يعبر عن مهمته، وإن كانت قد وضعت له مئات التعاريف، ولكنها كلها ناقصة قاصرة عن أداء المعنى الصادق المحدود الذي إذا استطعت أن تفهمه فقد فهمت الأدب حقاً. فهذه التعاريف على كثرتها وبلاغتها لا تدل إلاّ على مبلغ فهم أصحابها للأدب ووجهة نظرهم إليه، فالعالم يرى الأدب علماً، والفنان يراه فناً، والفاضل يضع فم الأدب في ثدي الأخلاق، ويقسره على الامتصاص منه.
والأدب غايته الجمال أو الخير أو الحق، أو وظيفته إصلاح المجتمع، وكتَّاب العرب الأقدمون يقولون: إنه كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال أحد علمائهم: إذا أردت أن تكون عالماً فتخصص في شعبة، وإذا أردت أن تكون أديباً فألم من كل شيء بطرف. وأدباء الغرب يختلفون فيه أيضاً كما نختلف فيه، ومما قالوا فيه أو كادوا يجمعون عليه: إنه مجموع القواعد المتعلقة بآثار الفكر.
وعبد القدوس لا يختار من هذه التعاريف إلاّ أبعدها عن الصواب وأدلها على الجهل وأقصرها في النظر ويسميه إلى هذا بأنه الجامع المانع (2) ، وهو تعريف قديم أطلقه على علاته ابن قتيبة وأبو هلال العسكري والجاحظ وغيرهم من مؤرخي الأدب العربي القديم، فمشى فوق رؤوس الحقب -على حد تعبير مهيار الديلمي (3) - حتى وصل إلينا، ولكن نهضة الأدب العربي الحديثة، وما تقتضي به الحياة الحاضرة من تطور وتجديد وأخذ بأسباب التقدم والارتقاء، دفنت هذا التعريف العتيق في رمس مظلم متهدم، وغدا الأدب حراً طليقاً من كل قيد أو تعريف، فليس للأدب في عمومه غاية، بل الأديب هو الذي يخلق الغاية لنفسه، ويجعلها نصب عينيه في ما ينظم وينثر، وكل أديب يسخر أدبه لنفسه، ويقارب بين أدبه وبين مبدئه الشخصي، ويمهد له سبيلاً جديداً بين سبل شتى في مسالكها وغاياتها؛ فأبو نواس وأبو العتاهية -مثلاً- كانا في عظام أدباء العصر العباسي الأول البارزين، بيد أنهما كانا يدعوان إلى غايتين جد متناقضتين: الأول كان يدعو إلى اللذائذ ويحض عليها، والثاني كان يتمسك بالزهد ويدعو إليه.
وهذا التعريف الذي نبشه عبد القدوس من قبره رمة بالية محاولاً أن ينفخ فيها روح الحياة بعد فوات الأوان لا أدري والله كيف لا زال يتشبث به ويصر عليه ويعض عليه بناجذيه، وقد رأى القرّاء رده في "صوت الحجاز" فرأوا فيه كيف يستطيع الإنسان أن يكثر من الكلام ويطيل في الأخذ والرد دون أن يضع شيئاً جديداً أو يأتي بشيء مفيد.
فليعلم من يسمى عبد القدوس بعد القيام بواجب التحية والاحترام له، أن جميع الأقوال التي سردها في رده لا تقوم كلها مقام دليل واحد على بلاغة هذا التعريف وصحة الأخذ به وبناء الأدب على أساسه، فأما كلام الأستاذ ابن الإسكندري والعناني في كتابهما "الوسيط" فهذا كتاب ألف لطلاب المدارس فهما يسردان فيه كل ما قيل في الأدب من مأخوذ ومنبوذ حرصاً على الأمانة في النقل والعرض، وأما ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية فقد تكلم مؤلفوها في ما تعنيه لفظة "أدب" لغوياً ونحن لا نجهل هذا ولا القرّاء أيضاً يجهلونه حتى يكد عبد القدوس ذهنه وينقل إلينا معنى كلمة "أدب" لغة واصطلاحاً، والأولى به والأهون عليه أن يبحث عن هذا المعنى القريب فيجده بلا نصب في المنجد أو المعتمد أو القاموس أو أقرب الموارد من كتب اللغة الكثيرة، ولكنك أيها القارئ اللبيب ستجد في الشطر الثاني من كلام دائرة المعارف الإسلامية ما يضيع كل ما قاله عبد القدوس في الهواء ويهدم برهانه من الأساس، فاقرأ: "وهو بمعناه المجازي يدل على جملة المعارف التي تسمو بالذهن إلخ إلخ".
فأما كلام الزيات وسيد نوفل فهما متقاربان بما لا نشك فيه ولم نتعرض له فنحن على اعتقاد جازم بأن الأديب الذي يجمع إلى أدب المعارف أدب النفس هو لا ريب أفضل وأنفع لأمته ونفسه ووطنه ممن يكتفي بالأدب الأول وحده، وليس في هذا أي جدال أو مكابرة، وهذا النقد منشور في جريدة المدينة المنورة فهل قلنا فيه: إن الأديب في معارفه وثقافته خير ممن يتحلى مع هذا بمحاسن الأخلاق، كلا، ولكن عبد القدوس لا يجد سبيلاً في رده إلاّ سبيل المراوغة والمغالطة فيذهب فيه ملتوياً من هنا ومضللاً من هناك حتى يبدو في أوهام الناس أنه أجاب وأقنع، وما كان في يوم من الأيام بالمجيب المقنع...!
وإذا كان الأستاذ الطنطاوي قد صرح بسخافة كتيبه، فليس معنى هذا أنه تنازل عن جميع ما ورد فيه من الحقائق الملموسة والآراء البديهية، ولكن أسلوبه في التأليف وطريقته في تناول الموضوع أو غير ذلك مما حدا به إلى إعلان حقارة كتيبه، هو السبب الوحيد الذي دفع به إلى الخروج من مأزق النقد الحر بهذه الوسيلة العالية، فهل ترى لو يتناول أحد النقاد عندنا رواية "التوأمان" بما تستحقه من الغربلة والتحليل ويبوئها مكانتها الصحيحة في الأغوار السحيقة حيث لا يسمع لها صدى ولا ترتفع لها نأمة هل تنمحي الأنانية وحب الظهور من الأستاذ عبد القدوس فيقرر في صراحة أنها أهل لذلك كله كما فعل الأستاذ الطنطاوي بكتيبه الحقير؟ ولقد ضرب الطنطاوي مثلاً سامياً يتعذر على عبد القدوس ومن هو على شاكلته سلوكه وتطبيقه والاقتداء به فيه.
فلقد أصبحت أنا في وادٍ، وأصبح عبد القدوس في وادٍ آخر، فخلاصة اعتراضي عليه هو أنه لا يجوز تقييد الأدب على إطلاقه وحصر معناه وتحديد غايته في تلك الجملة المذالة التي جعلها كتعريف عام تنطوي فيه كل معاني الأدب على ما فيها من تلاق وافتراق وشمول وقصور، فنقدي لعبد القدوس لم يكن رأس الموضوع ولا المهم فيه ولا الغاية منه، ولكنه استطراد أفضى إليه تسلسل الموضوع في أدب السندوتش الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، والذي خير من وجوده عدمه، والذي نرجو أشد الرجاء وأخلصه أن لا يكون الشيخ عبد القدوس من دعاته وحاملي لوائه والنافخين في بوقه.
بقي بعد هذا "عدم الغوص إلى أعماق الأدب الحديث اكتفاء بما يعلو سطحه ويترامى فوق شواطئه من الغثاء"، ويبقى أيضاً "القنفذ وأشواكه"، و "الضعفاء والأدب الرخيص" (4) ؛ وذلك كله ما نستطيع بفضل الله وتوفيقه أن نمر به مر الكرام غير ملتفتين إليه، أو حافلين به، أو معيرينه أدنى اهتمام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :532  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 84 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج